العمل المدني في الشمال السوري ضحية هيمنة السلاح

العمل المدني في الشمال السوري ضحية هيمنة السلاح

29 سبتمبر 2018
الناس يريدون العودة إلى حياتهم الطبيعية(عمر حج قدور/فرانس برس)
+ الخط -
يبدو أن أزيز الرصاص وتردي الوضع الاقتصادي، والمصالح الدولية، لم يسمح لمنظمات العمل المدني، بما فيها المنظمات الدولية، أن تأخذ دورها الحقيقي والفاعل حتى اليوم، وإن كانت تلك المنظمات تحاول العمل على أخذ المبادرة ومساعدة المجتمع، كالدعوة أخيراً من قبل العديد من النشطاء والفعاليات المدنية والشعبية والإعلامية في الشمال السوري، المسيطر عليه من قبل الفصائل المسلحة المناهضة للنظام، إلى حل "حكومة الإنقاذ"، وتشكيل كيان مدني جامع وموحد.

وأعلن النشطاء والفعاليات، في بيان، أنه "نظراً لما تمر به الأوضاع في إدلب من تطورات متسارعة، ومخاطر تهدد أكثر من 4 ملايين إنسان، وفي ظل الفشل الذريع الذي منيت به حكومة الطرف الواحد (أي حكومة الإنقاذ التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام) في تقديم أي خدمات للمدنيين أو تحسين الوضع المعيشي، وعمليات الإقصاء والتسلط والتضييق على الفعاليات الشعبية والمنظمات والمجالس المحلية، واحتكار العمل المدني لأكثر من عام من قبل الحكومة، بات لزاماً اليوم السعي لتشكيل كيان مدني جامع لكل الفعاليات المدنية في المنطقة المحررة". وطالب البيان جميع المكونات العسكرية في المنطقة عدم التدخل في الشأن المدني، وإبعاد التجاذبات الفصائلية عن المؤسسات المدنية من أجل الوصول إلى واقع مدني شامل يحقق الازدهار والتطور، وإعادة الحياة للمنطقة بعد سنين من التشتت والضياع.

وقال الإعلامي مصطفى محمد، المقيم في إدلب لـ"العربي الجديد"، إن "العمل المدني مهم جداً، خصوصاً في مناطق المعارضة، فالناس يريدون العودة إلى حياتهم الطبيعية وتأمين خدماتهم وهذا يحتاج إلى إدارة مدنية". وأوضح أن "قوة التأثير الحقيقية على الأرض اليوم هي للمجالس المحلية المدعومة من الفصائل وللمنظمات الكبرى المدعومة من الخارج، منها الهلال الأحمر القطري واليونيسف ومنظمة الإنقاذ الدولية وغيرها". ولفت إلى أن "منظمات العمل المدني غير قادرة على ملء الفراغ، فنحن بحاجة إلى حكومة تدير أمور الناس، وتكون ذات مرجعية واحدة، وتمتلك مصادر تمويل للمشاريع التي تقوم بها. فالمنظمات تقوم بمشاريع ممولة لمدة قصيرة، أقصاها سنة، والبلد بحاجة إلى مشاريع ممولة بشكل دائم، كمشروع التعليم، فالمدارس مثلاً ليس لديها دخل، وفي حال توقف المنظمات عن الدعم سيكون لدينا فراغ كبير بما يخص التعليم". وأشار محمد إلى أن "منظمات العمل المدني لم تنجح حتى اليوم في بناء تحالفات لإنجاز قضايا مؤثرة. وأبرز التحالفات كانت بهدف تغطية أزمة المهجرين، التي شهدناها خلال الأشهر الماضية". ورأى أن "الأكثر تأثيراً اليوم هي المجالس المحلية، إذ إنها مسؤولة عن الخدمات، إلا أن تشرذم الفصائل يعيق عملهم. وحتى إن كان المجلس غير مدعوم عسكرياً فإنه يمكن لأي فصيل إيقاف أي مشروع. كما أن الفصائل تمكن المجالس من جباية الضرائب"، معتبراً أن "الفشل، أو عدم التطور على الأقل، يعود إلى هيمنة الفصائل وعدم وجود مرجعية موحدة".

