مشاحنات إيطاليا وفرنسا: أكثر من زعل وأقل من طلاق

مشاحنات إيطاليا وفرنسا: أكثر من زعل وأقل من طلاق

23 يناير 2019
سالفيني: فرنسا لا ترغب باستقرار الوضع بليبيا (Getty)
+ الخط -

التوترات بين باريس وروما ليست حديثة، وبالتالي فهي غير مرتبطة فقط بصعود التحالف اليميني إلى السلطة في إيطاليا في يونيو/ حزيران الماضي، ولكن تم احتواؤها سابقاً في إطار معقول من اللباقة الدبلوماسية. لكن منذ وصول التحالف الجديد، الذي يجمع بين حزب "الرابطة" اليميني المتطرف وحركة "خمس نجوم" المعادية للنظام، إلى السلطة، بدأت الصراعات تخرج إلى العلن، وبشكل لا يخلو من عنف لفظي، غير مسبوق، من طرف الساسة الإيطاليين.

وتتهم السلطات الإيطالية نظيرتها الفرنسية بالتسلل، عدة مرات، داخل الأراضي الإيطالية وإعادة الكثير من المهاجرين إلى إيطاليا، بذريعة احترام معاهدة دبلن، دون إعارة انتباه للتضحيات الإيطالية في هذا الصدد، باعتبارها تشكل مع اليونان بوابَّتين يتسلل منهما مئات الآلاف من المهاجرين. وفي لغة غير دبلوماسية، صرح وزير الداخلية الإيطالي ونائب رئيس الحكومة ماتيو سالفيني، بأنه "لن ينسى ولن يصفح" عن هذه التصرفات، معتبراً إياها "هجوماً لا سابق له" على بلاده. وقال "نحن إزاء فضيحة دولية. والسيد (الرئيس الفرنسي إيمانويل) ماكرون لا يمكن أن يتعامل وكأن شيئاً لم يحدث. ولن نقبل الاعتذارات". وقبل هذه التصريحات الغاضبة، كان قد اعتبر أنه "من الخطأ استخدام إيطاليا كمعسكر للاجئين في أوروبا، من خلال انتهاك القوانين والحدود والاتفاقيات".

وعاد التوتر، مرة أخرى، من بوابتي التاريخ وأفريقيا. وهو ما أطلق شرارته نائب رئيس الحكومة الإيطالية، القائد في حركة "خمس نجوم"، لويجي دي مايو، حين أكد، دون مواربة، أن "فرنسا تُفقر القارة الأفريقية، مع مفاقمة أزمة الهجرة". وانتقد موقف فرنسا من قضية الهجرة، مطالباً الاتحاد الأوروبي بمعاقبة بعض دوله، ومن بينها فرنسا، باعتبارها هي التي ساهَمَت في هذه الأزمة، وفي العديد من الضحايا الذين قضوا في البحر الأبيض المتوسط. وقال، بصراحة غير معهودة: "إذا كان ثمة أناس يهاجرون، فلأن ثمة بلدان أوروبية، منها فرنسا، لم تتوقف عن استعمار عشرات البلدان الأفريقية". واسترسل الزعيم الإيطالي في انتقاد فرنسا، مذكّراً بأنها تستخدم مستعمراتها السابقة من أجل تمويل دينها الداخلي. وفي لمحة ساخرة، لا يعرف سرّها سوى الإيطاليين، زعم دي مايو أن "فرنسا، من دون هذه المساعدات التي تأتيها من الدول الأفريقية، كانت ستنزل إلى المرتبة الاقتصادية الخامسة عشرة على الصعيد العالمي".

وقد أثارت هذه التصريحات غضب السلطات الفرنسية التي استدعت السفيرة الإيطالية في باريس، تيريزا كاستالدو، طلباً لتقديم تفسيرات. والمثير للانتباه أن العلاقات الإيطالية الفرنسية تزداد توتراً، وأصبحت الهوة سحيقة بعد وصول ماتيو سالفيني وإيمانويل ماكرون للسلطة. ولم يقتصر التوتر بين البلدين على قضايا الهجرة، بل وتعداه أيضاً إلى دعم معلن وغير مسبوق من ماتيو سالفيني ولويجي دي مايو لحركة "السترات الصفراء" الفرنسية، التي هزّت أركان حكم ماكرون ولا تزال. وفي إطار تحيته للمتظاهرين الفرنسيين، كتب دي مايو "السترات الصفراء، لا تَهِنُوا". وذهبت الحماسة بسالفيني إلى اتهام ماكرون بأنه "يحكم ضد شعبه". وقال "أدْعَم المواطنين الشرفاء الذين يحتجون ضد رئيس يحكم ضد شعبه"، مُبدياً أمله في رؤيته يرحل عن الحكم. وأثار هذا الأمر غضب السلطات الفرنسية، التي رأت فيه تدخلاً أجنبياً في شؤون داخلية. وطالبت وزيرة الشؤون الأوروبية الفرنسية، ناتالي لْوَازو، الحكومة الإيطالية باحترام الشؤون الفرنسية "لأنّ الاهتمام بالسترات الصفراء، من أي زاوية كانت، لا علاقة له برفاهية الشعب الإيطالي". وأعادت إلى الأذهان حرص الإيطاليين على احترام طريقة الحكم في بلدهم، وهو ما يعتبر من حقوقهم، لكنها اعتبرت أن هذا الاحترام هو من حق أي بلد، خصوصاً حين "نكون جيراناً وحلفاء وأصدقاء".


