تونس: تصاعد العنف السياسي يهدد التجربة الديمقراطية

تونس: تصاعد العنف السياسي يهدد التجر
بة الديمقراطية

08 ابريل 2018
يتصاعد العنف مع استمرار الاحتجاجات المطلبية (ياسين قائدي/الأناضول)
+ الخط -
تزايدت مخاوف التونسيين من تصاعد لهجة وأشكال العنف بكل أنواعه في الفترة الأخيرة، خصوصاً منسوب العنف السياسي الذي عكسه تبادل اتهامات خطيرة بين العديد من الأحزاب والشخصيات، مثلما حدث تحت قبة البرلمان أخيراً، أو في الحوارات عن بُعد بين مختلف الأحزاب والمنظمات وفي المنابر الإذاعية والتلفزيونية، وفي المناطق حيث تصاعدت وتيرة الإضرابات والاعتصامات، وحتى في أعداد وأشكال الجريمة أيضاً. هذا الواقع ذكّر التونسيين بفترات صعبة للغاية مروا بها خلال السنوات الأخيرة، وكانت تهدد الخيط الرفيع الذي يفصل بين ثورتهم السلمية والسقوط في مربع العنف.

ولكن ما حدث في الأيام الأخيرة شكّل إنذاراً جدياً لكل التونسيين قبيل الدخول في انتخابات محلية يؤكد الجميع أنها ستكون حامية، وتبدأ حملاتها في كل أرجاء البلاد بعد أيام (في 14 إبريل/نيسان الحالي) وربما تشكّل مناخاً ملائماً لكل الساعين لإسقاط هذه التجربة العربية الوحيدة التي نجت من أتون الحرب الأهلية وقطعت أشواطاً مهمة لاستكمال مسارها إلى الديمقراطية.

مظاهر هذا العنف المتصاعد نقله التلفزيون مباشرة إلى التونسيين، في جلسة للبرلمان بشأن العدالة الانتقالية، كشفت عن حقد متبادل بين أطياف المنظومة السياسية التونسية تجاوز كل أشكال المهادنة التي تفرضها التقاليد والأعراف السياسية.
ونشبت معركة حقيقية بين النائبة عن حركة "النهضة" منية إبراهيم، ورئيس مجلس النواب محمد الناصر، إذ اتهمت إبراهيم رئيس المجلس بتضارب المصالح لأنّه مشمول بالعدالة الانتقالية (وهو ما نفته هيئة الحقيقة والكرامة) ما دفعه إلى القول "كلامك غير صحيح وأنا أنظف منك ومن القريبين منك". وردت إبراهيم في مداخلة ثانية "أنا أشرف منك وأكثر رجولة منك لأنّي لا بعت ولا خنت لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل".

وشهدت الجلسة نفسها خلافاً كبيراً بين النائبة المعارضة سامية عبو، والنائب عن "نداء تونس" حسن العماري. إذ أشارت عبو إلى تورّط بعض النواب في ملفات فساد ورشوة ومحسوبية وقضايا تمس أمن الدولة، ليرد العماري بأن ليس له محاضر في مركز الشرطة ولم يكن رقاصاً في مدينة طبربة ويعرف تاريخها والفيديوهات التي تشهد على تاريخ سامية عبو، حسب تعبيره. وتواصلت سلسلة الاتهامات بينهما بعد ذلك في صفحات الجرائد والمنابر الإذاعية والتلفزيونية، ما أثار استهجان التونسيين جميعاً واستنكارهم لهذا السقوط الاخلاقي في حوار مسؤولين انتخبهم الشعب. وهاجمت منظمات عديدة النائب العماري بسبب هذه الاتهامات الاخلاقية التي ثبت أيضاً أنها غير صحيحة.

