الطريق بين صنعاء وسيئون: الهوية أخطر من السلاح

الطريق بين صنعاء وسيئون: الهوية أخطر من السلاح

05 مايو 2018
لا يستطيع المواطن اليمني السفر داخلياً بدون التعرّض للتدقيق(الأناضول)
+ الخط -

لم تعد تذكرة وجواز السفر كافيين للعبور من نقاط التفتيش المنتشرة على طول أكثر من 720 كيلومتراً بين العاصمة صنعاء ومدينة سيئون بمحافظة حضرموت، فلا بدّ من "كرت" خاص بتأكيد الحجز وبختم رسمي من "طيران اليمنية"، ولا بدّ أيضاً من تقرير طبي صادر عن مستشفى "الثورة" العام في صنعاء للمسافرين بغرض العلاج، أو دعوة مشاركة للمسافرين بغرض العمل، ذلك أن العابرين من هذا الطريق متوجهون للخارج غالباً. أمّا المسافرون إلى مناطق داخل اليمن، فقد يكون فحص التأكّد من هويتهم وغرض سفرهم أكثر تدقيقاً، إذ لا تعبر حافلة النقل البري بمقاعدها الـ47 من دون أن ينقص عدد ركابها في واحدة من نقاط التفتيش، إذا لم يحمل المسافر بطاقة هوية ومبرّراً مقنعاً لسفره يبرزه لمجنّد نقطة التفتيش.

في مناطق سيطرة الحوثيين، تعدّ نقطة التفتيش في منطقة رداع، والشهيرة بنقطة "أبو هاشم" نسبة لقائدها السابق قبل أن يتولّاها مشرف جديد يكنى "أبو تراب"، أكثر النقاط تشديداً على المسافرين باتجاه مأرب وسيئون، وفيها صعد مجنّد لا يتجاوز الــ17 من العمر يرتدي زياً شعبياً ويحمل سلاح كلاشينكوف وجهاز اتصال "هوكي توكي"، إلى الحافلة، حيث دقّق في وجهة كل مسافر وهدفه ووثائقه. وبعد أن وجّه نصائح كثيرة للبعض بأنّ الجهاد أهم من أهداف سفرهم الترفيهية، غادر الحافلة بصحبة ثلاثة من المسافرين لم يقتنع بمبررات سفرهم، ولا أحد يمكنه إقناعه بتركهم بالطبع.


وعلى الجانب الآخر في مناطق سيطرة الشرعية، فإن نقطة مدخل مدينة مأرب والتي تعرف باسم قائدها أيضاً "أبو صلاح"، هي الأكثر تشديداً، فبعد أخذ جوازات وبطاقات جميع الركاب، تمّت مناداة ستة من المسافرين كانوا من منطقة واحدة بمحافظة عمران، ويحملون جوازات سفر جديدة صادرة من صنعاء. توقّفنا أكثر من ساعتين قبل أن ينجح أحد الموقوفين بالتواصل مع قريب له يعمل مع الشرعية في مأرب، قام بالتعريف عنه وعن رفاقه الخمسة، ليتمكنوا من مواصلة الرحلة باتجاه سيئون ثمّ القاهرة للعلاج.

عند العودة باتجاه صنعاء، وفي نقطة "أبو صلاح" في مأرب، تمّ إيقاف أحد أبناء المدينة الذي لم يكن يحمل بطاقته الشخصية، فقد غادر منزله فجأة لإسعاف إحدى قريباته إلى مستشفى في سيئون، ولم يتذكر اصطحاب بطاقته حينها، ارتفع صوت الرجل غاضباً متوجهاً لجندي النقطة بالقول: "يا ابني شكلهم ما علموكم كيف تتعاملوا مع أصحاب العوائل، هذا عارنا كلنا، أي عائلة هي شرف كل يمني حتى لو كان حوثياً، عيب عليكم"، أقنعنا الرجل بصعوبة بالذهاب لضابط النقطة، فذهب إليه حاملاً سلاحه الكلاشينكوف، إذ لم يعد السلاح هدفاً للتفتيش في أية نقطة، وكل ما يبحثون عنه هو هوية المسافر، عاد الرجل بسرعة وقد هدأ غضبه، لنواصل السفر مع تساؤل إحدى المسافرات: "في حدود أية دولة نحن، لماذا كل هذا التشديد، هل نحن في اليمن؟".