ليبيا على الخط

ولا تنقص مواضيع الاختلاف والتنافس بين إيطاليا وفرنسا، ومن بينها الوضع في ليبيا، مستعمرة إيطاليا السابقة، والبلد النفطي بامتياز. ولهذا فإن أي انخراط فرنسي لحل الأزمة لا يمكن أن تنظر إليه الجارة الإيطالية بعين الرضا. واعتبر سالفيني، أمس الثلاثاء، أن فرنسا لا ترغب في تهدئة الأوضاع في ليبيا بسبب مصالحها في قطاع الطاقة. وقال سالفيني، للقناة التلفزيونية الخامسة: "في ليبيا، فرنسا لا ترغب في استقرار الوضع، ربما بسبب تضارب مصالحها النفطية مع مصالح إيطاليا". وثمة كثيرون يتحدثون عن حرب سرية بين البلدين في هذا الملف، وهو ما يفسره تسابق فرنسا وإيطاليا على تنظيم اجتماعات حول ليبيا، كان آخرها في مدينة باليرمو الإيطالية، بعد نجاح ماكرون في جمع الخصمين اللدودين، رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج، وقائد قوات برلمان طبرق اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في سيل سان كلود، في يوليو/ تموز العام 2017. ولم ينس الإيطاليون تغييبهم من قبل الفرنسيين عن هذا اللقاء، علماً أن الإيطاليين استثمروا في ليبيا، وعقدوا صفقات مالية مع حكومة طرابلس ومع زعماء قبائل، في إطار سياسة محاربة الهجرة السرية وشبكات التهريب.

وأعاد ماكرون الكرة فنظّم في مايو/ أيار 2018 اجتماعاً، بحضور الخصمين الليبيين، و19 بلداً إضافة إلى الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، مع توجيه الدعوة إلى إيطاليا. وتم الإعلان عن تنظيم الانتخابات قبل نهاية 2018، لكن لا شيء حدث، كما أن اللقاء لم يَخل من اتهامات غير معلنة لفرنسا بمحاباة حفتر والأمل في رؤيته يحكم ليبيا. وأمام فشل الفرنسيين في دفع الليبيين لتطبيق نتائج اللقاء، تناضل إيطاليا والاتحاد الأفريقي من أجل مؤتمر للمصالحة بين الأطراف الليبية، قبل إجراء أي استفتاء حول الدستور، الذي سيحدد صلاحيات الرئيس المقبل. إذن أمام فشل المبادرة الفرنسية فقد قرر الحكم الجديد اليميني أن يتحرك. وليس خافياً على أحد التنافس بين ماكرون وسالفيني، الذي يصرح، في مناسبات عديدة، بأنه لا يتلقى الدروس من أحد. ويمكن تذكر السجال الإيطالي ــ الفرنسي الذي تسببت به سفينة "أكواريوس" الإغاثية. وهنا يجب التذكير بالدعم اللفظي على الأقل الذي حَظِيَ به حليفه، رئيس الحكومة الإيطالية جوزيبي كونتي، من طرف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أثناء لقاء جمع بينهما، بسبب سياسته بخصوص الهجرة، وتضمّن دعماً أميركياً للمبادرات الإيطالية في ليبيا. كما نجح الطاقم السياسي الإيطالي في كسب الدعم الروسي في الملف الليبي، مع استمرار توتر العلاقات الفرنسية الروسية. كل هذا ساعد كونتي وسالفيني على تنظيم لقاء باليرمو، الذي رعته الأمم المتحدة، بحضور 38 وفداً، بما فيها وزير الخارجية الفرنسي.


وكم كانت مثيرة للدهشة دعوة رئيس الحكومة الليبية لإيطاليا وفرنسا لتوحيد مواقفهما، وردم كل الاختلافات بينهما، من أجل الوصول إلى حل الأزمة الليبية المستدامة. وهي اختلافات لا يمكن بسهولة أن تغيب، وخصوصاً أن ماكرون في مواقفه الأوروبية لا يفتح فمه إلا لإغاظة الإيطاليين، أو هكذا يقرأ اليمين الإيطالي خطاباته. وفي هذه الأثناء يواصل ماكرون صمته، محتمياً بعلاقات طيبة تربطه بكونتي، تؤيده تصريحات الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، المحدود الصلاحيات، المشددة على أهمية العلاقات بين البلدين. أما العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فلا تعرف الفتور (200 مليون يورو يومياً)، وهي ما يبشر بتطبيع سريع للعلاقات بين الجارَين، أي أن ما تفسده السياسة يصلحه الاقتصاد.

المساهمون