عندما تتحول الهوية إلى عبء على اليمنيين

عندما تتحول الهوية إلى عبء على اليمنيين

04 اغسطس 2018
تتحكم نقاط التفتيش بحياة اليمنيين (صالح العبيدي/فرانس برس)
+ الخط -
لا تنتهي مآسي الحرب التي تدور رحاها للعام الرابع في اليمن عند مقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير البنية التحتية، وانهيار الاقتصاد والعملة، وانهيار منظومة الدولة وتحول البلاد إلى مجرد أرض تحكمها الفوضى وقانون الغاب، بل إن أشد مآسي الحرب تتمثل في تمزيقها للنسيج الاجتماعي لأبناء اليمن الواحد، إذ بات المواطن اليمني ضحية لاسم عائلته أو منطقته الجغرافية المولود فيها، حتى وإن لم يكن له أي موقف من هذا الطرف أو ذاك.

المواطن عبدالله أحمد عبدالله لاهب الطيري، وهو من أبناء محافظة الضالع، جنوبي اليمن، كان ذنبه الوحيد الذي بسببه اعتقل في سجن الحزام الأمني، أنه من مواليد دولة قطر، وهذا في نظر قوات الحزام الأمني المدعومة من التحالف يعد "جرماً كافياً" لتقوم بمداهمة منزله فجر يوم السبت 7 إبريل/ نيسان 2017 في مدينة عدن، العاصمة المؤقتة لجميع اليمنيين، بعد أن قاتل في صفوف الشرعية من دون أن توجه إليه أي تهمة. وبعد مرور فترة على اعتقاله وإخفائه تبين أنه معتقل في سجن بئر أحمد التابع للحزام الأمني والذي تشرف عليه الإمارات. وبعد العجز عن شرعنة عملية الاعتقال، نُسبت إلى الطيري تهمة الانتماء لتنظيم القاعدة، ومثله العشرات من اليمنيين.



وأسفرت الحرب التي يشهدها اليمن عن وجود "يمنَيْن" بحكومتين وسلطتين حاكمتين، أحدهما في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الشرعية التابعة للرئيس اليمني عبدربه منصور هادي وعاصمته عدن، والآخر في المناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والتي لا تزال تستحوذ على عدد من المحافظات الشمالية، أبرزها العاصمة صنعاء. وما بين "اليمنَيْن" تقطعت الأوصال المناطقية والاجتماعية، وبات السفر للمواطن اليمني من منطقة إلى أخرى مغامرة محفوفة بالعديد من المخاطر التي تشمل الاختطاف أو الاعتقال أو الابتزاز في أفضل الأحوال.
وكان من نتائج الحرب غلق عدد من الطرق الرئيسية الواصلة بين المدن اليمنية واستبدالها بطرق فرعية بمسافات مضاعفة عن الطرق الرئيسية وأكثر تعرجاً. كما أن النقاط العسكرية التابعة لأطراف الحرب والممتدة على طول هذه الطرق تعد المعضلة الأكبر التي باتت تؤرق اليمني داخل وطنه. فهي تقوم بتفتيش المسافرين واستعراض أسمائهم وأسماء عوائلهم ومناطق ولادتهم ولهجاتهم أيضاً، ثم تقوم نقطة التفتيش باستجواب من ترى أنهم مؤيدون للطرف الآخر، وقد تتخذ إجراءاتها بحق المسافرين ممن لا تروق لها هويتهم.