من جانبه، قال الناشط المدني، طارق الإدلبي، لـ"العربي الجديد"، إنه "بالنسبة لواقع العمل المدني في الشمال السوري، فإنه لم يأخذ، حتى الآن، المنحى الحقيقي للعمل بفعالية وبشكل جدي بسبب الضغوط والتأثيرات من القوى المسيطرة على الأرض، بالإضافة إلى الأذرع التابعة لها، والتي تعمل تحت اسم مدني". وأضاف "الشمال السوري بحاجة أكثر من أي وقت مضى لحراك مدني وشعبي مبني على الكفاءات وليس المحسوبيات والتحزبات الحاصلة اليوم، لأن الشمال السوري ليس منطقة عسكرية أو ساحة للمواجهات بين جميع الأطراف، خصوصاً أن المنطقة تأوي أكثر من أربعة ملايين مدني، بينهم مليون شخص من المهجرين قسرياً والنازحين، وتلك الأرقام يمكن أن تكون أولية، بسبب قيام فريق منسقي استجابة سورية حتى الآن بالوصول إلى مناطق جديدة وإحصائها بشكل دقيق". ورأى أنه "في حال تحرك العمل المدني بالاتجاه الصحيح، وتم توظيف الآلاف من الخبرات المهمشة حالياً، فإن هذا الأمر يمكن أن يلعب دوراً كبيراً من خلال توجيه الشأن العام المحلي بالاتجاه الصحيح وإيصال الصورة الواضحة للمجتمع الدولي أن المنطقة تدار من قبل كفاءات مدنية بشكل كامل وصحيح". وبين أنه "يوجد العديد من المنظمات العاملة في الشمال السوري، منها منظمات وجمعيات محلية ومنها منظمات تركية وأخرى غير سورية (دولية)".

وقال إن "تلك المنظمات تستطيع ملء الفراغ في أي منطقة، شرط أن تلتزم بأجندة موحدة تخدم الشمال السوري وتحقق تطلعات المواطنين والابتعاد عن الأجندات الخاصة والغير واضحة، خصوصاً أن المرحلة الحالية تتطلب تحركاً واسعاً لا غموض فيه، إذ إن جميع من يمثل الشمال في الوقت الحالي، إن كانت حكومة انقاذ أو غيرها من التكتلات والتجمعات، لا يحققون المنفعة العامة، وهم يصبون في صالح توجهات شخصية أو فردية، وفي كثير من الأحيان لتجمعات معروفة للجميع، وهي بالأصل توجهات خاطئة حكماً". وأضاف أن "التحالفات الحقيقية بحاجة إلى توحيد أجندة العمل وتفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ويمكن الاستفادة من بعض التجارب الموجودة حتى الآن، شرط إعادة ترتيب الأوراق وتمثيل حقيقي للشعب". وأوضح أنه "من الممكن الاستفادة من وجود ما يسمى بالهيئة السياسية في محافظة إدلب، شرط الحصول على تمثيل واسع من كافة مكونات الشعب المتواجدة الآن والتركيز على القضايا الأساسية التي تخدم الشمال السوري بمختلف مكوناته وإعطاء الدافع الحقيقي للمتواجدين في الشمال السوري للعودة إليه بعد نجاح الفكرة الحقيقية المطلوبة من التجمع المدني المكون".

