قضية اغتيال وزير الخارجية الجزائري: حيثيات اتهام صدام حسين

قضية اغتيال وزير الخارجية الجزائري: حيثيات اتهام صدام حسين

17 سبتمبر 2018
واجه الشاذلي بن جديد صدام بالحقائق (Getty)
+ الخط -

في مايو/ أيار 1982، تحطمت طائرة رئاسية جزائرية كانت تقل وزير الخارجية الجزائري، محمد الصديق بن يحيى، والوفد المرافق له وبعثة صحافية، عندما كانت في الأجواء بين العراق وتركيا في مهمة سلام بين العراق وإيران لوقف الحرب التي كانت قد اندلعت بين البلدين في 1980، وكشفت التحقيقات أن صاروخاً عراقياً أصاب الطائرة. وعادت قضية اغتيال الصديق بن يحيى إلى واجهة الاهتمام في الجزائر، بعد نشر وزير الدفاع الجزائري السابق، الجنرال المتقاعد خالد نزار، للجزء الثاني من مذكراته التي ستصدر في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل خلال معرض الكتاب الدولي في الجزائر، والتي يتهم فيها صراحة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بالوقوف وراء تحطم طائرة الصديق بن يحيى الذي كان يقوم بمهمة سلام ووساطة بين بغداد وطهران لوقف الحرب الدائرة بينهما، ودفع الطرفين للعودة إلى اتفاق الجزائر.

وأكد نزار أن "الرئيس العراقي صدام حسين أمر، في مايو 1982، بقصف الطائرة الرئاسية التي كانت تقل وزير الخارجية الجزائري والطاقم المرافق له من وزارة الخارجية، إضافة لصحافي وأربعة من طاقم الطائرة". وقال "صدام حسين هو من أعطى الأوامر بقصف الطائرة غرومان غولفستريت 2 الرئاسية التي كانت تقل الصديق بن يحيى والوفد المرافق له في مهمة من أجل السلام في منطقة الخليج، مع ثمانية أعضاء من وزارة الخارجية وصحافي وأربعة من طاقم الطائرة". وأشار نزار إلى أن لجنة التحقيق الجزائرية، برئاسة وزير النقل الجزائري الأسبق صالح قوجيل، التي ذهبت بسرعة إلى موقع تحطم الطائرة، وجدت بقايا صاروخ بين الشظايا. وقال "وجد التقنيون بين بقايا الطائرة شظايا صاروخ جو ـ جو الذي أدى إلى تفجير الطائرة، والصاروخ يعود إلى شحنة من الصواريخ تم تصديرها إلى العراق من قبل السوفييت". وأكد نزار أن "الجزائر تملك الرقم التسلسلي للصاروخ".

ويعد بن يحيى من بين أبرز الشخصيات السياسية الجزائرية، حيث كان ضمن وفد جبهة التحرير الوطني المفاوض من أجل استقلال الجزائر، وعمل في وزرات الإعلام والتعليم العالي والمالية قبل أن يعين وزيراً للخارجية بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، خلفاً لوزير الخارجية حينها عبد العزيز بوتفليقة، ونجح في تحرير الرهائن الأميركيين الذين كانوا محتجزين في السفارة الأميركية في طهران عقب الثورة الإيرانية. وأكد نزار أن "بن يحيى مات من أجل السلام في خدمة الشعبين في العراق وإيران، ومات لأن الدكتاتور العراقي والخميني أرادا أن يستمرا في الاقتتال بينهما"، مشيراً إلى أن بن يحيى دفع ثمن الفكر البعثي المتحكم في العراق آنذاك، إذ كانت الوساطة الجزائرية مدعمة بملف وكانت تدار باقتدار وكانت لديها كل الفرص للنجاح. ووصف صدام حسين بأنه "ديكتاتور مصاب بجنون العظمة قاد الشعب العراقي نحو المأساة، إذ كنت أحس بالعراقيين مثل كل جزائري، لكن المشاعر شيء والمصالح، بما فيها مصالح بلدي، شيء آخر". وأكد قوجيل، الذي قاد لجنة التحقيق في مقتل بن يحيى والتقى صدام حسين في بغداد عقب الحادث، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن صدام حسين حاول إقناعه بعدم مسؤولية بغداد عن اغتيال بن يحيى، "لكنني واجهته بحقيقة أن هناك بقايا صاروخ كانت بين شظايا الطائرة المحطمة، وهذا يؤكد فرضية أنه تم استهدافها بصاروخ"، مشيراً إلى أن "الصاروخ كان روسي الصنع، والعراق هو الذي يملك هذا النوع من الصواريخ، ولذلك كان واضحاً أن العراقيين كانوا متورطين في حادث الاغتيال".




