تحوّلات ماكرون في "الحوار الكبير": من العزلة لـ"فرنسا العميقة"

تحوّلات ماكرون في "الحوار الكبير": من العزلة إلى "فرنسا العميقة"

17 يناير 2019
وجد ماكرون نفسه أمام مطالبات صعبة (لودفيك مارين/فرانس برس)
+ الخط -
شكّل انطلاق الحوار الوطني الكبير، من منطقة النورماندي شمال غربي فرنسا، يوم الثلاثاء الماضي، لحظة فريدة في تاريخ البلاد، على الرغم من كل ما يمكن أن يقال حوله، خصوصاً في ظل الجدية التي يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتعامل بها وحكومته مع هذا التحدي الكبير، مسقطاً رهانات كثيرة على عدم انعقاده أصلاً، وموجّهاً في الوقت نفسه دعوة إلى السترات الصفراء ومختلف أطياف المعارضة، للحوار في ظل احترام متبادل، خصوصاً أن ماكرون يؤكد أنه لا يوجد شيء مُحرّم طرحه ومناقشته.
ويبدو أن على الجميع الانخراط في نقاش طويل، قبل معرفة الأجوبة والحلول الملموسة لمشاكل بعضها تعود إلى عقود سابقة، فيما يحاول ماكرون الخروج من الصورة التي ألصقت به، صورة "ملك" (لويس السادس عشر) بعيد عن هموم الناس، غير أنه وفي إطلاقه الحوار، الذي يطمح أن يتمخّض عن "عقد جديد لحكومته"، يكون قد دشّن ما سمّاه "الفصل الثاني" من ولايته الرئاسية.

وأمام 653 رئيس بلدية من قرى وبلدات النورماندي، تحدّث ماكرون عن سلسلة من "الانقسامات"، "الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية"، التي اعتبر أنها سبب غضب المتظاهرين المنتفضين منذ أكثر من شهرين على سياسة الحكومة الاجتماعية والضريبية. وأعلن أن هذه اللحظات التي تعيشها البلاد يمكن أن تكون "فرصة"، مضيفاً أن "كل التساؤلات مفتوحة" خلال الشهرين المقبلين من الحوار الوطني الذي يستطيع كل الفرنسيين المشاركة به والذي "لا يجب أن يتضمّن محرمات".

من جهتهم، تحدّث أعضاء المجالس البلدية عن مشاكل مناطقهم، من نقص في عدد الأطباء، إلى مشاكل النقل العام، وإغلاق مستشفيات توليد، والتفاوت في القدرة على الوصول إلى شبكة الإنترنت، وغيرها. وقدّم رؤساء البلديات مقترحات عديدة للرئيس الفرنسي، تتراوح بين الاهتمام بالأرياف وإقامة حكومة وحدة وطنية واعادة العمل بالضريبة على أصحاب الثروات.
وعلى الرغم من أن خطاب ماكرون خلال إعلانه انطلاق الحوار، والذي دام لنحو سبع ساعات، اعتُبر بمثابة إنجاز خطابي، لكن الأمور تبقى مرهونة بنتائجها. وليس سراً أنه حدث كثير من الإبطاء وشاب بعض الخلل بداية عملية الحوار في مختلف مناطق فرنسا، وهو ما يوجب على الفرنسيين الانتظار حتى يوم الإثنين المقبل للبدء في تقديم مساهماتهم ومقترحاتهم. إضافة إلى أن رؤساء البلديات الذين تريد الحكومة إشراكهم بفعالية في الحوار الوطني، لا يزالون يجهلون إمكانية حصولهم على مساعدات مادية أو مالية، لقاء جهودهم الكبيرة، إضافة إلى أن ميزانية أربعة ملايين يورو لـ"اللجنة الوطنية للحوار العام"، تبدو غير كافية.

وأصر الرئيس الفرنسي، على إبراز الأمل في نجاح هذا الحوار، وهو نجاحٌ يتوقعه 34 في المائة من الفرنسيين، قائلاً "نستطيع أن نجعل من اللحظة التي تجتازها فرنسا فرصة"، من أجل "تنفيذ إصلاحات عميقة". ولكن ماكرون، وعلى الرغم من استعادته حيوية حملته الانتخابية، وجد نفسه أمام طلبات وشكاوى لا يمكنه أن يتخطاها بسهولة، ولم يتردد بعض رؤساء البلديات في توجيه اللوم اللاذع له، قائلين "عليك أن تثق بنا... القول إنك تخرّجت من المدرسة الوطنية للإدارة، وتعرف كل شيء، ليس ممكناً". كما وجّه بعضهم الشكر للسترات الصفراء، باعتبارها "يقظة ديمقراطية". وهو ما جعل ماكرون يعود لبعض عناده، من خلال الدفاع عن برنامجه الاقتصادي، وعن التخلص من "ضريبة التضامن على الدخل"، التي تريد السترات الصفراء وأغلبية كبرى من الفرنسيين إعادتها.