وأعرب عن اعتقاده بأنه "من الممكن الاستفادة من المجالس المحلية المتواجدة الآن في الشمال السوري، شرط إعادة هيكلتها بالاتجاه الصحيح وتوظيف الخبرات الحقيقية والتوجه إلى إجراء انتخابات ديمقراطية عادلة تمثل شرائح المجتمع للوصول إلى العدالة الاجتماعية المطلوبة". وذكر أنه "لا نستطيع إنكار أن منظمات العمل المدني لها تأثير على المجتمع في المنطقة، ولكن للأسف قد لا تحقق هذه التأثيرات المنفعة العامة، وقد تختلف من منطقة إلى أخرى، كون النسيج الاجتماعي المتواجد في الشمال السوري متداخل ومتشعب بشكل كبير". وأكد أن "جميع التكتلات والتجمعات الحالية في الشمال السوري لا تمثل إلا فئات وشرائح ضيقة جداً، وتتماشى مع أجندات خاصة. وفي حال التخلي عن هذه التجمعات وغيرها وتم توظيف الخبرات والكفاءات، نستطيع أن نقول إن الشمال السوري بخير، كون الخطر الداخلي الآن قد يكون أكبر بكثير من الخطر الخارجي، لأنك إن استطعت التخلص من تلك الأخطار وترتيب البيت الداخلي قد تستطيع مواجهة أي خطر قادم من الخارج".

بدوره، قال الناشط أحمد رويح، لـ"العربي الجديد"، إن "العلاقة بين الناس والمجالس المحلية مبنية على عدم الثقة لأن المحسوبيات والواسطة تشوبها، أما المنظمات فعملها محدود ببرامج محددة، إضافة إلى أن تواصلها مع المجتمع ضعيف نسبياً، ولا تغطي مساحات جغرافية واسعة". وأضاف "لقد تحول عمل غالبية منظمات العمل المدني إلى صورة وخبر، وأصبح الإعلام عن النشاط أهم من النشاط ذاته، إضافة إلى أن المصالح والعائلية غزتها، ما يفقدها ثقة المجتمع بما تعلنه من أهداف". ولفت إلى أنه "لم يتم لمس دور مؤثر لمنظمات المجتمع المدني، كما لم تستطع أن تنتج تحالفات حقيقية، وما زال عملها في الغالب محصور في الإغاثة والطبابة والدعم النفسي".

يشار إلى أنه منذ سبعينيات القرن الماضي احتكر النظام الحياة في سورية، إن كان على الصعيد السياسي أو المدني، فمنع الأحزاب من العمل بين الناس ومنعها من الخروج من مكاتبها، في حين سيطر، عبر الأجهزة الأمنية وبواجهة سياسية تمثلت بحزب "البعث" على السوريين منذ أن يبلغ عمر الست سنوات، حيث ينظم في "طلائع البعث"، وفي عمر الـ13 سنة ينظم في "شبيبة الثورة"، وما إن يبلغ سن الـ16 حتى ينسب للحزب، وفي الجامعة يعيش في "اتحاد طلبة سورية". وحتى العمل النسائي كان حكراً على "الاتحاد النسائي"، والنقابات أيضاً كان يهيمن عليها، حالها حال الجمعيات الأهلية، التي تخضع لرقابة وهيمنة مباشرة من وزارة الشؤون الاجتماعية. وبهذه الهيمنة منع النظام السوريين لعدة أجيال من إقامة أي تجمعات أو منظمات خارج إطار "البعث" والجهات المهيمن عليها، فلم يعش السوريون حياة النشاط بالشأن العام، بل كانت القلة المنخرطة بهذه المنظمات تقوم بتنفيذ التوجيهات كما تصلها، إلا أنه مع مارس/أذار 2011، سقطت ورقة التوت عن تلك المنظمات، وظهرت جماهريتها الحقيقية، إذ سرعان ما تبين أنها عاجزة عن تغيير آراء الناس وأفعالهم المناهضة للنظام، بالتزامن مع انفكاك الناس من حولها، ما شكل فراغاً كبيراً لم تستطع أن تملأه، خصوصاً في المناطق التي أخرج منها النظام، ما خلق بدائل ناتجة عن الحاجة أولاً وتمسك جزء كبير من السوريين بنشاطهم المدني ثانياً.