وخلال تنقله من مدينة إلى أخرى بات المواطن اليمني عرضة للاعتقال والاختطاف بسبب اسم عائلته أو المنطقة التي ولد فيها أو انتمائه السياسي حتى وإن لم يكن طرفاً في الحرب ولا مشاركاً فيها. ولا يمر يوم إلا ويتناقل اليمنيون أخبار اعتقال مسافرين من باصات النقل، خاصة عند الطرقات الرابطة بين محافظة تعز وصنعاء وبين صنعاء ومأرب وعدن.
المواطن عبدالرحمن الآنسي، حصل على فرصة عمل في مدينة عدن في شركة لاستيراد معدات الطاقة الشمسية والتي نقلت مقرها من العاصمة صنعاء مقابل راتب مناسب، لكنه يؤكد في حديث مع "العربي الجديد"، أنه قرر عدم السفر خوفاً من اعتقاله من قوات الحزام الأمني بسبب لهجته ومكان ولادته. فهو ينتمي لمحافظة ذمار التي يُتهم أبناؤها بالولاء لجماعة الحوثي ويتعرضون لمضايقات بسبب هذا الاعتقاد السائد.
يقول الآنسي "طبعاً مخاوفنا هذه لم تأت من فراغ، بل إن العديد من أبناء المنطقة تعرضوا للابتزاز والاعتقال في النقاط العسكرية المحسوبة على الشرعية فقط لأنهم من ذمار، وهذا زرع لدينا مخاوف من السفر إلى تلك المناطق".
في المناطق المحسوبة على الشرعية، خصوصاً في مدينة الضالع، التي تعد بوابة شمالية للعاصمة المؤقتة عدن، غالباً ما يتم اعتقال المسافرين تحت مبررات مناطقية وعنصرية. يتم وصف أبناء المناطق الشمالية من قبل الجنوبيين بأنهم "دحابشة"، وهو مصطلح انتشر عقب حرب صيف 1994، ويتم التعامل معهم بشكل عنصري حيث يتعرضون للابتزاز والتفتيش الدقيق والإهانات ومنعهم في أحيان كثيرة من دخول عدن، وإرجاعهم من نقاط التفتيش القريبة من عدن، خصوصاً نقطة العند التي تقع على بعد 50 كيلومتراً شمال عدن.

عبدالله أحمد الأشوال، من محافظة ذمار، ويبلغ من العمر 65 عاماً، كانت بطاقة الهوية الشخصية سبباً لمنعه من الدخول إلى محافظة عدن عندما اكتشف جنود الحزام الأمني في محافظة الضالع أنه من محافظة عمران. أوقف الجنود باص الأجرة الذي كان على متنه الأشوال و13 آخرون معه، حاول بقية المسافرين إقناع الجنود بأن الرجل يعاني من مرض في الدماغ وأن دخوله إلى عدن من أجل السفر للأردن. طلب الجنود تقارير طبية، فأخرج الأشوال تقريراً طبياً من مستشفى الثورة في صنعاء، لكن الجنود رفضوا بحجة قدرة أي مواطن على استخراج مثل ذلك التقرير. يقول الأشوال "كان لدي ملف من أوراق الطبيب، بينها تقرير لجهاز رنين مغناطسي في (C.D)، كنت أعتقد أنه سيسهل العبور إلى عدن، لكن الجنود أخذوا القرص وذهبوا لتشغيله على سيارة الشرطة اعتقاداً منهم أنه يمكن استعراض التقرير وصور الجهاز في مدخل القرص على السيارة". وبعد 5 ساعات سمحوا بمرور الأشوال، لكن ذلك كان بعد انهياره باكياً يناشد الجنود أن يرحموا حالته المرضية.
كذلك يتعرض معظم أبناء الأسر الهاشمية للابتزاز والاعتقال بتهمة الانتماء لجماعة الحوثيين، وهو الأمر نفسه الذي يتعرض له أبناء عمران وصعدة وحجة، وهي مناطق محسوبة على الحوثيين. غير أن الأمر الأكثر غرابة هو تعرض أبناء محافظة تعز لهذه الممارسات الاستفزازية والعنصرية على الرغم من وقوفهم مع الشرعية.