ودافع ماكرون عن برنامجه الاقتصادي وعن إلغاء الضريبة على الثروة. وقال إنه يريد أن يتحمّل الأشخاص الذين يعيشون في حالة فقر "مسؤولياتهم"، معتبراً أن "هناك من يحسنون القيام بذلك، ومن يرتكبون الحماقات". وأثار هذا التعليق انتقادات اليمين واليسار على حد سواء. وأضاف "بعضهم يريد دائماً البحث عن مذنب، ولدي شعور بأنني أقوم بهذا الدور تماماً، وأنا أتحمّل مسؤولية ذلك. لم يجبرني أحد على أن أكون هنا".


من جهة أخرى، وبعد تشدد حكومي، أعلن ماكرون أنه منفتح على مطالب تغيير مرسوم السرعة المحدودة بـ80 كيلومتراً في الطرق الثانوية، الذي دخل حيز التنفيذ في الأول من يوليو/تموز 2018، ما دام أن "الهدف هو التقليل من عدد قتلى الطرقات"، كما قال. وهو منفتح، أيضاً، على إمكانية اضطلاع البلديات بمهمة تسليم بطاقة الهوية والبطاقة الرمادية.
في المقابل، وبالنسبة لطرح إجراء استفتاءات شعبية للفصل في القضايا الوطنية المهمة، وهو الاقتراح الذي يؤيده الكثيرون من السترات الصفراء، فإن ماكرون عبّر عن تحفظه عليه، على الرغم من قوله إن "تفكيراً حول مختلف أشكال ديمقراطيتنا له مكانه في الحوار الوطني الكبير". وقال "علينا ألا ندفع إلى وضع تكون فيه منافسة بين مختلف أشكال الديمقراطية" المباشرة منها والتمثيلية. وأضاف "إذا كان بإمكان الاستفتاءات التراجع عما يكون البرلمانيون قد صوتوا عليه، نكون هنا قد حكمنا بالإعدام على الديمقراطية البرلمانية". وتابع في الإطار نفسه "عندما يكون هناك قرار صعب لا بد من اتخاذه، إن الممثلين عادة هم الذين يتخذونه، لأنهم يأخذون بعين الاعتبار العقبات. نادراً ما تتخذ القرارات الصعبة عبر الاستفتاءات". وأضاف "انظروا إلى ما يعاني منه اليوم أصدقاؤنا البريطانيون، لقد صوّت الشعب، وها هم ممثلوهم عاجزون اليوم عن تطبيق" ما جاء في الاستفتاء.

وبدا أن ماكرون نجح من خلال "وان مان شو"، في استعادة ثقة أغلبيته، التي عبّرت عن ابتهاجها لعودة الروح القتالية لرئيسٍ ظل صامتاً لفترة طويلة، وفي تصفيق جماعي من الحضور في نهاية اللقاء "اللانهائي"، وهو ما تكفلت به شبكات التواصل الاجتماعية المرتبطة بالإليزيه. إلا أن السترات الصفراء، التي هبّت للتظاهر، بالقرب من مكان اللقاء، والتي تم تفريقها بقوة الغازات المسيلة للدموع، شاهدة على أن ماكرون لم يستطع إقناع الجميع، وأنه لا يزال في بداية صعبة.

إطلاق الحوار ختمه الرئيس الفرنسي بالقول إنه قدّم رأيه، "ولم أغلق أي موضوع"، وهو ما سيواصله في العديد من المناطق الفرنسية، ليكون الجميع منخرطاً في هذا النقاش، بما فيه البرلمان، الذي خفف من وتيرة نشاطه حتى يساهم، بدوره، في إثراء الحوار وتقديم المقترحات، أي ألا يناقش البرلمان، خلال شهرين، قضايا يناقشها الفرنسيون في هذا الحوار الوطني، وهو ما جعله يؤجل نقاش قضية "المراجعة الدستورية"، حتى يتمّ تطعيمها بمقترحات نهائية منبثقة من الحوار. هذا الأمر شككت فيه بعض أطياف المعارضة، والتي رأت فيه "ذرّاً للرماد في العيون" وأيضاً "تسلية" من قبل الحكومة.
وفي موازاة رضا الأغلبية ووسائل الإعلام المقربة من ماكرون، على أدائه، تنهمك السترات الصفراء في الإعداد لجولات مقبلة من التظاهرات، وكأن لا شيء حدث، لأنّ حديث الرئيس الفرنسي عن نقاش بلا تابوهات، "لا يعني أنه ستتمخض عن الحوار نتائج جوهرية في ما يخص مطالب المتظاهرين، ومن بينها تعزيز القدرة الشرائية للفرنسيين"، كما تؤكد صفحات السترات الصفراء في شبكات التواصل الاجتماعي.