العراق: انتخابات بنكهة إقليمية

العراق: انتخابات بنكهة إقليمية

12 مايو 2018
تخوض مليشيا "الحشد" الانتخابات عبر تحالف "الفتح"(أحمد الربيعي/فرانس برس)
+ الخط -
انطلقت الانتخابات البرلمانية العراقية، اليوم السبت، في نسختها الرابعة منذ احتلال عام 2003، والثانية التي ينظّمها العراقيون بأنفسهم، وسط إجراءات أمنية مشددة وانتشار لأكثر من نصف مليون جندي وعنصر أمن من القوات النظامية حصراً، مع استبعاد مليشيات "الحشد الشعبي" من أي دور تنظيمي فيها بسبب اشتراكها في الاستحقاق ترشيحاً وتصويتاً. ويشارك أكثر من 24 مليون عراقي في عملية الاقتراع التي ستُنتج برلماناً وحكومة جديدين، يواجهان أكثر من 20 ملفاً مهماً وحساساً ذات أبعاد سياسية وأمنية واقتصادية محلية وخارجية، من بينها وقف الهيمنة الإيرانية على السلطة العراقية، والملف الكردي وعلاقة إقليم كردستان ببغداد، وتثبيت الأمن الهش في البلاد بعد حرب طاحنة مع تنظيم "داعش" تكبّد فيها العراقيون خسائر بشرية بلغت أكثر من ربع مليون قتيل وجريح ودمار هائل في أكثر من 40 مدينة وقضاء ومنطقة، شمال وغرب ووسط العراق، إضافة إلى إعادة جميع النازحين إلى مدنهم، وإطلاق حملة إعمار البلاد، وتعديل فقرات الدستور، وملف حقوق الإنسان، وتحقيق المصالحة الوطنية وملف البطالة والفقر المتفاقم في الشارع العراقي ومحاربة الفساد. عدا عن ملفات "الحشد الشعبي" وقوات العشائر، وقوانين النفط والغاز، والمناطق المتنازع عليها، والوجود العسكري لأربع عشرة دولة، أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا وإيران وتركيا، داخل الأراضي العراقية.

خارجياً يُنتظر من الحكومة العراقية الجديدة القيام بدور متوازن في علاقاتها بين المحيط العربي الطبيعي والنفوذ الإيراني، الذي أخذ في السنوات الأخيرة شكلاً شبيهاً بالانتداب على البلاد، أمنياً وسياسياً وحتى اقتصادياً، وبين أجندة الإدارة الأميركية المتقلبة في المنطقة.

مفارقات جديدة

يمكن وصف الانتخابات العراقية في نسختها الرابعة بأنها تختلف عن سابقاتها بأوجه عدة؛ فهي الأولى التي يشارك فيها من يطلق عليهم اليوم مصطلح "جيل الاحتلال" من مواليد عام 2000 الذين أكملوا للتو سن الثامنة عشرة، واستيقظوا على الحياة في بلد محتل غارق بالإرهاب والعنف الطائفي والهيمنة الإيرانية على معظم القطاعات، وعددهم أربعة ملايين ونصف مليون، وفقاً لتقارير وبيانات المفوضية العليا للانتخابات، ومستهدفون بشكل رئيس من الأحزاب الإسلامية والمرشحين المعروفين بنبرتهم الطائفية العالية. كما أن هذه الانتخابات هي الأولى التي تدخل فيها القوى العربية السنّية والشيعية مشتتة وغير موحّدة، وكذلك الكردية، عدا عن تحالف هجين بين التيار الصدري والحزب الشيوعي، وغياب المكوّن المسيحي من 50 بلدة ومنطقة وقرية في نينوى، يُتوقع أن يشارك أقل من ثلثهم في الانتخابات في المهجر بشكل يؤثر على تمثيلهم السياسي في مناطق تُعتبر موطن ومرتكز الطوائف المسيحية العراقية، كسهل نينوى والموصل وكركوك وبغداد.