لا تقتصر هذا الأساليب المتمثلة بالاعتقال وفق بطاقة الهوية على نقاط الحكومة الشرعية والتحالف العربي فقط. تقوم جماعة الحوثيين الانقلابية في مناطق سيطرتها بتفتيش السيارات والحافلات وحتى الجوالات الشخصية للمسافرين واعتقال كل من يتم الاشتباه به بالوقوف في صف الشرعية ووصفهم بـ"الدواعش" والمرتزقة، خصوصاً من ينتمون لمحافظة تعز التي تشهد معارك شرسة بين الجيش التابع للشرعية والانقلابيين.
يقول المواطن نبيل الصبري، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه تعرض للاعتقال "خلال عملي في صنعاء من قبل جماعة الحوثي بعد التحريض علي من بعض أنصار الجماعة من أبناء أسر تربط نسبها إلى الأسر الهاشمية. وكانت هذه الأسر قد غادرت مدينة تعز إلى صنعاء للاستقواء بالحوثيين، وقد تم اعتقالي بعد الوشاية بي واتهامي بأني (داعشي)، وقد استمر تواجدي في سجون الانقلابيين ثلاثة أشهر قبل أن يتم الإفراج عني مقابل فدية مالية، وذلك بعد أن تأكدوا من زيف كل التهم التي اتهمت بها".

وجود صورة لقيادي محسوب على الجيش الوطني والمقاومة مثلاً أو خبر صحافي في مجموعات الواتساب في الهاتف المحمول لأحد المسافرين قد يكون سبباً لتقوم جماعة الحوثي برميه في السجن لأشهر. وسجلت حالات عدة نقل خلالها المحتجزون إلى معتقلات، أبرزها معتقل الصالح، شمال مدينة تعز، أو سجن هبرة في العاصمة صنعاء، والذي يعد من أشهر المعتقلات التي تعج بالمعتقلين والمختطفين السياسيين لدى جماعة الحوثي.
ولم تكتفِ جماعة الحوثيين بذلك، بل قامت في الأسابيع القليلة الماضية باعتقال عدد من الأكاديميين في جامعة صنعاء بالإضافة إلى موظفين مدنيين ونقلتهم إلى جهات مجهولة بسبب سفرهم إلى العاصمة المؤقتة عدن لاستلام رواتبهم من الحكومة الشرعية، على الرغم من أن حكومة الإنقاذ التابعة للحوثيين وغير المعترف بها دولياً تقطع رواتب الموظفين منذ أكثر من عامين.
وبرأي الناشط وليد السوائي، فإن أصعب آثار الحرب وأكثرها وجعاً يرتبط بتمزيق النسيج والتماسك الاجتماعي وتفتيته، والقضاء على الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد، من خلال الاستهداف بالهوية، بسبب الاسم أو المنطقة أو اللهجة أو المذهب أو الملابس ونوعها وحتى القناعة السياسية والفكرية، رغم عدم حمل السلاح وعدم المشاركة في الحرب. ويعتبر أن "تأثير هذه المشكلة يظل على المدى الطويل، وكلما تعمقت داخل المجتمع زادت صعوبة علاجها، خصوصاً إذا ما علمنا أننا في مجتمع قبلي ما زال يستدعي العصبويات والانتماءات الضيقة، وهو ما يجسده السياسيون للأسف الشديد".
ويضيف السوائي: "نحن نعاني من السياسيين بالدرجة الأولى ونحملهم المسؤولية عن انتشار ظاهرة الاستهداف بالهوية نتيجة الخطاب الثقافي الذي مارسوه خلال الحرب، وهو خطاب راديكالي قام بتسخير الدين لصالح السياسة". كذلك يتحدث عن خطورة العصبويات المناطقية من خلال استخدم الخطاب الديني والمذهبي والمناطقي وإضفاء طابعها على الحرب، وكيف أدت إلى ظهور مصطلحات "داعشي، مجوسي، رافضي، ناصبي، منافق، فاسق..."، وكذلك مصطلحات مناطقية مثل "دحباشي"، "برغلي" (مصطلح يطلقه أبناء مناطق شمال الشمال على أبناء تعز والمناطق الوسطى في اليمن ويعني الانتقاص من مكانة سكان هذه المناطق)، و"أصحاب مطلع" أو "الهضبة" (وهي عبارات مناطقية يطلقها سكان مدينة تعز على أبناء المحافظات الشمالية الذين يهيمنون على مفاصل الدولة منذ ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962)، و"أصحاب منزل" (يطلقها أصحاب النفوذ في مناطق شمال الشمال للانتقاص من أبناء تعز وإب والسهل التهامي).

المساهمون