الانتخابات الإسرائيلية (4): هل ينقلب سلاح السايبر على صانعه؟

الانتخابات الإسرائيلية (4): هل ينقلب سلاح السايبر على صانعه؟

18 يناير 2019
نتنياهو يركّز على حرب السايبر (جاك غويز/فرانس برس)
+ الخط -
لم تعرف إسرائيل رئيس حكومة، هلّل لقواتها السيبرانية وتطوّر الحرب السيبرانية لصالح الأمن الإسرائيلي الداخلي والخارجي، ولفتح الأبواب المغلقة (لا سيما في الخليج العربي وأنظمة التطبيع) مثل رئيس حكومتها الحالي، بنيامين نتنياهو، الذي لا يترك فرصة أو مناسبة إلا ويذكر بالتطور التكنولوجي الإسرائيلي، لا سيما في مجال السايبر والذكاء الاصطناعي، كعامل ومورد قوة لإسرائيل وأمنها ومكانتها الإقليمية والدولية.

ومثلما انتشرت تقارير مختلفة عالمية ومحلية في إسرائيل عن قدرات الاختراق الإسرائيلي "لدول العدو"، وصولاً إلى اختراق المشروع النووي الإيراني، وزرع فايروسات عطّلت المشروع الإيراني أكثر من مرة، تجد إسرائيل نفسها في أوج المعركة الانتخابية الحالية، أمام خطر انقلاب السحر على الساحر. ففي خطوة غير مألوفة، جاهر رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي، نداف أرغمان، في محاضرة أمام مجموعة صغيرة من الحضور في جامعة تل أبيب مطلع الأسبوع الحالي، بمخاوف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من تدخل دولة أجنبية، يستشف من تقارير مختلفة أنه أشار إلى روسيا صراحة، في العملية الانتخابية في إسرائيل، وذلك عبر سعي هذه الدولة لاختراق بيانات الناخبين في إسرائيل، والتلاعب بها، واستغلال الشبكات الاجتماعية للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي لصالح مرشح دون غيره، بما يخدم المصالح الروسية. يشبه الأمر ما حدث في الولايات المتحدة، عندما تبيّن أن روسيا تدخلت في المعركة الانتخابية عبر جيش من السايبر و"الذباب الإلكتروني"، لضخّ معلومات زائفة وملفقة، وكشف تفاصيل شخصية محرجة للمرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، وتوجيه الرأي العام الأميركي عبر طرق شتى من التأثير على الوعي العام، للنفور من كلينتون وتفضيل الرئيس الحالي دونالد ترامب، وسط تأجيج مشاعر الخوف الممزوجة بالكراهية والعنصرية للأقليات والمهاجرين واللاجئين.

لكن تحذيرات رئيس الشاباك التي تلقفتها وسائل الإعلام الإسرائيلية على خطورتها، من وجهة النظر الإسرائيلية العامة، لم تكن الأولى في هذا السياق، وليست هي من تقلق شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي، بقدر القلق من حرب سايبر داخلية ومن جيوش الذباب الإلكتروني الإسرائيلية بالذات. فقد سبق لرئيس أركان جيش الاحتلال، السابق، غادي أيزنكوت أن حذّر منذ يوليو/تموز 2017 (مع بدء التحقيقات في الولايات المتحدة في شبهات التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016) أعضاء لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست من مخاطر تدخل دول أجنبية في الانتخابات الإسرائيلية واختراقها لمجمع البيانات الشخصية للناخبين، وحتى اختراق مقار الأحزاب المختلفة. ودعا هيئة مكافحة حرب السايبر الإسرائيلية لآخذ جوانب الحذر. كما سبق لرئيس الموساد السابق، تامير باردو أن كرر نفس التحذير في ديسمبر/كانون الأول الماضي.



