غضب جنوب العراق ضد الفساد والبطالة يعرّي "العملية السياسية"

غضب جنوب العراق ضد الفساد والبطالة يعرّي "العملية السياسية"

15 يوليو 2018
متظاهرون يقطعون الطريق المؤدي لحقل القرنة النفطي بالبصرة(فرانس برس)
+ الخط -
في الساعة العاشرة من صباح يوم الأحد الماضي، كان جنوب العراق على موعد مع الشرارة التي فجّرت الأوضاع في مدنه الرئيسية، من خلال احتجاجات واسعة اجتاحت البصرة والنجف وواسط وميسان وذي قار وبلدات أخرى، تعتبر الأعنف من نوعها منذ الاحتلال الأميركي للعراق ولغاية الساعة. بدأت الحادثة من خلال مشاجرة بين شاب عراقي من سكان قرية الجري التابعة لقضاء المدينة شمالي البصرة، مع سائق صهريج يبيع المياه العذبة، بسبب رفعه الأسعار. إذ أدّى ارتفاع ملوحة المياه في شطّ العرب بالبصرة إثر فتح إيران قنوات تصريف المياه المالحة على شطّ العرب، وانخفاض منسوب دجلة والفرات وتوقّف محطة التحلية الرئيسية في المدينة، إلى زيادة معاناة سكان البصرة عموماً. فشراء المياه بات أحد الأعباء الرئيسية التي تضاف إلى انعدام الكهرباء والبطالة وارتفاع نسبة الفقر وتلاشي الخدمات الرئيسية في المدينة.

قسم من المواطنين حاولوا التوجّه إلى قائمقام قضاء المدينة، لشرح الأوضاع المأساوية التي يمرون بها، والشكوى من تحكّم أصحاب الصهاريج بحياتهم وابتزازهم بالأسعار واستغلال حاجتهم، وفقاً للشيخ عبد الله المنصوري، الذي أكّد لـ"العربي الجديد"، أنّ "عدد المواطنين كان يزداد طيلة المسافة التي تفصلنا عن مبنى القائمقامية، حيث انضم الناس لنا بمجّرد معرفتهم أننا متجهون للشكوى".

وتابع المنصوري بأنّ "تصرّف القائمقام المسنود من أحد الأحزاب الدينية، والذي رفض لقاءنا، وطالب الجيش بطردنا، كان القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ أدّى ذلك إلى زيادة عدد الموجودين أمام مبنى القائمقامية، وبالتالي أطلقت قوات الأمن النار باتجاهنا وقتلت أحد الشباب من عشيرة بني منصور، وأصابت ثلاثة آخرين، وهو ما أدى إلى تفجّر الأوضاع وانتقالها إلى مناطق أخرى في البصرة، ومن ثمّ إلى باقي مدن الجنوب". ولفت إلى أنّ "الناس كانوا عبارة عن قنبلة غاز تحتاج من يشعلها".

وتتركّز التظاهرات في البصرة وواسط وميسان والنجف، وبلدتين في كربلاء، وكذلك ذي قار والقادسية وبلدات صغيرة في بابل مجاورة لكربلاء، ويغلب عليها العشوائية في اختيار الأماكن التي تتفجر فيها؛ بين مقار حكومية ومكاتب أحزاب على وجه التحديد، وسط حالة رضا نسبية على ردّ فعل الجيش والشرطة العراقية وأفرادها من سكان تلك المناطق نفسها تجاه المتظاهرين. فرغم سقوط ما لا يقلّ عن 60 جريحاً وثلاثة قتلى في مدن عدة من الجنوب، إلا أنّ متظاهرين أكّدوا لـ"العربي الجديد" أنها نيران حراس مقار الأحزاب والمباني الحكومية، وهم في العادة من المحسوبين أيضاً على الأحزاب والكتل السياسية في العراق. ويعمد المتظاهرون في احتجاجاتهم إلى إحراق الإطارات وتكديس الحجارة وقطع الطرق ونصب الخيام وسطها.

