ترامب ضد البشرية: خطاب الانعزالية الأميركية في الأمم المتحدة

ترامب ضد البشرية: خطاب الانعزالية الأميركية في الأمم المتحدة

26 سبتمبر 2018
تفاخر ترامب بما حققه خلال ولايته (براين سميث/فرانس برس)
+ الخط -


يصعب وصف انعزالية ويمينية وعدوانية خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يوم الثلاثاء، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ73، بالكلمات، إذ لا بد من الاستماع إلى كل كلمة من خطاب ظنّ كثيرون للوهلة الأولى أن ترامب أخطأ في عنوان إلقائه، ليأتي الجزء الأول منه أقرب ما يكون إلى خطاب حال الأمة في تفاخره لما سماها "إنجازات" إدارته التي "فعلت في أقل من عامين ما لم يسبق لأي إدارة في تاريخ أميركا أن حققته". تماماً كما كان عليه الحال في خطابه العام الماضي، كان مشهداً سوريالياً طال نصف ساعة، تباهى فيه ترامب بكل ما هو مناقض لفلسفة الأمم المتحدة التي كان يتحدث أمامها، فاحتفل ببناء "أميركا أولاً" للجدران ضد الفقراء والمهاجرين، وبزيادة الإنفاق العسكري وتوعّد بزيادة إضافية في القدرة العسكرية لأميركا، ليدعو خلال كلمته كل دولة إلى أن تفعل ما تريد على عكس روح المنظمة التي يتحدث في حضرتها.

هكذا، وقف ترامب لشن حملة انتقادات غير مسبوقة على عدد كبير من هيئات الأمم المتحدة نفسها، مثل مجلس حقوق الإنسان "الذي صار يشكل خطراً على العالم"، والذي انسحبت أميركا منه دفاعاً عن إسرائيل، وضد المحكمة الجنائية الدولية التي لن يسلم ترامب السيادة الأميركية لها كونها "بيروقراطية غير منتخبة"، ذلك أن "أميركا يحكمها الأميركيون ونحن نرفض عقلية العولمة ونعتنق العقلية الوطنية" على حد تعبيره. وقد يكون أكثر مشهد يختصر صدمة خطاب ترامب، التعابير على وجوه ممثلي الدول الذين عجّت بهم قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة بابتسامات تكاد لا تصدق ما تسمع، عندما يقدّس ترامب "الوطنية والسيادة ضد العولمة". وعندما أراد ترامب توزيع تحياته على "تجارب فريدة" في العالم، كما سماها، عدد أربع دول حليفة لأميركا تتنوع سماتها بين العنصرية كإسرائيل والظلامية مثل السعودية وحكم اليمين الشعبوي المتطرف مثل الهند وبولندا، مجدداً وعده برفض أي إطار جماعي لا يكون بخدمة "أميركا أولاً"، هذا من دون نسيان إشادته الكبيرة بزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون مجدداً.

واختار الرئيس الأميركي المنبر العالمي الأكبر، الجمعية العامة للأمم المتحدة، لشنّ حملة شعواء في كل اتجاه وضد الجميع، من النظام الإيراني، إلى "خصوم" الولايات المتحدة الاقتصاديين، وحتى المؤسسات الأممية كالمحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان. لكن القضية الأبرز التي حاول ترامب الترويج لها قبل كلمته التي استمرت أكثر من نصف ساعة، بدا أنه فشل في ترويج استراتيجية إدارته حيالها، وهي القضية الإيرانية، فالأجواء التي سبقت كلمة ترامب كانت تدل على فشل المحاولات الأميركية لعزل النظام الإيراني، إذ إن الأوروبيين المصرّين على الاستمرار في الاتفاق النووي مع طهران، كانوا يخلقون مخرجاً لمواصلة تجارتهم مع إيران والإفلات من العقوبات الأميركية.

لكن ذلك لم يثن ترامب عن رفع لهجته ضد إيران، فاعتبر أن قادتها "يؤيدون القتل والدمار ولا يحترمون جيرانهم ولا حدودهم"، وأنهم "نهبوا مصادر الأمم وعبأوا جيوبهم ونشروا الفوضى في أرجاء الشرق الأوسط وما أبعد". وفي مؤشر واضح على سياسة إدارته لدفع الشعب الإيراني للانتفاض ضد قادته، قال الرئيس الأميركي إن "شعب إيران غاضب لأن قادته سرقوا مليارات من الخزينة ونهبوا الوقف الديني للبلاد لإنفاق الأموال على عملائهم لشن الحروب وهذا أمر سيئ، هذا الشعب دفع ثمناً عالياً للسياسة التوسعية للنظام، ولهذا السبب فإن الكثير من الدول في الشرق الأوسط دعمت قراري بسحب أميركا من الصفقة السيئة التي أُبرمت في 2015 وكانت هذه الصفقة مكسباً لقادة إيران"، في إشارة للاتفاق النووي.

وأعلن أن بلاده "أطلقت حملة لفرض الضغط الاقتصادي حتى نحرم النظام الإيراني من الأموال التي يحتاجها لتمويل خطته الدموية"، مشيراً إلى "أننا بدأنا الشهر الماضي بإعادة العقوبات على طهران على أن تُستأنف في نوفمبر/تشرين الثاني وتليها جزاءات أكبر، ونحن نتعاون مع الدول التي تستورد النفط الخام الإيراني لخفضه إلى أدنى مستوى". وتابع في كلامه عن النظام الإيراني قائلاً "لا يمكن أن نسمح لأكبر راعٍ للإرهاب في العالم بامتلاك أخطر أسلحة في العالم"، داعياً كل الدول "لعزل النظام الإيراني ما دام مستمراً في عدوانه، ولدعم الشعب الإيراني الذي يناضل للعودة إلى مصيره".