والحديث حالياً في إسرائيل ليس عن تدخل في عمليات الاقتراع أو عمليات الفرز وإعلان النتائج (لأن عمليتي الاقتراع وفرز الأصوات تتم في إسرائيل لغاية الآن، بصورة يدوية في كل مركز اقتراع، ثم يتم جمع النتائج لاحقاً لتعلن رسمياً بعد 48 ساعة عادة، وهو ما يفسر سبب تحديد إجراء الانتخابات في إسرائيل يوم الثلاثاء، كي يتمّ الانتهاء من كل شيء قبل عطلة يوم السبت)، بل أن الحديث هو عن عمليات التزوير والتلفيق الإلكترونية لمعلومات ورسائل مضللة عبر الشبكات الاجتماعية وشبكات الإنترنت المختلفة، بما يؤثر على الوعي العام ويخلق اتجاهاً غالبا لدى الرأي العام الإسرائيلي لتفضيل مرشح على غيره. مع العلم بأن ما يجري تداوله في تجارب مماثلة كما في حالة بريطانيا في مسألة بريكست (الخروج من الاتحاد الأوروبي) والانتخابات الفرنسية، أو الأميركية وغيرها من حالات مشابهة، لا ينطبق بالضرورة على إسرائيل حيث تجري الانتخابات بشكل غير مباشر، إذ يتم التصويت للأحزاب وليس لمرشح رئاسة، والحزب الذي يفوز بأغلبية كبيرة ويملك فرص تشكيل ائتلاف حكومي، هو من يصبح رئيسه رئيساً للحكومة. بالتالي فإن مقدار التأثير الخارجي قليل نسبياً، بفعل كثرة الأحزاب والهويات الفرعية الطائفية لليهود أنفسهم، بين سفارديم وأشكناز، وبين متدينين وعلمانيين، ومحافظين، والفكرية لعموم الأحزاب الإسرائيلية.

في المقابل، وعلى الرغم من وجود حالات سابقة لمحاولات التأثير على الانتخابات الإسرائيلية، والتي كانت فظة وبارزة للعيان، على الأقل بعد اغتيال إسحاق رابين، في عام 1995 عندما كان الموقف الأميركي واضحاً لصالح مرشح حزب العمل شيمون بيريز، ضد بنيامين نتنياهو، فقد جاءت النتائج عكسية، وذلك بفعل استمرار العمليات الفدائية في قلب إسرائيل، ولا سيما في تل أبيب والقدس المحتلة، إذ تقلّصت مع كل عملية تفجيرية، الفجوة الهائلة بين مؤيدي بيريز، الذي حاز في الاستطلاعات الأولى بعد اغتيال رابين، بتأييد تجاوز الـ40 في المائة، بينما كان نتنياهو يحظى بصعوبة بـ23 في المائة. واستغلّ نتنياهو العمليات التفجيرية سلاحاً حاداً حيّد بواسطته السؤال عن مسؤولية معسكر اليمين عن اغتيال رابين، ليضع موضوع الأمن الشخصي للمواطن الإسرائيلي داخل حدود الخط الأخضر على جدول الانتخابات. وانتهت الانتخابات بأعجوبة التحوّل في الموقف الإسرائيلي عندما تفوق نتنياهو على بيريز بفارق نحو 27 ألف صوت.

ومع أن الإعلام الإسرائيلي تلقّف تحذيرات الشاباك، على الرغم من أنها ليست جديدة، إلا أن القلق كما رصدته جهات مختلفة في إسرائيل يأتي من الداخل الإسرائيلي نفسه، ومن جيوش الذباب الإلكتروني الإسرائيلي، في ظلّ محاولات الأحزاب الإسرائيلية وشركات الإعلان والمستشارين الاستراتيجيين استغلال الشبكات الاجتماعية وبناء جيوش من الذباب الإلكتروني لبث دعايات انتخابية مضللة محشوة بالمعلومات الخاطئة وحتى الفتاكة ضد الخصوم السياسيين وبالذات من أحزاب اليسار، عبر بث أخبار كاذبة ودعايات عارية عن الصحة من خلال مواقع وحسابات وهمية، سواء على شبكة "فيسبوك" أو "تويتر" أو "تلغرام".