وعقب مقتل الشاب القبلي شمالي البصرة الأحد الماضي، عقدت مجموعة قبائل اجتماعاً عاجلاً تمخّض عنه تحالف أطلق عليه اسم "تحالف الجزاير"، نسبة إلى المنطقة التي عقد فيها اجتماع شيوخ وممثلي العشائر. وضمّ الاجتماع عشائر بني أسد، بني مالك، بني منصور، بني تميم والسعد، الإمارة، السادة، الشرش البو طبيخ، المياح، الكناص، الأحلاف البو كتايب، التمار، العلوان، بني مرة، وعشائر أخرى منضوية معهم، طالبت بتسليم القاتل والضابط أو الشخص الذي أصدر له أمر إطلاق النار على المتظاهرين، إضافة إلى مطالب أخرى، مثل إيجاد حلّ عاجل لمشكلة مياه الشرب والريّ، وتوفير الكهرباء وفرص عمل لأبناء القرى والبلدات المحيطة بحقول النفط، والتي لم يحصلوا منها إلا على التلوّث والأضرار البيئية.


ورفع التحالف العشائري قائمة مطالب إلى الحكومة العراقية ألزمها بتنفيذها وحذّرها من مغبة التعامل بقوة معها. ودعا في بيان "كلّ العراقيين من رجال دين ومشايخ ووجهاء ومثقفين وطلبة علم وباقي الشرائح الأخرى، لمساندة المتظاهرين وتأييدهم بالتظاهرات السلمية، والتي قامت بها عشائر بني منصور وعشائر المدينة والمناطق الأخرى، للمطالبة بحقوقهم، ومنها تحسين الوضع الخدمي من كهرباء وماء وصحة وغيرها"، مطالباً الحكومة الاتحادية والحكومة المحلية ومجلس محافظة البصرة بـ"تحسين الوضع الخدمي للمواطنين، لأنّ هذه الحقوق مشروعة وكفلها الدستور".

وفي هذا الإطار، قال الشيخ ناجي جعفر العبود، أحد زعماء عشائر البصرة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "جنوب العراق ليس أفضل من الوسط أو الغرب والشمال، كما تحاول بعض وسائل الإعلام تصوير ذلك، انطلاقاً من أنّ النظام في العراق طائفي وأنّ الأحزاب ومعاقل المسؤولين هم من الجنوب". وأضاف "الجنوب بشكل عام لا ماء ولا كهرباء، والفقر بلغ مستويات مرتفعة، والبطالة زادت، ومن يريد أن يعمل عليه أن يصبح عضواً في مليشيا أو في حزب إسلامي، ومن يرغب في أن يحصل على مال أكثر، عليه أن ينخرط في حوزة أو مدرسة دينية. التعليم وصل لأدنى مستوياته، والناس ضاقت بهم الحال، والشباب صاروا يركبون البحر لأوروبا، مثلهم مثل ابن الأنبار والموصل أو السوريين، رغم أنه لا داعش لدينا".

ووصف العبود البصرة بأنها "صارت مدينة السرطان، بسبب الأمراض السرطانية التي تفتك بمواطنيها نتيجة اليورانيوم والنابالم، من جراء حرب الخليج الأولى والثانية، والتلوّث الناجم عن عمليات استخراج النفط".

وعلى الرغم من إعلان الحكومة حزمة إجراءات لصالح البصرة، من بينها 10 آلاف فرصة عمل لأبنائها، وإقرار مشروعين للمياء والكهرباء، وجلب سيارات حوضية لنقل المياه الحلوة حالياً، إلا أنّ أيّا من تلك القرارات لم يسهم في تبريد الوضع داخل البصرة أو مدن الجنوب الأخرى.