وبحسب مذكرات الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد، التي لم يصدر جزؤها الثاني بعد، أكد كاتب المذكرات، الأستاذ عبد العزيز بوباكير، في حديثه عن موقف الشاذلي من الحادث وملابساته، بحسب ما أبلغه به بن جديد، أن "الوزير محمد الصديق بن يحيى كان من بين أهم الشخصيات المقربة من الرئيس الشاذلي بن جديد، وكان قد تعرض في مايو 1980 لحادث، إذ سقطت طائرته قرب العاصمة المالية باماكو خلال سفره إلى فريتاون للمشاركة في اجتماع أفريقي، لكنه نجا بأعجوبة، وسافر للعلاج في الخارج. وكلف الرئيس بن يحيى بالشروع في وساطة بين البلدين، وإقناع صدام حسين بالعودة إلى اتفاق الجزائر 1975، على خلفية نجاحه في إطلاق سراح الرهائن الأميركيين في طهران، لكن حادثاً آخر كان بانتظار بن يحيى بعد حادث باماكو". ويذكر بوباكير، بحسب رواية الشاذلي، أنه "عشية الرابع من مايو 1982، أبلغ أن طائرة غرومان الرئاسية فقدت الاتصال مع برج المراقبة بعد تزودها بالوقود وإقلاعها من مطار لارنكا باتجاه طهران. وشكل الشاذلي خلية أزمة في رئاسة الجمهورية لمتابعة هذه القضية، وخيم الغموض على الحادث ـ اللغز، حيث طرحت كلّ الاحتمالات، من بينها احتمال تغيير الطائرة لمسارها من قبل أطراف ليس من مصلحتهم إيقاف الحرب، أو احتمال تعرضها لخلل تقني ونزولها في مطار آخر واحتمال عودتها إلى الجزائر. وقامت خلية الأزمة بالاتصال بالإيرانيين والأتراك والسوفييت والسوريين، لكن كل المعلومات التي استقتها منهم كانت شحيحة ومتضاربة، وتأكدوا بعدها أن الطائرة لم تصل إلى طهران وأنها ربما تحطمت على التراب الإيراني. وأفاد الإيرانيون بأنّ الطائرة تعرّضت لهجوم جوي من قبل طائرتين مجهولتين، بالإضافة إلى المعلومات التي وصلت إلى أعضاء الخلية والتي تشير إلى وجود طائرتين عراقيتين في الأجواء التي كانت طائرة بن يحيى فيها، ومعلومة أخرى مهمة هي أنّ (العقيد الليبي الراحل معمر) القذافي أوفد، عندما علم بالوساطة الجزائرية، إلى طهران عبد السلام جلود على متن طائرة من النوع نفسه (غرومان) لإفشال الوساطة. وأشار الشاذلي إلى أن السوريين أكدوا لهم أن طائرة من نوع غرومان حطت بالفعل في مطار دمشق".

وأضاف بوباكير "تم إرسال اللجنة، التي يرأسها صالح قوجيل، والمكونة من مدنيين وعسكريين إلى مكان الحادث لإجراء تحقيق ميداني، وجمع حطام الطائرة والصاروخ الذي أسقطها. واستطاعت اللجنة أن تحصل على رقم الصاروخ، وهو روسي الصنع. وبعد ذلك سافرت اللجنة إلى الاتحاد السوفييتي لمعرفة لمن تم بيعه، لكن السوفييت بدأوا يماطلون ووقعوا في حرج كبير. وطلب الشاذلي من أعضاء اللجنة أن يخبروا السوفييت بأنّ المسألة متعلقة بمستقبل علاقاتنا، إن كنتم أصدقاء سلموا لنا اسم البلد الذي بيع له الصاروخ، ونعدكم بأننا لن نذكر مصدر المعلومة، وإن رفضتم فإننا سنقطع العلاقات الدبلوماسية معكم. كانت مصالح الاتحاد السوفييتي كبيرة مع الجزائر فاضطروا في النهاية إلى إخبارنا بأنّ الصاروخ بيع للعراقيين، واتضح أن الصاروخ الذي أسقط طائرة بن يحيى عراقي". وأشار إلى أن "صدام حسين كعادته يراوغ ويسعى إلى التملّص من مسؤوليته رغم أنه كان يعرف أن الصاروخ الذي أسقط الطائرة عراقي، وذلك حتى لا يظهر في أعين الرأي العام العالميّ أنه يريد مواصلة الحرب في وقت كان يعتقد أن كفتها مالت إليه".

وذكر بوباكير أن الشاذلي بن جديد التقى بعد ذلك صدام حسين، وواجهه بالحقائق التي توصلت إليها لجنة التحقيق، وقال "أنتم من أسقط الطائرة وأنا أملك الدليل على ذلك، وأعرف أيضاً أنكم لم تكونوا تقصدون ذلك، كنتم تريدون إسقاط طائرة وزير الخارجية الليبي عبد السلام جلود، الذي كان يسعى بأمر من القذافي إلى التشويش على الوساطة الجزائرية. أطلب منكم فقط الاعتراف بذلك، والاعتراف فضيلة حتى في السياسة. أرجوكم ألّا تضعوني في حرج أمام الشعب الجزائري، لأني التزمت أمامه أن أكشف له الحقيقة"، مضيفاً أن صدام حسين طأطأ رأسه في إيماءة بإقراره بذلك. لم تُكشف كل أسرار وتفاصيل حادثة اغتيال وسيط السلام الجزائري بن يحيى، لكن توالي الاعترافات ومذكرات المسؤولين الجزائريين باتت تكشف بعض الحقائق التي فرضت توازنات الدولة والعلاقات الدولية أن تبقى طي الكتمان.

المساهمون