الريف المغربي ... مصالحة يقودها "الاستقلال"

الريف المغربي ... مصالحة يقودها "الاستقلال"

28 يوليو 2018
لريف المغرب علاقة متوترة بعدد من الأحزاب (جلال مرشدي/الأناضول)
+ الخط -
أعادت مبادرة حزب الاستقلال المغربي، بتأسيس لجنة خاصة بهدف إرساء مصالحة مع سكان منطقة الريف، وتقديم الاعتذار لهم في حالة ثبوت علاقة هذا الحزب بالأحداث الدموية التي شهدها الريف في العامين 1958 و1959، والتي عُرفت بانتفاضة الريف، وقوبلت بقمع أمني شديد حينها أفضى إلى سقوط العديد من الضحايا، إلى الواجهة ملف علاقة الريف بالأحزاب السياسية، ومسؤولية هذه الأخيرة عن الإبقاء على التوتر بين الريف والدولة.

وفي خطوة مفاجئة، أعلن حزب الاستقلال أن لجنة حزبية، يترأسها عضو اللجنة التنفيذية والمسؤول عن رصيد وذاكرة الحزب والمصالحة، شيبة ماء العينين، ستعمل على جمع المعطيات التاريخية المرتبطة بأحداث 1958 و1959، والاستئناس بشهادات مؤرخين وشخصيات وطنية ومواطنين من سكان المنطقة عاشوا تلك الحقبة. ووفق حزب الاستقلال، الذي يصطف في خندق المعارضة، فإن الغاية الرئيسية من اللجنة تتمثل في بسط العلاقة بين رموز الحزب في تلك المرحلة التاريخية وبين الأحداث الدامية التي عانى منها سكان الريف، وشكلت إحدى المحطات التي زادت في تكريس النفور بين الريف والدولة.

وتلقت المبادرة الجديدة لحزب الاستقلال إشادات، باعتبار أنها قد تكون خطوة مهمة نحو حلحلة الملفات المتراكمة في منطقة الريف في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، عبر وساطة الأحزاب السياسية، ومن ثم الإمساك بخيط ناظم يزيح ثقل الماضي، ويقرب وجهات النظر بين السكان وقيادات الأحزاب وجهاز الإدارة. المشيدون بالخطوة يرون أيضاً أن اللجنة المرتقبة، لو توصلت بالفعل إلى وجود علاقة بين رموز حزب الاستقلال وبين الأحداث الدامية التي عرفها الريف لإخماد "انتفاضة السكان" في تلك الحقبة بعد استقلال المملكة بسنوات قليلة، فإن الأمر سيكون سابقة من نوعها قد تؤدي إلى مبادرات تفضي إلى نوع من المصالحة بين الريف والدولة، ولو عبر واسطة الأحزاب.

واستبق حزب الاستقلال هذا المنحى من خلال تأكيد أمينه العام نزار بركة، عند زيارته الأخيرة إلى جوهرة الريف الحسيمة، التي انطلقت منها شرارة "الحراك" الذي اعتقل ويحاكم بسببه  العديد من النشطاء، أبرزهم ناصر الزفزافي، أن الحكومة معنية بهذا الملف، من خلال "تحملها كامل مسؤوليتها، والتسريع باستكمال ورش إصلاح الضرر الجماعي، بشقيه التنموي والرمزي، في أفق تثبيت المصالحة بشكل نهائي، وذلك بإحداث القطيعة مع مسببات الاحتقان الاجتماعي بالمنطقة". وما زاد من توهج هذه المبادرة، وتعليق البعض آمالاً كبيرة عليها، أن أمين "الاستقلال"، نزار بركة، ما كان ليزور الحسيمة ويطلق مبادرة المصالحة، ويعد بالاعتذار السياسي العلني لسكان الريف إذا ما ثبت تورط الحزب في أحداث الريف الدامية في 1958، والتي ما زالت تشكل ثقلاً تاريخياً ونفسياً على كاهل سكان الريف، ما كان له أن يفعل ذلك لو لم ينل "ضوءًا أخضر" من صناع القرار في البلاد، خصوصاً أن بركة يحظى بتقدير الدولة وهو يشغل منصباً رفيع المستوى، يتمثل في رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