ووصل الأمر إلى تعبير نائب مستقيل من "آفاق تونس"، علي بنور، عن أمله في الاستماع إلى "البيان رقم واحد" أي الدعوة إلى انقلاب عسكري، بسبب الفشل السياسي والحكومي الواضح في معالجة الأوضاع المزرية، ما أثار موجة من الاستهجان وحتى المطالبة بمحاكمته. وتصاعد التلاسن بينه وبين النائب عماد الدايمي إلى درجة خطيرة من استعمال مصطلحات قاسية وتهم خطيرة.

هذه الحالة من الفوضى التي وصل إليها الوضع في البرلمان، دفعت المعهد العربي لحقوق الإنسان لإصدار بيان دعا فيه إلى إيقاف الموجة الخطيرة من الانزلاق في العنف وهتك الأعراض والتشهير بالمنافسين أو المعارضين. ولاحظ أن تصاعد خطاب العنف والسلوك العدواني ليس نتيجة أخطاء فردية معزولة، وإنما هو دليل على وجود أزمة حقيقية وعميقة في التعليم والتربية والثقافة، وهو نتيجة حتمية للتعطيل اللاواعي أو المقصود لمسار الإصلاح والانتقال السلس والتلقائي نحو الاستقرار الديمقراطي وإرساء المؤسسات القانونية التي تستمد منها دولة القانون وجودها وتوازنها.


مظاهر هذا العنف السياسي المتصاعد برزت أيضاً في تعطل لغة الحوار بين الأحزاب والمنظمات والحكومة، مع تواصل أزمة التعليم الثانوي والتعليم العالي، وقطاع الصحة، وإضراب سائقي الأجرة، وعاد المضربون جنوباً في الكامور إلى خيامهم، فيما يترنّح إنتاج الفوسفات بسبب أزمة الحوض المنجمي، وتوفي مشجع رياضي بعد مباراة كرة القدم، ما حوّل القضية إلى اتهامات مباشرة إلى الأمن بتسبّبه في هذه الوفاة.

ويشتد العنف السياسي حتى داخل الأحزاب ذاتها، بسبب مجرد خلاف في الرأي، وشهد حزب "النهضة" تصاعداً غير مسبوق في تبادل الاتهامات بين بعض قياديّيه، وتعرّض مستشار رئيس "النهضة" راشد الغنوشي، لطفي زيتون، إلى تهديدات واضحة من قياديين آخرين، اعتبروه خطراً على "النهضة" بسبب انفتاحه، ما اعتبره البعض تهديداً واضحاً وإهداراً لدمه وخطراً على حياته.
ويأتي كل هذا قبيل أيام من انطلاق الحملة الانتخابية للانتخابات المحلية، وهي موعد يتوقع الكثيرون أن يشهد ارتفاعاً في موجة التنافس السياسي وتصاعد حدة الخلافات والخطابات السياسية. ويتساءل تونسيون كثيرون عن أسباب هذا التوتر الشديد في الآونة الأخيرة، وسط مخاوف حقيقية من تداعياته على وضع البلاد ومستقبل التجربة الديمقراطية الهشة، بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية خصوصاً.

ولفت الباحث الاجتماعي والمختص في علم اجتماع الجريمة، سامي بن نصر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن ما لوحظ في السنوات الأخيرة هو بروز الظاهرة العنفية بنوعيها اللفظي والمعنوي، إلى جانب بروز أزمة تواصل في تونس وهي أزمة حادة. وأوضح أن أغلب الدراسات أكدت أن المجتمعات بعد الثورات تبرز فيها ظواهر اجتماعية بما فيها العنفية، ولكن ما يُزعج نسبياً هو استمرارها لفترة طويلة، حينها تصبح غير طبيعية، مشيراً إلى أن العنف بقي بعد سنوات من الثورة على الوتيرة نفسها بل ارتفع أكثر، ويعود ذلك إلى أن كل تونسي لديه شحنة عنفية مكبوتة وهي قادرة على الانفجار في كل لحظة، لافتاً إلى أن جرائم قتل تُسجل أحياناً لأسباب بسيطة بسبب هذه الشحنة العنفية المكبوتة، بالإضافة إلى الحالة النفسية الاجتماعية للتونسي ببروز ثقافات مدمرة ومنها ثقافة اليأس والفشل والألم.

