مصر: خلاف كنسي وراء مقتل رئيس دير الأنبا مقار؟

مصر: خلاف كنسي وراء مقتل رئيس دير الأنبا مقار؟

05 اغسطس 2018
دعا تواضروس للعودة إلى العزلة الرهبانية (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
تعيش الكنيسة القبطية في مصر أجواء توتر منذ مقتل رئيس دير الأنبا مقار، في صحراء وادي النطرون، غرب دلتا النيل شمال مصر، الأنبا أبيفانيوس منذ أيام. جريمة جنائية بحسب الكنيسة يجري التكتم على أسبابها ما يفتح المجال واسعاً أمام الشائعات التي تحاول شرح أسباب الجريمة وملابساتها.

ومرد التوتر المستمر داخل الدير، يعود لأسباب عدة، ومنها ما حُكي عن تدابير مسلكية قررت البطريركية القبطية العمل بها، كالتخلي عن صفحات التواصل الاجتماعي، بعد بروز مواقف سياسية لكهنة ومطارنة على "فيسبوك" و"تويتر" ضربت تاريخاً من "العزلة" لرجال الدين الأقباط. كما أعلن البابا تواضروس الثاني، عن إقفال صفحته الرسمية على "فيسبوك" في سياق "العودة إلى الجذور". وهو ما يعني أن الكنيسة القبطية في صراع مستمر بين جيلين من الكهنة، الكبار الذين لا يريدون التخلي عن تقاليدهم، والشباب الهادفين إلى إعادة هيكلة الكنيسة.

في سياق جريمة دير الأنبا مقار، واصلت نيابة وادي النطرون المصرية الاستماع إلى أقوال الرهبان والأساقفة في الدير، في محاولة لكشف غموض مقتل رئيس الدير، الأنبا إبيفانيوس، في وقت شهد فيه محيط الدير حالة من الاستنفار الأمني، وإغلاقا لجميع الطرق المؤدية إلى منطقة الأديرة بوادي النطرون، مع نشر خبراء المتفجرات، والكلاب البوليسية، منذ العثور على جثة الضحية غارقة في الدماء إثر تهشيم رأسه.

وأفادت التحقيقات المبدئية للنيابة المصرية بأن "الجاني استخدم أداة حادة لقتل رئيس الدير، حال خروجه من قلايته (سكن الراهب) لأداء القداس"، استناداً إلى رواية الرهبان، الذين قالوا إنهم "فوجئوا بتأخر إبيفانيوس عن الوصول لرئاسة القداس، رغم اعتياده الاستيقاظ في ساعة مبكرة، فخرجوا للبحث عنه، ليجدوا جثته على السلالم عقب خروجه من قلايته في حالة إغماء، وعند أسفل رأسه كمية كبيرة من الدماء".

وعُثر على جثمان رئيس الدير اﻷحد الماضي، بعد تعرضه لاعتداء بآلة حادة، من دون أن تتمكن جهات التحقيق الرسمية من تحديد هوية القاتل، في حين ترجح مصادر متطابقة أن المعتدي على إبيفانيوس هو أحد قاطني الدير، نظراً للمنطقة المنعزلة التي تحيط بالدير، وإحاطته بأسوار عالية، علاوة على أن مكان الاعتداء يشير إلى معرفة القاتل بتفاصيل الدير، وأماكن تواجد كاميرات المراقبة به، وخط سير اﻷنبا الراحل.


وأكد عدد من رهبان الدير في التحقيقات أن "الحادث ليس بدافع السرقة"، وهو ما كرره بابا الكنيسة الأرثوذكسية، تواضروس الثاني، خلال صلاة الجنازة، بقوله: "كان الأنبا إبيفانيوس معروفاً ببساطته في كل شيء، بسيطاً في حياته وقلايته تشهد على ذلك، وملبسه يشهد على ذلك، وطعامه يشهد على ذلك. ولكنه رحل بعيداً عن أطماع وهموم الأرض ومهما تفتق ذهنك يا إنسان عن أفكار وشهوات، فماذا ستجني؟ لن يكون في النهاية سوى تراب الأرض".

وخاطب تواضروس، رهبان الدير، قائلاً في لهجة غاضبة: "نحن في انتظار نتائج التحقيقات، وابتعدوا عن أي شائعات تقال هنا أو هناك، وليس من حق الآباء الرهبان أبداً الظهور الإعلامي بأي صورة من الصور، فقد انقطعتم عن العالم، وصرتم في هذه البرية المقدسة من أجل أبديتكم وخلاصكم".

وتولى الراحل إبيفانيوس رئاسة دير أبو مقار، الواقع على بعد 120 كيلومتراً، شمال غرب العاصمة القاهرة، في فبراير/شباط 2013، بعد انسحاب منافسه، وامتناع عدد من الرهبان عن التصويت، وطالبه تواضروس آنذاك بلم شمل الدير، الذي كان مركزاً ﻷزمة امتدت لسنوات طويلة، بدأت بخلاف بين البابا الراحل، شنودة الثالث، واﻷب متى المسكين.


الخلاف بدأ قبيل جلوس شنودة على كرسي البابوية في عام 1971، حين ترشح الأب متى أمامه، ووصل الخلاف إلى ذروته في عام 1981، عندما حدد الرئيس الراحل، أنور السادات، إقامة البابا شنودة في دير اﻷنبا بيشوي، ضمن ما عُرف بـ"اعتقالات سبتمبر"، إذ التقى السادات وقتها باﻷب متى، وكلفه بإدارة أمور الكنيسة، وكان الأخير آنذاك بمثابة اﻷب الروحي لدير اﻷنبا مقار.