في المقابل، يعتبر آخرون خطوة بركة وحزب الاستقلال غير مجدية، خصوصاً في الظروف الراهنة التي تتسم بكثير من الاحتقان وسط سكان الريف، لا سيما مدينة الحسيمة، جراء الأحكام السجنية المديدة التي صدرت ضد نشطاء الريف، وفي مقدمتهم الزفزافي وبعض رفاقه، الذين حكم عليهم ابتدائيا بـ20 سنة سجن لكل واحد منهم. ويرى المشككون في مبادرة حزب الاستقلال أنها تدخل من "الباب الخطأ"، باعتبار أنه اشترط للاعتذار ثبوت تورط قيادات الحزب في قمع الانتفاضة الريفية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وهو ما يعتبره مراقبون شرطاً قد يقف في وجه هذا الاعتذار، وبالتالي تكون المبادرة مجرد "ذر رماد في عيون أبناء الريف". منتقدو الخطوة، التي وُصفت بالجريئة من طرف أحد أكبر الأحزاب السياسية في المغرب، والذي كان يقود الحكومة إبان إخماد الانتفاضة في الريف بالقوة، يتوقفون عند زمن إطلاق المبادرة، متمثلاً في محاكمة نشطاء الحراك وسجنهم، وهو ما أطلق موجة عارمة من الانتقادات، ما يعكس نوعاً من تشتيت الانتباه تجاه مبادرة "الاستقلال" وتجاوز الرفض الذي قوبلت به الأحكام السجنية، وفق مراقبين.

رئيس لجنة المصالحة في حزب الاستقلال حاول الرد على هذه الشكوك، بالتشديد على أن "الهدف هو إبداء حسن النية في مكاشفة أبناء الريف حول أحداث مرحلة مهمة من تاريخ المملكة، وتعزيز المسار التصالحي الذي دشنته البلاد عبر عهد جديد بدأ بهيئة الإنصاف والمصالحة". والحديث الذي أثاره حزب الاستقلال عن هيئة الإنصاف والمصالحة، التي عملت على رصد ومواكبة التجاوزات التي حصلت في حق معتقلين سياسيين في عدة مناطق، هو نفسه الذي رد به المتحدث الرسمي باسم الحكومة، مصطفى الخلفي، عند سؤاله بشأن موقف الحكومة من مبادرة "الاستقلال"، عندما اعتبر أن أعمال هيئة الإنصاف "كافية".
ويتهم سكان الريف قادة ورموزاً في حزب الاستقلال بالتورط المباشر في قمع الانتفاضة التي عرفتها المنطقة أواخر الخمسينيات، وذلك في خضم الحكومة، التي كان يقودها الزعيم الاستقلالي، أحمد بلافريج، منذ مايو/أيار 1958 إلى ديسمبر/كانون الأول من السنة ذاتها، وذلك بعد فشلها في إخماد الاحتجاجات التي اندلعت في المنطقة بسبب التهميش الذي عاشته مباشرة بعد استقلال المملكة. وإذا كان بعض قادة حزب الاستقلال "متهمين" بقمع الانتفاضة الريفية، فإن للريف علاقة متوترة منذ ذلك الحين بعدد من الأحزاب التي سعت إلى محاولة تقديم نفسها للدولة بكونها الوسيط المضمون والناجع، كان آخرها حزب الأصالة والمعاصرة الذي يقود عدداً من جماعات وجهات منطقة الريف بفضل نجاحه الانتخابي في المنطقة خلال انتخابات 2011 و2016.

وتظهر مفارقة سياسية وانتخابية فادحة في علاقة سكان الريف بحزب الأصالة والمعاصرة، الذي يوجد حالياً في صفوف المعارضة، إذ إنه رغم وصف العديد من شباب وسكان الريف الحزب وأمثاله بأنها مجرد "دكاكين سياسية" تفتح فقط وقت الانتخابات، فإن الحزب أفلح في كسب أصوات الناخبين فعلاً، وبات يقود أكبر وأكثر الهيئات في الريف. هذا النجاح الانتخابي لحزب الأصالة والمعاصرة في الريف بعث رسائل طمأنة إلى الدولة، التي اعتقدت أنه حزب سيساهم في تخفيف الاحتقان بالمنطقة، ونسج روابط المصالحة المنشودة بين المنطقة والسلطات، خصوصاً بعد أن نجحت قيادات في هذا الحزب في إخماد احتجاجات سكان الريف في 2011.

واندلع "حراك الريف" بعد مصرع بائع سمك في أكتوبر/تشرين الأول 2016، والذي تلته احتجاجات حاشدة دامت أشهراً عدة، وانتهت باعتقالات وأحكام سجنية في حق نشطاء المدينة، ليثير نوعاً من الإحراج لدى حزب الأصالة والمعاصرة، خصوصاً بعد رفض النشطاء والمحتجين أية واسطة من هذا الحزب، وحتى من حزب العدالة والتنمية وغيرهما للتفاوض حول مطالب المحتجين. وتوارى دور "الأصالة والمعاصرة" بعد إخفاقه في إخماد "حراك الحسيمة"، إذ اعتبره البعض جزءًا من المشكل ولا يمكنه أن يكون جزءًا من الحل، غير أن قياديي الحزب كانوا يصرون على أن "الحراك" رفع مطالب مشروعة شكلت دوماً محور برامج الحزب في الإقليم، بينما اعتبر آخرون أن الصراع السياسي بين هذا الحزب وغريمه حزب العدالة والتنمية في المنطقة لكسب الأصوات الانتخابية كان أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الاحتجاجات، وذلك جراء تعطل وتجميد عدد من المشاريع.

المساهمون