"العربي الجديد" في ميدي: الرئة اليمنية التي تقتلها الألغام

"العربي الجديد" في ميدي: الرئة اليمنية التي تقتلها الألغام

19 يونيو 2018
اتهامات للحوثيين باستخدام ميناء ميدي لتهريب الأسلحة (همدان العليي)
+ الخط -
تتعدد جبهات القتال بين قوات الحكومة الشرعية مسنودة بالتحالف العربي من جهة، والحوثيين من جهة أخرى في اليمن. وقد تسنّى لـ"العربي الجديد" زيارة العديد من هذه الجبهات من الجانب الذي تسيطر عليه قوات الشرعية. وكانت البداية من ميدي الساحلية، أقصى شمال غرب البلاد، على الحدود مع السعودية، والتي أحكمت القوات الشرعية السيطرة التامة عليها منذ نحو شهر، بعد مواجهات شرسة مع جماعة "أنصار الله"، دامت 3 سنوات. تطلّ مدينة ميدي، مركز المديرية التي تحمل الاسم ذاته، على البحر الأحمر، والوصول إليها تطلّب سلوك طريق ترابية مشقوقة حديثاً، تمتدّ من منطقة الموسّم الحدودية، وتتحاشى المرور من طريق حرض الاعتيادي الذي لا يزال مصنّفاً كمنطقة عمليات عسكرية.

أوّل المستقبلين في هذه المدينة الصغيرة هو الدمار الكبير الذي حلّ بكل منازلها ومرافقها الحيوية، وأبرزها مستشفى ميدي الريفي الذي لم يبق منه سوى جزء من السور بعدما اتخذ الحوثيون منه متراساً للقتال، كما هو الحال بالنسبة لبقية المنازل، وفق ما يفيد به جنود هناك. ويبدو مشهد المدينة بعد ثلاث سنوات من القتال وكأنها هيروشيما أو ناكازاكي في اليابان بعد قصفهما بالقنبلة الذرية. فالفارق كبير بين الصور المتداولة عن المدينة قبل الحرب وبين ما التقطته عدسة "العربي الجديد" اليوم. تكاد المدينة تنعدم من السكان الذين لا يزالون في مخيمات النزوح المجاورة، باستثناء القليل منهم. ومن هذا القليل هناك الشيخ الخميسي، وهو أحد أبناء المديرية ممن قاتلوا إلى جانب الشرعية، واسمه خميس مقبل أحمد هارب. ويؤكّد الشيخ الخميسي لـ"العربي الجديد"، أن معارك استعادة المديرية من قبضة الحوثيين كلّفت المئات من مقاتلي الشرعية، بينهم اثنان من أبنائه، وآخران من زملائه.

تتمتع مديرية ميدي، كغيرها من المناطق التهامية، بأراض سهلية ومنبسطة. تمتدّ على مساحة 60 كيلومتراً مربعاً، ومناخها حار وشديد الرطوبة، خصوصاً في فصل الصيف، أي في هذه الأوقات من السنة. يعتمد معظم أبنائها الذين أشار آخر إحصاء في العام 2004 إلى أنّ عددهم يبلغ 17 ألف نسمة، على الصيد، وقليل منهم مغتربون. ويتردد اسم ميدي كثيراً لدى الحديث عن الوحدة الوطنية، مقروناً بمنطقة حَوْف في محافظة المهرة، اذ تقع الأولى في أقصى شمال غرب البلاد والثانية في أقصى جنوب شرق البلاد. ويوصف اليمن بأنه وحدة واحدة من حوف إلى ميدي.

في ميدي، لا شيء يعرف من معالم المدينة سوى بوابة قديمة انتصبت أمامها سارية حديثة للراية اليمنية. وفي الطريق من مركز المدينة الصغيرة إلى مينائها ثمّة كورنيش صغير على يمين الطريق كان يرتاده أهالي المنطقة والزوار القادمون من حرض (المديرية المجاورة) وبعض مديريات حجة وصعدة، لكنه اليوم بات شاهداً على حجم الدمار الذي خلفته المواجهات... ولدى النظر إلى الثقوب التي خلّفها الرصاص في أعمدة الإنارة الموزعة على جانبي الكورنيش، يقف المرء مذهولاً أمام كمية الذخيرة التي استنفدها الطرفان في هذه المنطقة المحاطة من جهة البحر ببعض أشجار "المانجروف". هذه الثقوب هي ما وثقته أعمدة النور في هذا المكان البعيد نسبياً عن مسرح المواجهات، في حين أنّ هناك رصاصاً كثيفاً مرّ ولم يوثقه عمود أو جدار.