كذلك فإن هذه الانتخابات تجري اليوم وسط اختفاء السطوة الكردية على 7 مدن مختلطة شمال العراق استعادتها بغداد في حملة عسكرية ضخمة قبل بضعة أشهر، كما تغيب أكثر من 10 مناطق عن الانتخابات بسبب تواجد أهلها في المخيمات ومعسكرات النزوح بفعل رفض مليشيات "الحشد" لعودتهم، مثل جرف الصخر وبيجي والصينية ويثرب والنخيب والعويسات وذراع دجلة وسلمان بيك ومناطق أخرى من حزام بغداد.

ومن المفارقات الجديدة في هذه الانتخابات أيضاً، التمثيل السياسي الرسمي لمليشيات "الحشد الشعبي" التي تدين غالبية فصائلها بالولاء لإيران، في مقابل وجود تيار مدني له تمثيل أوسع من أي انتخابات ماضية. وأخيراً، يُعد هذا الاستحقاق أول انتخابات تتم بطريقة الاقتراع الإلكتروني. ووسط توقعات بمشاركة منخفضة من قبل العراقيين لا تزيد عن 50 في المائة، ينتشر أكثر من نصف مليون جندي وعنصر لتأمين الانتخابات، بينما تم إغلاق المطارات والمنافذ البرية في عموم البلاد مع حلول فجر اليوم، السبت، وأقصيت مليشيات "الحشد" عن تأمين الانتخابات كونها خصماً سياسياً يشارك عبر قائمة "الفتح" التي تخوض الانتخابات، وتُقدّم زعيمها هادي العامري لمنصب رئاسة الوزراء في الحكومة المرتقبة.

وتشارك في هذا الاستحقاق، وفقاً لقاعدة بيانات المفوضية العليا للانتخابات المسؤولة عن عملية الاقتراع وإعلان النتائج، 204 أحزاب وكيانات سياسية، و71 تحالفاً انتخابياً كبيراً، وبعدد مرشحين بلغ أكثر من سبعة آلاف مرشح، من بينهم أكثر من ألفي مرشحة، يتنافسون على 329 مقعداً في البرلمان. ويبلغ عدد العراقيين الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات 24 مليوناً و33 ألف مواطن، موزعين على 52 ألف مركز انتخابي في 18 محافظة، ينتخبون في كل محافظة نواباً ممثلين عنهم في البرلمان بواقع نائب لكل 100 ألف نسمة، فيما تم تخصيص 8 مقاعد للمسيحيين والصابئة والأيزيديين والشبك.

هواجس وأهداف مختلفة

ووسط توقعات مراقبين محليين باختفاء وجوه وشخصيات ألفها العراقيون بعد الاحتلال الأميركي بسبب تراجع شعبيتها، فإن الخوف من تصدّر شخصيات أخرى ذات خلفية مليشياوية للمشهد السياسي يسيطر على الكثيرين، فوجود أسماء مثل هادي العامري وعلي الكعبي وفاضل عبود، المعروف باسم أبو خميني، ضمن قائمة المرشحين للانتخابات، يثير قلقاً كبيراً على شكل البرلمان المقبل، على الرغم من وجود تيار مقابل صاعد وهو التيار المدني الذي شكّل تحالفاً نوعياً مع التيار الصدري يُعتبر ناجحاً ظاهرياً حتى الآن.
بينما تأمل القوى المدنية أو اللادينية المشاركة في الانتخابات، بالحصول على أكثر من 30 مقعداً برلمانياً بما يؤهلها لأن تدخل كقوة جديدة في البرلمان العراقي الجديد، وكذلك الحكومة، مستغلة حالة النقمة الشعبية من تجربة حكم الأحزاب الإسلامية الطائفية في السنوات الـ15 الماضية.