بين مأرب وسيئون لن يسألك أحد لماذا وأين؟ وبعض نقاط التفتيش تكتفي بكشف بأسماء المسافرين الذي يحمل سائق الحافلة نسخاً كثيرة منه، وقد يصعد بعض المجندين إلى الحافلة لأخذ بطاقات الهويات ومقارنتها بأصحابها من دون مزيد من الأسئلة. لكن بين مأرب وذمار مروراً بالبيضاء، ترتفع درجة التدقيق أكثر من المعتاد، وإن كنت عائداً من جهة سيئون، فسيكون السؤال الذي يتلقاه سائق الحافلة دائماً "معك أحد من مأرب؟"، وكثيراً ما يكتفي الجندي بتأكيد السائق بأنّ جميع المسافرين قادمون من سيئون، ولا أحد صعد من مأرب.

في وادي محلل، في آخر مناطق مأرب، توقّف سائق الحافلة رافضاً التقدّم باتجاه البيضاء، فعادة ما يقوم السائق بتحديث معلوماته حول الطريق بسؤال رفاقه من السائقين القادمين منها عن اتجاه سيره المعاكس، وقد جاءت الأنباء بحدوث اشتباكات في منطقة قانية الفاصلة بين مأرب والبيضاء، حيث هاجم الحوثيون نقطة للشرعية هناك، وكنّا على بعد كيلومترات قليلة منها، وعندما جاءت إشارة العبور من سائق قادم أخبرنا بتوقف الاشتباكات بعد استعادة الشرعية للنقطة، تحرّكنا مجدداً.


في منطقة قانية، تقف أطقم عسكرية على جانبي الطريق، محتميةً بالتلال بطريقة لا تصلها قذائف الحوثيين، مدرّعة واحدة وقرابة 20 طقماً من طراز تويوتا اليابانية في 4 أماكن تجمّع، في آخرها كان الجنود منقسمين، فنصفهم يؤدي صلاة الفجر، والنصف الآخر يحمل سلاحه.

في الجهة الغربية للطريق، كان هناك ما يشبه الألعاب النارية تتساقط باتجاه واحد، إنها قذائف سلاح متوسّط كما يبدو، تنطلق من مناطق الشرعية باتجاه مناطق الحوثيين. وفي آخر منعطف تتواجد فيه قوات شرعية، لم نقطع أكثر من 500 متر لنصل إلى أول تجمع للحوثيين ومعهم سيارة فورد أميركية عليها سلاح رشاش، يبدو أنها من عتاد القوات الخاصة التي كانت مدعومة أميركياً، إلى جانب ثلاثة أطقم من طراز تويوتا، فضلاً عن أطقم أخرى متوارية تحت الأشجار، لكن لم يكن أي من الطرفين في وضعية استعداد قتالي، فقد انتقلت الاشتباكات إلى مناطق داخلية بعيدة نسبياً عن الطريق العام.

دخلنا للتوّ مديرية آل عواض المحاذية لمأرب والتي يتحدر منها ياسر العواضي، الأمين العام المساعد لـ"حزب المؤتمر الشعبي" العام، وقد عاد إليها بعد مقتل علي عبد الله صالح، من دون أن يصدر عنه موقف مختلف حتّى الآن، لكنه من الشخصيات التي لا يمكن إغفالها في الحزب، وأحد أبناء البيضاء قال إنه يدعم القوات المهاجمة للشرعية، إلّا أنه لم يكن من الممكن تأكيد صحّة هذه المعلومات.


آل عواض منطقة ذات تلال متقاربة الارتفاع، لا تسمح لأي طرف بالتحكّم بالآخر أو بالحصول على امتياز جغرافي يجعله أعلى من خصمه، أو في متناول قذائفه بشكل مسيطر، وليس هناك سبب واضح لمهاجمة الحوثيين للشرعية في منطقة لا تعد جبهة قتال منذ بداية الحرب. علماً أن الاشتباكات استمرت من عصر يوم الثلاثاء حتى فجر الأربعاء (4 إبريل/ نيسان الماضي)، قبل أن تستعيد قوات الشرعية تلك النقطة. لكن أي تقدّم أو توسّع يغيّر خريطة التواجد لأي من الطرفين، لم يكن وارداً تقريباً.


مناطق محافظة البيضاء مثل آل عواض وردمان وعفار، إذ تتشارك خصائصها مع المناطق المجاورة لها، فترى أحجار البناء شبيهة بأحجار مأرب، ونمط المساجد شبيه بنمط مساجد سيئون وحضرموت، ونمط البيوت قريب من نمط بيوت يافع. ولأن الوقت مبكر، فلن ترى مشاهد الحياة في مناطق مرورك، باستثناء نقاط التفتيش والشعارات الخاصة بجماعة الحوثيين.