وتعدّ محافظة ميسان أولى المناطق التي لحقت باحتجاجات البصرة، تلتها ذي قار والنجف، فيما شهدت بغداد تظاهرات بمدينة الشعلة ذات الغالبية الشيعية، ومناطق أخرى. ودعا التيار المدني هو الآخر لتظاهرات في ساحة التحرير لدعم حراك الجنوب.

ولغاية أمس السبت، أحرق المتظاهرون 13 مقراً لكتل وأحزاب إسلامية وهي: 4 لحزب "الدعوة" بزعامة نوري المالكي، اثنان لـ"تيار الحكمة" بزعامة عمار الحكيم، واحد لـ"تحالف الفتح" بزعامة هادي العامري، اثنان لـ"حزب الفضيلة" بزعامة رجل الدين محمد اليعقوبي، ومقر لمنظمة "بدر"، عدا عن مقرّين لمليشيا "العصائب" و"حزب الله"، ومكتب لصهر المالكي. كما تمّ اقتحام مطار النجف الدولي، ما أدّى إلى توقّف الملاحة فيه، واقتحام حقلي رميلة وحلفاية النفطيين ومغادرة عمال النفط الأجانب العاملين فيه باتجاه الكويت. كما أُغلق منفذ الشلامجة مع إيران، وقطعت الطرق نحو منفذ سفوان مع الكويت.

ويستخدم المحتجون بشكل أساس موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" لبث توجيهات وبيانات حول مواقع تجمّع جديدة بمدن الجنوب، في ما ردّت السلطات العراقية بقطع شبكة الانترنت عن جنوب العراق ووسطه.

وخلت التظاهرات من أي شعارات طائفية أو دينية، كما أنّها شهدت ترديد شعارات مناوئة لإيران، بحسب مقاطع فيديو نشرها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي. كذلك، خلت التظاهرات من أي شعارات تطالب بتغيير نظام الحكم أو إسقاط العملية السياسية، لكنها في الوقت نفسه هاجمت زعامات سياسية وأحزاب مختلفة، تسيطر على الملفات الأمنية والاقتصادية والسياسية في جنوب العراق منذ 15 عاماً. ويلاحظ أنّ التظاهرات تتفاوت بين مدينة وأخرى من حيث الشعارات والهتافات المرفوعة، لكنها جميعها تركّز على الفشل الحكومي والفساد.

إلى ذلك، فإن الأشخاص الثلاثة الذين قتلوا في اليومين الماضيين، أحدهم بائع جوال والثاني طالب جامعي والثالث فلاح، وهم من البصرة وميسان والنجف. أمّا الجرحى، فمن شرائح اجتماعية مسحوقة في المجتمع الجنوبي أيضاً.


ورداً على سؤال لـ"العربي الجديد" حول إجراءات الحكومة تجاه التظاهرات، قال مسؤول في الحكومة العراقية في بغداد إنه "يجب أولاً أن نعرف من يحركهم"، لكنه استدرك بأنهم "لا يتبعون جهة معينة، وغالبيتهم من العاطلين عن العمل والمراهقين والناقمين على الأحزاب والكتل الدينية". وبيّن المسؤول أنّ "على المتظاهرين معرفة وضع البصرة الخاص، وأنّ أيّ تأخير في عمليات تصدير النفط من الموانئ، يكبّد العراق خسائر لا تقل عن 10 ملايين دولار بالساعة الواحدة"، وفقاً لقوله.

من جهته، قال أحد المتظاهرين في مدينة أم قصر القريبة من الكويت ويدعى أحمد عباس لـ"العربي الجديد"، "إننا نريد التغيير"، مضيفاً "من المعيب أن نعود مرّة أخرى لبيوتنا من دون أن نغيّر شيئاً ولو بسيطاً، لقد أنهكونا بالديون وهم يعيشون في نعيم. نحن في أسفل المراتب منذ 15 عاماً، ولا شيء سوى الوعود الكاذبة". وتابع "سابقاً كان ابن البعثي يدرس في فيينا وسويسرا، واليوم ابن الشيخ والملا هو من يدرس هناك، ويتنعّم ويطلب منّا الصبر والقتال والموت في سبيل الوطن".