ورأى بن نصر أن بعض النخب السياسية والنواب والبرامج التلفزيونية تحاول أن تنجح بثقافة الإثارة وليس بالمحتوى، فالعديد من البرامج راهنت على العنف اللفظي والتشنج، موضحاً أن الظاهرة الجديدة التي تُعتبر في غاية الخطورة هي التشنج الذي يظهر في صفوف أعضاء مجلس النواب أي أعلى سلطة في تونس، متسائلاً إذا كان التعامل بين النواب بهذه الطريقة، فكيف سيكون التأثير على عموم التونسيين؟
وأضاف أن المتأمل في انتخابات 2011 و2014 يلاحظ أنها لم تكن انتخابات عقلانية بقدر ما كانت انتخابات انتقامية، فالشعب التونسي أراد الانتقام من النظام السابق واختار من رأى أنهم ناضلوا في فترة الاستبداد، ثم وقعت خيبة أمل في المجلس التأسيسي، وفي 2014 حصلت انتخابات انتقامية أخرى، ومن انتخب "النهضة" في السابق انتخب "النداء" وقامت العملية على شيطنة كل طرف للآخر أي عن طريق بث خطابات الكراهية، وبالتالي فإن العنف الموجود كان إفرازاً طبيعياً للآلية الانتخابية في 2011 و2014، معتبراً أن حتى التحالف الذي حصل بين "النداء" و"النهضة" بعد الانتخابات كان تحالفاً وهمياً لأنه تم على أساس خداع الناخبين، وهذا التحالف كان ظاهرياً ولم يحصل بين القواعد وظلت الحرب متواصلة بينها.

ورأى بن نصر أن التشنج الذي حصل في البرلمان في جلسة التصويت على هيئة الحقيقة والكرامة كشف الواقع على حقيقته، معتبراً أن المعركة الحاصلة وهمية وهدفها الحقيقي هو استرجاع كل حزب لقواعده وشرعنة العنف لغايات سياسية. وشرح أن "العنف يمر بمراحل، إذ نجد العنف درجة أولى وهو الفعل ورد الفعل ولكنه يبقى عنفاً طبيعياً، وهناك عنف درجة ثانية عندما يتحول إلى لغة تواصل، ودرجة ثالثة عندما يكون استراتيجياً للتغيير وهو أخطر أنواع العنف"، مشيراً إلى أن العنف مجرد ظاهرة اجتماعية ولكنه قد يتطور إلى ثقافة عنفية وهي أخطر مرحلة، ويحتاج إلى ثقافة مضادة لكي يتم الحد منه وهو لا يحتاج إلى قوانين بل إلى ثقافة بديلة.

وأشار بن نصر إلى أن العديد من البرامج تسوّق للعنف، وبالتالي فإن ما يظهر من عنف لدى السياسيين يعكس ما هو موجود في المجتمع، وهو في الوقت نفسه غير طبيعي لأن السياسي يجب أن يكون أرقى في خطابه من عامة الناس وللأسف تونس تفتقد إلى القدوة. واعتبر أن الحكومات المتعاقبة كرّست العنف، ففي الاحتجاجات من يُخرب ويمارس العنف يحصل على حقوقه، واليوم بالعنف تتحقق المكاسب، وبالتالي أصبح العنف وسيلة لنيلها وهو ما يظهر من خلال إغلاق الطرقات. وأوضح أن في علم الاجتماع السياسي لا وجود لمجتمع قام بثورة وجنى ثمارها مباشرة، أي أن من قام بالثورة سيجني أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية وقيمية، وأقصى ما يمكن أن يحققه هو بعض المؤشرات، ولكن الأجيال المقبلة هي التي ستجني الثمار.