في النقاط الأولى في البيضاء، وهي أولى مناطق تواجد الحوثيين، ترتفع شعارات الجماعة من دون العلم اليمني، وكأنه تكثيف حضور لوضع القادم في الصورة بأنه خرج للتو من مناطق الشرعية إلى مناطق الجماعة، لكن العلم اليمني يرتفع إلى جوار شعارات الجماعة في النقاط التالية.

في منطقة صافر بمأرب وفي مداخل البيضاء، تصطفّ قاطرات الغاز بكثرة، ولا أحد يعلم إن كانت فارغة أم ممتلئة، لكنها تلفت الانتباه بقوة في ظلّ أزمة الغاز المنزلي المختفي من الأسواق منذ مارس/ آذار الماضي، وكل طرف يورد مبررات مختلفة عن الآخر حول سبب هذه الأزمة.

صعد إلى الحافلة فتى بعمر 15 عاماً يحمل بطانية واحدة هي كل متعلّقاته في السفر من مأرب إلى سيئون، جلس على مقعد مجاور لي، وأخبرني بأنه جاء من محافظة إب بحثاً عن عمل، وأنه عمل في مزارع البطاطا بمأرب لأسبوع مع رفاق له هربوا في قاطرة شحن، ليتمكنوا من تجاوز نقطة "أبو هاشم" التي أعادتهم باتجاه إب عندما قدموا للمرة الأولى، خوفاً من ذهابهم للقتال في صف الشرعية. كانوا ينامون ليلاً على أرصفة المدينة، حيث قاموا بشراء بطانيات تقيهم البرد، لأنهم لا يقدرون على دفع إيجار سكن. وبعدما جمع الفتى مبلغاً كافياً من المال للسفر إلى سيئون، توجه إليها لأن هناك حاجة لعمّال البناء فيها، وهو يجيد أعمال النجارة التي اكتسبها عن والده طفلاً، كما قال.

توقفت الحافلة للعشاء في محطة بن معيلي في مأرب، فأطل من بوابة الخروج شيخ يتسوّل ويدعو الله أن "يحفظ الدولة"، بينما كان هناك أربعة شبّان قادمون من منفذ الوديعة على الحدود مع السعودية يبحثون عن مقاعد فارغة في الحافلة، إذ تمّ ترحيلهم مع آلاف اليمنيين أخيراً. قال أحدهم "6 أشهر لا غير مضت منذ دخولي إلى السعودية، لم أتمكّن من توفير أي مبلغ ولا ممارسة أي عمل، ولكن قسماً بالله سنأخذ حقنا اليوم أو بعد ألف سنة".

كان سائق الحافلة حريص على التأكّد من أنّ أيّ راكب جديد لديه بطاقة هوية حتى لا تتعرقل أمورنا عند نقاط التفتيش بسببه، لكنه لم يسأل شاباً صومالياً صعد معنا عن هويته، قال إن لا أحد من الشرعية أو الحوثيين يسأل الصوماليين عن هوياتهم، طالما هو متأكّد من أنهم صوماليين فعلاً وليسوا يمنيين متخفين.

وعلى جانبي الطريق، ترى مجموعات صغيرة من الصوماليين يمشون على أقدامهم، البعض منهم يقصد منطقتي قيفة ورداع في البيضاء للعمل في مزارع القات، والبعض يحاول الهروب إلى السعودية.

كان السائق بين وقت وآخر يرفع صوت أغنية تعود إلى الحملة الانتخابية لعلي عبد الله صالح في آخر انتخابات رئاسية عام 2006، يقول مطلعها "نعم نعم لك يا علي"، لكنه لا يستمر بسماعها أكثر من دقيقة في كل مرة. قد تكون شاشات فيديو حافلات النقل الجماعي وسيلة دعائية ناجحة لصالح بعد موته، فلا أحد من المسافرين اعترض على الأغنية الداعية لانتخابه قبل أكثر من 12 عاماً، لأنه يعايش وضعاً شديد الصعوبة والتعقيد، لا يستطيع فيه السفر من منطقة يمنية إلى أخرى من دون التعرّض للتدقيق والأسئلة الخاصة بالهوية والانتماء بشكل لم يعهده من قبل.