ويبقى هاجس التزوير ملازماً للعراقيين، ومن خلاله انطلقت دعوات في الساعات الماضية لتحذير الناخب العراقي من أن مقاطعة الانتخابات ستفسح المجال لأحزاب السلطة لتزوير الانتخابات والتلاعب بنتائجها. وتحاول مفوضية الانتخابات نفي إمكان التلاعب أو التزوير بالنتائج، إذ أوضح عضو مجلس أمناء المفوضين في المفوضية، حازم رديني، في مؤتمر صحافي، أنه "لا يمكن التلاعب بنتائج الانتخابات من خلال أجهزة الاقتراع الإلكتروني"، مضيفاً: "حتى الموظفين جرى تعيينهم عن طريق القرعة، وهم مختلفو التوجهات والانتماءات، وكل مراكز الاقتراع فيها مراقبين من الكيانات السياسية". ورأى أن "التشكيك والتخوّف والطعن بنزاهة الانتخابات أمر طبيعي، فهناك أكثر من 7 آلاف مرشح، وفي النهاية الفائزون هم 329 فقط، ولهذا يطلق البعض هذه التصريحات"، مشدداً على أن "هذه الانتخابات ستكون أكثر نزاهة من غيرها من حيث كل الإجراءات التي اتُخذت وستكون خالية من التزوير تماماً"، معلناً أن نتائج الانتخابات ستُعلن خلال 48 ساعة فقط بعد إغلاق صناديق الاقتراع.

ويُتوقَع أن يتم تمديد وقت إغلاق صناديق الاقتراع ساعة واحدة في سيناريو مشابه لانتخابات عام 2014 في حال كانت نسبة المشاركة ضعيفة أو سُجلت صعوبة في الوصول إلى مراكز الاقتراع، خصوصاً بالنسبة للعراقيين من سكان المناطق المحررة للتو من سيطرة تنظيم "داعش" شمال وغرب العراق.

حكومة بنكهة إقليمية

عملياً أياً كانت نتائج الانتخابات العراقية التي ستُعلن رسمياً مساء الإثنين (كما هو متوقع)، فإن تشكيل الحكومة سيكون توافقياً بين الكتل السياسية السنّية والشيعية والكردية. فالصورة التي دخلت فيها الكتل والأحزاب الانتخابات تؤكد أن النتيجة ستكون كتلاً متوسطة وصغيرة مع غياب الكتل الكبيرة، على غرار كتلة نوري المالكي عام 2014 أو كتلة إياد علاوي 2010، وهو ما يتطلب تحالفاً واسعاً داخل قبة البرلمان لتشكيل الكتلة الأكبر التي تنص عليها المادة 76 من البند الأول من الدستور العراقي النافذ في البلاد حول من يحق له تشكيل الحكومة.

لكن ذلك سيتيح تدخّلاً خارجياً أكبر في رسم شكل وصورة الحكومة الجديدة، وهو سيأتي تحديداً من إيران والولايات المتحدة، مع الإشارة إلى أن الحديث عن تأثير سعودي في هذه الانتخابات لا يتعدى دفع الرياض مبالغ تصل إلى 40 مليون دولار لعدد من الكتل العربية السنّية، بينها كتل محسوبة على جماعة "الإخوان المسلمين" وأخرى قبلية، فالسياسة السعودية في العراق لا تعدو كونها منفذاً للرغبة الأميركية في هذه البلاد. وتمتلك الولايات المتحدة مفاتيح تحريك الكتل العربية السنّية والكردية وبعض قوائم الأقليات في البلاد، على الرغم من أن كل المؤشرات تؤكد أن الكتل العربية السنّية ستخسر ما لا يقل عن 20 مقعداً برلمانياً بفعل نزوح جمهورها وعزوفه عن المشاركة في الانتخابات، ومنع أو طرد مليشيات "الحشد" سكان أكثر من عشر بلدات ومناطق في شمال وغرب ووسط العراق، ما زالوا في مخيمات لم يتم افتتاح مراكز اقتراع فيها لغاية مساء الجمعة.