أما في الشأن السوري، فدعا ترامب لكي تنصبّ الأهداف المشتركة على إزالة التصعيد العسكري والتوصل لحل سياسي يحترم إرادة الشعب في سورية، معلناً دعم "عملية السلام بقيادة الأمم المتحدة على أن يتم تنشطيها، لكن الولايات المتحدة سترد إذا تم استخدام السلاح الكيميائي من قبل بشار الأسد". ووجّه التحية للشعب الأردني والشعوب المجاورة الأخرى على استضافتها اللاجئين، معتبراً أن "أي حل للأزمة الإنسانية في سورية يجب أن يحتوي على استراتيجية لحل النظام الذي أذكى هذا الصراع، وهو الديكتاتورية في إيران".


كذلك تطرق الرئيس الأميركي إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قائلاً إنه اتخذ "خطوة مهمة في الشرق الأوسط بالاعتراف بحق كل دولة بتحديد عاصمتها، ولهذا نقلتُ السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس"، معلناً التزامه "بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، ولا سيما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهذا الهدف يستفيد من الاعتراف بالحقائق الصارخة"، مضيفاً "لن نقع رهينة لأي عقليات وأي روايات دينية ولخبراء أثبتت السنوات خطأهم، وهذا قائم ليس فقط في مسائل السلام بل في ما يتعلق بالازدهار".

وفي السياق، قال ترامب إن نهج إدارته الجديد في الشرق الأوسط "بدأ يحقق خطوات هائلة للأمام، فبعد زيارتي إلى السعودية قامت دول الخليج بافتتاح مركز لاستهداف تمويل الإرهابيين، وهي تتعاون معنا لتقفي أثر الشبكات الإرهابية ومكافحة الإرهاب والتطرف"، لافتاً إلى أن "الإمارات والسعودية وقطر تعهدت بمليارات الدولارات لمساعدة شعبي سورية واليمن، وتسعى هذه الدول لإنهاء الحرب الفظيعة في اليمن". وأعلن أن "الولايات المتحدة تعمل مع مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن لإقامة تحالف إقليمي استراتيجي لتنعم دول الشرق الأوسط بالاستقرار والأمن"، مضيفاً أنه "بفضل جهود الجيش الأميركي ومشاركتنا مع الكثير من أممكم فإن قتلة داعش قد دُحروا من أراضٍ سيطروا عليها في العراق وسورية، ونحن مستمرون في العمل مع الحلفاء لمنع المتطرفين من الحصول على أي تمويل".

وواصل الرئيس الأميركي تصعيده ضد الأمم المتحدة، مشيراً إلى انسحاب بلاده من مجلس حقوق الإنسان "ولن نعود إليه حتى تتحقق الإصلاحات التي طلبناها، كما أننا لن نوفر أي دعم للمحكمة الجنائية التي لا تتمتع بأي شرعية ولا سلطة، وهي تدّعي الولاية القضائية شبه العالمية على كل الدول وهذا ينتهك مبدأ العدالة، ونحن لن نسلّم السيادة الأميركية لبيروقراطية لا تخضع للمساءلة، وأميركا يحكمها الأميركيون". وتابع: "ملتزمون بالحفاظ على استقلالنا من تغلغل القوى التوسعية الأجنبية، وقد عززت الولايات المتحدة من قوانينها لإجراء غربلة أفضل للأطراف الأجنبية من ناحية تقييمها كمخاطر على الأمن الوطني"، مضيفاً "على الدول الأخرى أن تتحمل كلفة الدفاع عنها وسنقدّم فقط المساعدات لأصدقائنا وللدول التي تحترم الولايات المتحدة".

كما واصل الحرب التجارية ضد منافسي أميركا، فقال إن "التجارة يجب أن تكون عادلة، والولايات المتحدة لن تُستغل بعد الآن، إذ أبقت أميركا لعقود طويلة اقتصادها مفتوحاً وسمحنا للسلع بالتدفق عبر حدودها، لكن دولاً أخرى لم تسمح بوصول سلعنا إلى أسواقها".
وكان ترامب قد افتتح كلمته بالتفاخر بما حققه، قائلاً إنه "في أقل من عامين أنجزت إدارتي أكثر مما أنجزته كل إدارة تقريباً في تاريخ بلادي، فاقتصادنا يزدهر كما لم يسبق، والبطالة انخفضت إلى أدنى مستوياتها منذ 50 عاماً، واعتمدنا أعظم إصلاحات على الضرائب في التاريخ الأميركي، وعززنا أمن الحدود وبدأنا بناء الجدار، كما أن قدراتنا العسكرية ستكون أعظم قريباً عن السابق، وهذا يعني أن الولايات المتحدة أقوى وأكثر أمناً وأغنى عما كانت عليه قبل عامين". كما أشار إلى المشاورات "المثمرة" مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، "واتفقنا على أن من مصلحة الدولتين إزالة الطابع النووي عن شبه الجزيرة الكورية، وتوقفت التجارب النووية وبعض المرافق العسكرية بدأ تفكيكها وأعيدت رفات أبطالنا في الحرب إلى ديارهم، إلا أن الكثير يبقى ينتظرنا حتى إزالة الطابع النووي في المنطقة".

كلمة ترامب التصعيدية، لم تخف اصطدامه بتحرك أوروبي نجح بإيجاد مخرج لمواصلة تجارتهم مع إيران والإفلات من العقوبات الأميركية. وعقب اجتماع الإثنين في نيويورك بحضور ممثلي الدول الست الموقعة على الاتفاق النووي، فرنسا وبريطانيا والصين وروسيا وألمانيا وإيران، أعلنت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني عن إنشاء كيان قانوني جديد بهدف مواصلة التجارة مع إيران، ولا سيما شراء النفط الإيراني.