من والدة بيريز وحتى زوجة غانتس

لا يأتي القلق الإسرائيلي العام من خطر الذباب الإلكتروني الداخلي والأخبار الملفقة من فراغ. فوفقاً لتقرير نشره موقع صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي قبل أسبوعين من تحذيرات رئيس الشاباك، فقد أثار مجرد تحديد موعد التاسع من إبريل/نيسان موعداً للانتخابات العامة، حالة قلق شديد في شبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية، من المس بالإجراء الديمقراطي والتلاعب بالرأي العام الإسرائيلي، عبر مناورات إعلامية وأخبار ملفقة وجيوش الذباب الإلكتروني. وبحسب التقرير المذكور أفادت معطيات شركة "بازيلا" الإسرائيلية التي ترصد وتراقب الخطاب الإسرائيلي على شبكات التواصل أن "مستوى هذا القلق يشهد تصاعداً كبيراً حيث عكست 31.7 في المائة من المناقشات في هذه الشبكات بشأن الأخبار الملفقة، خوفاً كبيراً من تدخل جهات ذات مصالح لجهة حسم نتائج الانتخابات. ولم يتردد 15.6 في المائة من المشاركين في النقاشات من ذكر اسم رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أو حزبه الليكود".

والواقع أن هذا الخوف لم يأت من فراغ، فبمجرد طرح اسم الجنرال بني غانتس مرشحاً لرئاسة الحكومة قادراً على منافسة نتنياهو، تعرض غانتس لحرب شائعات وبث أخبار مغرضة ومزيفة، كان بطل إحداها وزير العلوم والتكنولوجيا من حزب الليكود أوفير أكونيس، الذي بدأ مشواره السياسي مساعداً لنتنياهو عندما كان الأخير زعيماً للمعارضة. فقد كرر أكونيس في مقابلات إذاعية وتلفزيونية مراراً وصم غانتس بـ"اليساري"، وقوله إن زوجة غانتس ناشطة في منظمة نسائية مناهضة للاحتلال وتحرض على جنود الجيش الإسرائيلي. وبموازاة ذلك ضبطت عضو الكنيست نوريت كورين، خلال مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي وهي تحاول الاستشهاد بتقرير وصل إليها عبر "واتساب"، ضد غانتس نفسه، سرعان ما اتضح خلال المقابلة أنه تقرير كاذب، ما اضطرها للاعتذار فوراً.

وإذا كان هذا غير كاف، فإن ما يزيد من حدة القلق من لجوء اليمين الإسرائيلي، وحزب الليكود على نحو خاص إلى تجنيد جيوش "الذباب الإلكتروني" في المعركة الانتخابية لتشويه سمعة الخصوم السياسيين، وزرع الأنباء الكاذبة، هو رفض حزب الليكود، الموافقة على طلب لجنة الانتخابات المركزية، وباقي الأحزاب تعديل قانون الدعاية الانتخابية في إسرائيل ليشمل بند حظر الدعاية المجهلة الاسم والمصدر على الشبكة العنكبوتية وعبر الإنترنت.



ويأتي رفض الليكود ليعزز المخاوف، بحملات وهجمات عبر الذباب الإلكتروني، تعزيزاً لتاريخ طويل من انتهاج الليكود في إسرائيل لأداة الدعايات الكاذبة والشائعات الفتاكة والعارية عن الصحة، حتى قبل بروز ترامب، بمصطلح "الأخبار الكاذبة". ويمكن القول عملياً إن أول ضحايا هذه الديماغوجية الكاذبة، هو بيريز. ففي عام 1976 تغلب بيريز في الانتخابات الداخلية لحزب العمل، على رابين، وتم انتخابه ليكون مرشح حزب العمل مقابل مناحيم بيغن مرشح الليكود، في الانتخابات التي انتهت بإحداث أول انقلاب سياسي في إسرائيل أطاح بحكم العمل التاريخي وجاء بالليكود واليمين للحكم.