على يمين الطريق الترابية المؤدية للميناء، ثمّة تلّ صغير يسمى قلعة ميدي، وهو المكان الوحيد المرتفع في هذه المنطقة السهلية. وكانت السيطرة عليه من قبل قوات الشرعية تعدّ منعطفاً فارقاً في طريق استكمال السيطرة على باقي المنطقة. وبين جنبات الميناء المرصوف بأحجار ضخمة، ثمّة سفن قديمة للصيادين، وعلى مقربة منه سوق للسمك متوقّف حالياً. ويقول بعض الصيادين لـ"العربي الجديد"، إنّ هذا السوق كان يأتي إليه صيادون من إريتريا، في الضفة المقابلة لميدي على الجانب الأفريقي، من دون أي إجراءات دخول من قبل الجانب اليمني.


أعطى الميناء للمنطقة أهمية عسكرية، مضافةً إلى الأهمية المكتسبة من موقعها الحدودي بين اليمن والسعودية. إذ توالت اتهامات الحكومة منذ الحروب الست للحوثيين (جولات من المواجهات بين عامي 2004 و2009) بأنهم يستخدمون ميناء ميدي لتهريب الأسلحة. والميناء وإن كان يتبع إدارياً لمحافظة حجة، إلا أنّه عملياً أقرب الموانئ لمحافظة صعدة، معقل الحوثيين الأول ومكان إقامة زعيمهم عبد الملك الحوثي، فضلاً عن أنّ تقارير سابقة تحدثت منذ العام 2007 عن أن الحوثيين يقومون بشراء أراض واسعة قرب ميناء ميدي تمهيداً للسيطرة عليه. وهو ما أكده أحد أهالي المدينة لـ"العربي الجديد"، قائلاً إن الحوثيين اشتروا مئات من "المعادات" هناك (المعاد وحدة قياسية محلية تساوي قرابة الأربعة آلاف متر مربع). وبالتالي فإن سيطرة الجيش الوطني التابع للشرعية على مديرية ميدي ومينائها الهام تعني حرمان الحوثيين من رئة بحرية هامة كانوا يتنفسون عبرها ويستجلبون بواسطتها السلاح والمؤن. فأهمية ميناء ميدي لصعدة توازي أهمية ميناء الحديدة للعاصمة صنعاء، علاوة على أن ميدي تتبعها 60 جزيرة صغيرة، 12 منها مأهولة بالسكان.

وبالسيطرة على ميدي، تكون الحديدة قد وقعت بين كماشتين: كماشة القوات الزاحفة من جنوبها وهي الآن الأقرب إليها، وكماشة القوات التي باتت مسيطرة في ميدي من جهة الشمال، والتي يفصلها عن مدينة الحديدة عدة مناطق ساحلية، أبرزها منطقة عَبْس واللحية والصليف. وفي هذا الإطار، تجد شعارات في أرجاء ميدي كتبها جنود الشرعية تقول "قادمون يا تهامة". علماً أنّ بعض وسائل الإعلام التابعة للحوثيين لاتزال تنفي إلى اليوم سيطرة الشرعية على ميدي، على ما يبدو، حفاظاً على معنويات مقاتليها في بقية الجبهات.

يتحدّث أركان حرب المنطقة الخامسة، العميد عمر جوهر إبراهيم، عن أن استعادة ميدي تمّت بعد معارك ضارية ساند فيها التحالف بقيادة السعودية، الجيش الوطني جوياً وبحرياً، عبر غرفة عمليات مشتركة تقع في منطقة تابعة لمحافظة جازان السعودية المحاذية لميدي. وكان للجنود المشاركين من السودان دور في تحرير المنطقة في إطار العملية التي أطلق عليها اسم "الرمح الذهبي"، وسقطت منهم أعداد من القتلى برصاص الحوثيين وألغامهم المزروعة في كل مكان. لكن المنطقة الآن تخلو من أي جنود غير يمنيين.