لم يكن الصراع بين البابا شنودة، وأتباعه، والأب متى، وأتباعه، سراً خافياً، ﻷن الأول تحدث عنه في أكثر من مناسبة، ففي عام 1991 سُئل شنودة عن سبب خلافه مع رهبان ورئيس دير الأنبا مقار، ليرد بالقول: "رهبان الدير يتمسكون بأب من الآباء أكثر من الكنيسة كلها، ويطيعون هذا الأب أكثر مما يطيعون البابا، والمجمع المقدس، والأساقفة"، وتلا ذلك إصدار شنودة قراراً بمنع تداول كتب الأب متى في مكتبات الكنيسة.

وفي عام 2012، زار وفد من رهبان دير الأنبا مقار، القائم بمقام البابا حينها، الأنبا باخوميوس، وطلبوا منه عدم السماح بتولي أحد أبناء البابا شنودة رئاسة الدير، وإلا تفجرت أزمة حقيقية، وبعدها بعام واحد قرر تواضروس تعيين أساقفة جدد، وبعد جلسات عدة مع رهبان الدير، اُختير رئيسه الراحل (المقتول)، بعد حصول على أغلبية اﻷصوات، وسط امتناع عدد من الرهبان عن التصويت، علماً بأنه أحد تلاميذ اﻷب متى.

وفي فبراير/شباط 2017، أصدر إبيفانيوس بياناً أعلن فيه أن الدير ليس له علاقة بالراهب مرقس المقاري، بعد نشر أحد المواقع المسيحية خبراً مفاده أن شكاوى قد أرسلت للبريد الإلكتروني للموقع من راهب يدعى "أشعياء المقاري"، والذي صدر ضده قرار بابوي يقضي بإبعاده عن دير الأنبا مقار، وإلحاقه بدير يسمى "دير الزيتونة"، وذلك على خلفية الطلب الذي تقدم به الأنبا الراحل لتواضروس لإلحاق الراهب بأي دير آخر.



وقبل مقتل اﻷنبا إبيفانيوس بأسبوع واحد، كرمت الكنيسة اﻷرثوذكسية اﻷب متى في احتفالية كبرى بمئوية مدارس اﻷحد، باعتبار أنه أحد رواد الكنيسة، وهو التكريم الذي أثار استياءً واسعاً لدى أوساط الكنيسة الأرثوذكسية، إذ شنت بعض الصفحات الكنسية هجوماً على هذا التكريم، متهمة اﻷب متى بأنه كان ضد مدارس اﻷحد، وأفكاره تمثل خطورة على الكنيسة، وهو ما رد عليه المفكر القبطي، كمال زاخر، في منشور بعنوان "الأب متى المسكين.. والخدمة الكنسية".

ولطالما مثل دير الأنبا مقار صداعاً في رأس الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، ومصدراً للأزمات داخلها، بعدما كان مستقلاً بشكل كامل عن الكاتدرائية حتى وفاة الأب متى المسكين، ثم أخضعه البابا شنودة لإدارة الكنيسة مرة أخرى في عام 2009، بعد أن صار له رهبانه، ورجاله داخل الدير.

وجريمة مقتل الأنبا إبيفانيوس تعد أول جريمة في تاريخ الكنيسة تقع بين جدرانها، وتعد حدثاً استثنائياً هز الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ودفعها لاتخاذ 12 قراراً على خلفية الحادث، في مقدمتها: "وقف رهبنة أو قبول أخوة جدد في جميع الأديرة القبطية الأرثوذكسية داخل مصر لمدة عام، يبدأ من أغسطس/آب 2018".

وشملت قرارات الكنيسة: "تحديد عدد الرهبان في كل دير، بحسب ظروفه وإمكانياته، وإيقاف سيامة الرهبان في الدرجات الكهنوتية (القسيسية والقمصية) لمدة ثلاث سنوات، والالتزام بعدم حضور علمانيين على الإطلاق في الرسامات الرهبانية، واستقبال الأديرة الزيارات والرحلات طوال العام، باستثناء فترة صوم الميلاد، والصوم الكبير، في أيام الجمعة والسبت والأحد فقط من كل أسبوع، والتحذير من زيارة الأماكن غير المعترف بها".

كما تضمنت "الاهتمام والتدقيق بحياة الراهب، والتزامه الرهباني داخل الدير، واهتمامه بأبديته التي خرج من أجلها، ودون الحياد عنها، وعدم ظهوره الإعلامي بأي صورة، ولأي سبب، وبأي وسيلة، أو التورط في أي تعاملات مالية، أو مشاريع لم يكلفه بها ديره، أو التواجد خارج الدير من دون مبرر، أو من دون إذن مسبق من رئيس الدير، وعدم حضور الأكاليل والجنازات للرهبان، إلا بتكليف وإذن رئيس الدير، وبحد أقصى راهبين".

وشملت القرارات كذلك: "إعطاء الرهبان فرصة لمدة شهر، لغلق أي صفحات أو حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، والتخلي الطوعي عن هذه السلوكيات والتصرفات التي لا تليق بالحياة الرهبانية، ومناشدة جموع الأقباط بعدم الدخول في أي معاملات مادية أو مشاريع مع الرهبان أو الراهبات، وعدم تقديم أي تبرعات عينية أو مادية، إلا من خلال رئاسة الدير أو من ينوب عنهم".


دلالات