سيطر حزب العمل آنذاك على وسائل الإعلام في إسرائيل، لكنه ترك الميادين والساحات والأسواق الشعبية بفعل استعلائه على الطوائف الشرقية لليكود. تلقف مناحيم بيغن الذي عرف بقدراته الخطابية الكاريزمية وقدراته اجتياح هذه الساحات ليخلق جواً عاماً ضد حكم حزب العمل وضد بيريز شخصياً، عبر ترويج شائعات قالت إن والدة بيريز عربية، ويملك أسهماً في شركة تاديران للأجهزة الكهربائية. سرت هذه الشائعات في صفوف الناخبين الشرقيين والمهمشين من المجتمع الإسرائيلي، وتحولت إلى "حقيقة" ناجزة لم يتمكن بيريز من تفنيدها لسنوات، ولم يعرف من أطلقها في المهرجانات الانتخابية الشعبية. ونجحت الدعاية في تحقيق هدفها من دون أن يفلح بيريز في دحضها.

تكرر الأمر، باللجوء للدعايات والأساطير الملفقة، في عام 1993، لكن الضحية هذه المرة كان رابين نفسه، الذي كان عايزر وايزمان (وهو صهر رابين بالمناسبة) فضح في أواسط الثمانينيات أمر انهيار أعصابه خلال اليومين الأولين لحرب يونيو/حزيران 1967. في الانتخابات المذكورة، سرت دعاية مفادها أن رابين يتمايل أثناء سيره بفعل إدمانه على الكحول وتحديداً الفودكا. كادت الشائعة تنتصر وتسقط رابين لكن الانشقاقات التي حدثت في معسكر اليمين مكّنته من تشكيل حكومته الثانية بفعل الكتلة المانعة للأحزاب العربية، علماً بأن أحزاب اليمين حصلت على عدد أكبر من الأصوات. ظل أمر إدمان رابين على الخمر معلقا حتى اغتياله. فقط بعد مقتل رابين اتضح أنه كان يعرج في مشيته بفعل إصابة في ساقه كان يرفض الاعتراف بها.

أخيرا لا بد في سياق سرد الأخبار الكاذبة من الإشارة إلى أمرين، الأول هو التجنّد التام وشبه الدائم في صفوف نشطاء اليمين لتلقف كل دعاية أو منشور وبثه وتعميمه على آلاف الشبكات الاجتماعية، بمجرد صدوره ونشره، خصوصاً إذا كان ضد اليسار أو رموزه، مقابل تمترس أنصار اليسار إما بمحاولة الدفاع عن الضحية التي يستهدفها المنشور، أو تجاهله بلا مبالاة كبيرة. أما الأمر الثاني فهو حقيقة أن فوز نتنياهو في المعركة الانتخابية الأخيرة عام 2015 تمّ بعد أن تمكن من خلال شريط دعائي كاذب من شحن نشطاء اليمين ودفعهم لجلب المصوتين لصناديق الاقتراع، إثر ظهوره في شريط مصوّر، سرعان ما احتل الشبكات الاجتماعية، وهو يبدو في حالة قلق شديد مخاطباً الجمهور بكلمات تحريض عنصرية جاء فيها: "إن حكم اليمين في خطر، جمعيات اليسار تقلّ المصوّتين العرب لمراكز الاقتراع، العرب يتدفقون بكميات كبيرة على الصناديق". شكل هذا الشريط الكاذب محرّكاً يعتقد خبراء الإحصاء في إسرائيل أنه ساهم في رفع نسبة التصويت لدى اليمين الإسرائيلي في الساعات الأخيرة من يوم الانتخابات ومنحه زيادة في الأصوات قُدّرت بين 3 و4 في المائة.