ويبدو تخبّط المسؤولين والزعماء السياسيين في بغداد واضحاً، إزاء التعامل مع الاحتجاجات في الجنوب العراقي. ففي الوقت الذي أعلن فيه المالكي تضامنه وتأييده للاحتجاجات ومطالب السكان في الجنوب، وتبعه العامري وقيس الخزعلي وقيادات حزبية أخرى مثل عمار الحكيم ورجل الدين محمد اليعقوبي، كانت النيران تلتهم مقارّهم في النجف والبصرة وواسط وبلدات أخرى بالجنوب. وهو ما دفع ببعض السياسيين إلى اتهام "داعش" و"حزب البعث" باختراق تظاهرات الجنوب وإحداث أعمال تخريب فيها.

في المقابل، تعتبر خطبة أول من أمس الجمعة، التي ألقاها ممثل المرجع الديني علي السيستاني في النجف، عبد المهدي الكربلائي، بمثابة رسالة دعم للمتظاهرين، حيث أكّد أنّ "البصرة تعدّ مورداً مهماً للعراق، وليس من المقبول، ولا من الإنصاف أن تكون من أكثر مناطق البلاد حرماناً"، موضحاً أنّ "المحافظة هي الأولى من ناحية التضحيات، وشوارعها ما تزال تحتضن صور قتلى الحرب على تنظيم داعش". وأشار إلى أنّ ما حدث في البصرة "كان نتيجة لتراكم الفساد"، داعياً المسؤولين العراقيين "إلى التعامل بجدية مع حاجات المواطنين، والعمل على تحقيق ما يمكن تحقيقه بصورة عاجلة، ووضع برنامج مدروس لحل بقية المشاكل".

وشدّد ممثّل السيستاني على "ضرورة اتباع سياسة حازمة تجاه الفاسدين، ومنع استحواذهم على موارد العراق بطرق ملتوية"، مطالباً بـ"الاستعانة بالخبرات من أجل الوصول إلى حلول جذرية للأزمات الراهنة". لكنّ الكربلائي خاطب المتظاهرين بالقول "يرجى من المواطنين عدم اتباع وسائل غير سلمية في التعبير عن احتجاجاتهم، وعدم السماح لغير المنضبطين بالتعدي على الأموال العامة أو الشركات المتعاقدة مع الحكومة العراقية، لأن أيّ ضرر يصيبها، سيعوض من أموال الشعب نفسه".

وحول ذلك، قال الخبير في الشأن العراقي، محمد عبد الواحد، إن "الاحتجاج الحالي وإن كان غطاؤه الخدمات والفساد والبطالة والفقر، لكنّه لا يخلو من الطابع السياسي وهو ما عكسته الشعارات الحالية". وأضاف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "حركة المتظاهرين اتسمت بعدم التخطيط والتنقل من مكان إلى آخر بلا خريطة أولويات".

ولفت عبد الواحد إلى أنّ "الخطورة الآن في حال انتقلت تلك التظاهرات إلى حالة التنظيم والقيادة الموحدة؛ فهي إمّا ستتلاشى أسوة بما حدث في احتجاجات الأكراد مطلع العام الجاري في إقليم كردستان العراق، أو أنها ستشتعل أكثر، وهو ما سيعتمد على من هي هذه القيادة. ولدينا معلومات بأنّ فصائل مسلحة ورجال دين محسوبين على أطراف معينة يحاولون ركوب الموجة". وختم بالقول "بالتأكيد، إن الحراك الحالي إذا بقي عفوياً سينجح، ويجب ألا يدخله محبي الظهور والبروز واستغلال الفرص، فهم من سيفقد فاعلية الاحتجاجات التي هي في النهاية لا تستهدف إسقاط نظام حكم، بقدر ما تريد تصحيح وضع مزر يعيشه الناس منذ 15 عاماً".

المساهمون