وللألغام في ميدي قصة يطول شرحها؛ فوفق إفادات العديد من الجنود والأهالي، تمّ زرعها من قبل الحوثيين بكميات كبيرة وفي مناطق عديدة وبأحجام وأشكال مختلفة، ما جعل عدد جرحى الحرب مبتوري الأطراف من الجنود والمواطنين في هذه المنطقة كبيراً، قياساً بجبهات أخرى. ويتحدّث بسام الجبري، وهو ضمن الإعلام العسكري التابع لقوات ميدي، عن أن ثمّة ألغاماً فردية وألغاماً وتدية (موصولة بأسلاك إلى جسم آخر) وألغاماً مضادة للدروع وألغاماً محلية الصنع، إضافة إلى نوع آخر من الألغام الذي يتم وضع قنبلة تحته، بحيث إذا تم تفكيك اللغم يغدو من الصعب السلامة من انفجار القنبلة.

ويقول الجبري في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الألغام في هذه المنطقة كانت أشبه بالبلاط، وتم نزع 600 لغم في يوم واحد من مسافة كيلومتر واحد في بداية وادي حيران التابع للمديرية"، مقدراً عدد الألغام التي تم نزعها إلى الآن بـ"خمسة آلاف لغم تم إتلافها والتخلّص منها فور نزعها حتى لا تزرع مرة أخرى". ويضيف الجبري أنّ "الجنود عثروا على نحو 25 ألفاً من أقفاص الألغام في منزل واحد كان تحت سيطرة الحوثيين، ما يعني أن الألغام غير المنزوعة أكثر من تلك التي تم نزعها. من أجل ذلك لا تزال المنطقة محظورة على المدنيين وممنوع على النازحين العودة إليها".

ويحكي الجنود العديد من القصص حول الألغام والتضحيات التي بذلها الاختصاصيون لنزعها، إذ قتل بعضهم أثناء قيامه بهذا العمل، فيما فقد آخرون أطرافهم بسببها. ويشير أحد الجنود إلى نوع ثالث من الموت المفاجئ الذي خلفه الحوثيون، وهو العبوات الناسفة التي توضع في الطرقات ويتم تفجيرها عن بعد، موضحاً أنه من الصعب اكتشافها بواسطة مجسات الألغام. ويعزو جندي آخر جنوح الحوثيين لغرس الألغام بهذه الكثافة، إلى "أنهم على يقين من أنهم لن يستعيدوا منطقة فقدوها".

وإلى جانب الألغام، كان القناصون هم العنوان الثاني للموت المباغت؛ إذ كان عدد الضحايا الذين ذهبوا ضحية القنص كبيراً، قياساً بالعدد الإجمالي للضحايا. وبحسب أحد الجنود، فقد تمترس قناصون حوثيون في منارة المسجد الكبير بالمدينة وأماكن أخرى، مسببين مشكلة كبيرة أعاقت تقدّم الجيش لأيام.

تجدر الإشارة إلى أنّ المواجهات العنيفة التي دارت في مديرية ميدي ومديرية حرض المجاورة، تسببت في قطع الطريق الدولي وإغلاق المنفذ الحدودي الأكثر أهمية بين اليمن والسعودية، وهو منفذ حرض. وبإغلاقه منذ صيف العام 2015، تم ضرب الشريان الاقتصادي الذي كان يعتاش عليه العديد من الأهالي أصحاب المحلات الخدمية في المنفذ، في حين اضطر بعض أصحاب المطاعم الشهيرة إلى الانتقال إلى منفذ الوديعة الواقع بين حضرموت من جهة اليمن، وشرورة من الجانب السعودي، محتفظين بأسمائها نفسها، لما لها من شهرة.

ومثلما أثّر إغلاق منفذ حرض على أهالي المنطقة، فقد أثّر أيضاً على الآلاف من المغتربين اليمنيين في السعودية الذين يواجهون اليوم معاناة كبيرة جراء تحولهم الاضطراري للمنافذ البديلة، وهو ما يجبرهم على قطع مسافات مضاعفة للوصول إلى مدنهم وقراهم، وخصوصاً المغتربون المتحدرون من محافظات صعدة، حجة، صنعاء، ذمار، إب، الحديدة، تعز، عدن، لحج، الضالع، المحويت وريمة.

المساهمون