وتدعم واشنطن وغالبية أعضاء التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، وتجده الأفضل في هذه المرحلة، بحسب أحد أعضاء حملة الأخير الانتخابية، الذي كشف لـ"العربي الجديد"، أن الضغط الحالي على إيران من قبل أميركا قد يصب في صالح العبادي الذي ترفضه طهران وتسعى لشخصية أخرى شبيهة برئيس الوزراء السابق نوري المالكي. وأشار إلى أن شكل الحكومة العراقية مرتبط بشكل مباشر بالمحيط العراقي الخارجي حالياً، وخصوصاً العربي.

في المقابل، فإن إيران التي تدخل بثقلها في الانتخابات العراقية هذا العام بشكل واضح من خلال الضخ المالي والدعم السياسي والإعلامي للقوائم الشيعية الموالية لها وبعض الشخصيات السنّية (مشعان الجبوري وحميد الهايس، كمثال)، والكردية ضمن معسكر السليمانية (الحزب الوطني الكردستاني مثلاً) والأقليات مثل (حركة بابليون المسيحية بزعامة ريان الكلداني)، تواجه مشكلة حقيقية هذه المرة بسبب رفض مرجعية النجف تولّي نوري المالكي الحكم مجدداً في البلاد. كما أن المرجعية تتحفّظ على طرح اسم القيادي في مليشيا "الحشد" هادي العامري رئيساً للوزراء (بحسب قيادي بارز في حركة الانتفاضة الشعبانية). وبطبيعة الحال فإن الرجلين يتزعمان كتلتين شيعيتين مقربتين من المرشد الإيراني علي خامنئي.

كما أن إيران ما زالت تعاني من مشكلة مشاكسة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، لها في مواقفه السياسية وتحالفه الأخير مع العلمانيين والشيوعيين، الذين وصفهم مستشار قائد الثورة الإيرانية علي أكبر ولايتي في آخر زيارة له للعراق قبل شهرين بأنهم "كفار ولن نسمح لهم بالوصول إلى السلطة"، وذلك خلال مؤتمر صحافي عقده في بغداد. كما تواجه كتلة "النصر" بزعامة حيدر العبادي، والتي تدفع نحو تجديد ولاية رئيسها مرة أخرى.

غير أن ذلك كله لا يُعد حاسماً، خصوصاً إذ ما تكرر مشهد حكومات 2006 و2010 وأخيراً 2014، إذ يُعتبر التوافق عرفاً شبيهاً بالدستور، فيمكن لتحالف كتل من 100 مقعد داخل البرلمان أن يعطّل أو يمنع تشكيل الحكومة الجديدة.
وحول ذلك، أكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة صلاح الدين العراقية، محمد إحسان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الانتخابات قد تحمل نتائج صادمة أو غير متوقعة على مستوى تراجع شعبية علاوي والمالكي وعدم تحقيق قائمة الفتح الأصوات التي تراهن عليها، وصعود النصر بزعامة العبادي، وكتلة سائرون الصدرية المدنية، لكنها ستبقى نتائج مقيّدة برغبة اللاعب الأميركي والإيراني".

واستبعد إحسان "نجاح إيران بفرض رؤيتها على الحكومة العراقية الجديدة والمجيء برئيس حكومة على شاكلة نوري المالكي أو هادي العامري، في ظل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومع التفاعلات السورية وما يجري في المنطقة من صراع أجندات، ما سيبقي العراق في منطقة رمادية على الأقل"، مرجحاً "حصول العبادي على ولاية ثانية أو تقديم نسخة مشابهة له كحل وسط"، معرباً عن اعتقاده بأن تشكيل الحكومة الجديدة قد يتأخر لأكثر من شهرين بعد الانتخابات. وختم بالقول: "الأكيد أن زعماء مليشيات وشخصيات عراقية بعقول وقلوب إيرانية ستصل إلى البرلمان الجديد، وقد تتسلّم حقائب وزارية، لكن السؤال الأهم هو شخص رئيس الوزراء وقدرته على إبقاء العراق على الأقل على وضعه الحالي والخروج من لعبة المحاور في المنطقة، وهو مزاج تدعمه غالبية الشعب العراقي".