الحرب الباردة بنسختها الجديدة: تقرير "الأطلسي" يكشف عمق الأزمة

الحرب الباردة بنسختها الجديدة: تقرير "الأطلسي" يكشف عمق الأزمة

26 مارس 2018
يريد الحلف أن يُظهر أنه جاهز للرد (شون غالوب/Getty)
+ الخط -


على الرغم من أن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، وساسة أوروبيين آخرين، وحتى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، يؤكدون، في خطبهم على الأقل، أن لا رغبة في حرب باردة أخرى مع روسيا، فإن تطورات السنوات الأخيرة تؤكد ما يقوله متخصصون ومتابعون من "أننا وسط حرب باردة، تسخن وتبرد بحسب الظروف". بل إن وزير الدفاع الدنماركي، كلاوس هيورت فريدريكسن، وصف الأمر في مقالة مطولة بأنه "أخطر بكثير مما كان عليه في العام 1989، لجهة مصادر ووسائل الخطر وغياب توقع الخطوات الروسية". يبدو أيضاً أن "قرع طبول الحرب الباردة" لم يعد هو ما يجري في حلقات السياسة والتحليل، وعند صنّاع القرار، بل بدأ التعامل مع هذه الحرب المندلعة، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين "لا يفهم لغة الحوار إن لم تكن مسنودة بالقوة"، بحسب فريدريكسن.

في الظاهر يبدو أن محاولة تسميم العميل الروسي المزدوج السابق سيرغي سكريبال في بريطانيا، ليست سوى القشة التي أثقلت العلاقات المتوترة أصلاً. ويبدو من تبادل الخطاب المتشدد بين المعسكرين، إن صح التعبير، وجود معسكر غربي واضح المعالم والاصطفافات، وغياب معسكر روسي في المقابل، وتأرجح مواقف بعض العواصم حول العالم، يبدو كأنه استعادة أخطر لدرجات حرارة تلك الحرب الباردة، المندلعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى العام 1992.

خطر روسي حقيقي
لم تكن مصادفة أن يتزامن نشر ستولتنبرغ لتقرير حلف شمال الأطلسي السنوي، في 15 مارس/آذار الحالي، وتوسع التقرير ليغطي الفترة الممتدة منذ 2014، أي منذ توتر العلاقة مع موسكو بعد تبعات التدخّل الروسي في أوكرانيا، مع تصاعد نبرة الخطاب الغربي تجاه موسكو بعد محاولة اغتيال سكريبال. ففي سلم أولويات حلف الأطلسي في علاقته مع روسيا، تأتي أيضاً الحرب السيبرانية وفقدان السيطرة على السلاح وسباق التسلح.
وعلى الرغم من تأكيد الحلف في ديباجته، أنه "لا يشكل تهديداً لأي بلد، ونواصل السعي لإقامة علاقة بناءة مع روسيا، وما زلنا ملتزمين بالحوار والحد من المخاطر وزيادة الشفافية"، إلا أنه في الوقت نفسه يؤكد ضرورة الحوار الداخلي، وتنسيق المواقف الرادعة لروسيا، "وتوسيع الدفاع، جنباً إلى جنب مع الحوار الهادف". لكن، حين عرض ستولتنبرغ، تقريره السنوي، حضر شبح تحديات روسيا، على جبهات عدة، في كل ثنايا ذلك العرض.

تزامناً، يذكر مصدر تشريعي في البرلمان الدنماركي لـ"العربي الجديد"، يتابع بشكل لصيق العمل العسكري الدفاعي، أن ما يقلق دول الحلف الأطلسي هو أن "روسيا تحاول منذ سنوات خلق انقسامات بين دول الحلف لتقويض تماسكه في كل خطوة تقدم عليها".
ومن خلال التقرير السنوي للحلف، يمكن اكتشاف أن القلق الغربي من روسيا ليس وليد الحاضر، "فمنذ الحرب الروسية على جورجيا في عام 2008 بدأ الغرب جدياً يفكر بتحديات روسيا بوتين". على مستويات عدة يرى خبراء عسكريون وسياسيون، وبعضهم من مستشاري حكومات ليبرالية في شمال أوروبا، أن تزايد التدخلات الروسية في الجبل الأسود ومولدوفا، وضم شبه جزيرة القرم، والتدخلات المزعومة في حروب قرصنة إلكترونية، ومحاولات التأثير على انتخابات الغرب، وبث أخبار مزيفة وإشاعات، رصدتها أكثر من مؤسسة أوروبية، وطاولت حتى سياسات اللجوء في أوروبا، مع التحليق العسكري فوق مناطق غربية، وتحركات روسيا المستفزة في منطقة البلطيق ودول الشمال، وخصوصاً الاستمرار في نشر مزيد من الصواريخ والتحشيد العسكري في جيب كالنينغراد، كلها عوامل فاقمت من القلق، وزادت المساعي للحد من طموحات بوتين لاستعادة "مجد" الاتحاد السوفييتي.


الآن مع كل ما حمله العام 2017 من مقدمات استعادة سباق التسلح، يبدو أن حلف الأطلسي المندفع برفع موازنات دوله الدفاعية والتسلح ونشر المزيد من عسكره وسلاحه في حدائق روسيا الخلفية، يقرأ بجدية خطورة سعي موسكو لزعزعة الاستقرار، وانعكاسات ذلك على الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الأوروبي، مع تمدد أذرع الكرملين في أكثر منطقة حيوية عبر بناء علاقات مثيرة للشبهة مع مستويات سياسية ترى موسكو أقرب لها، كما في حال معسكر اليمين المتشدد المعادي للاتحاد الأوروبي.

التقرير السنوي لحلف شمال الأطلسي، وبحسب ما يلحظ متابعون، ذهب لاستعادة التهديد الروسي القائم منذ سنوات عن قصد. ومن بين النقاط الأساسية التي تتحدث عن خطوات الحلف في مواجهة هذا التهديد، ركز التقرير على نشر القوات عام 2017 في دول البلطيق وبولندا "لمواجهة التهديد العدواني لروسيا"، وعلى أن تهديد الحرب السيبرانية يعني أن الغرب "أمام حقبة جديدة من مواجهته لروسيا".

النووي على الخط
خطاب بوتين حول "حالة الأمة" بداية شهر مارس/آذار الحالي، والذي تحدث فيه عن قوة الصواريخ الروسية النووية، تزامناً مع نشر بروباغندا حول القدرة على تدمير أميركا، وسرعة احتلال الدول الأوروبية، خصوصاً في البلطيق والسويد، مؤشرات لم تعد تقلق فقط قادة حلف الأطلسي. فالشارع الغربي، على الأقل في جوار روسيا شمالاً، يشعر بكثير من القلق تجاه خطاب موسكو التصعيدي، حتى قبل الاتهامات بالهجوم بالغاز السام على سكريبال في بريطانيا.

فمنذ فترة، يتم في وسائل الإعلام وعبر خبراء، الحديث عن روسيا كـ"أكبر خطاب عدواني واستفزازي منذ انتهاء الحقبة السوفييتية". الأمر عينه وصل إلى ستولتنبرغ، بعرضه انتقادات علنية لموسكو، واتهامها بأنها ذهبت عمداً إلى "تليين مقصود للحدود بين الأسلحة التقليدية والنووية، بما يقوض الاستقرار". ويرى خبراء غربيون في الشأن الروسي أن هذا التليين يبدو كجزء من "العقيدة الروسية-البوتينية العسكرية الجديدة، التي تضع إمكانية استخدام النووي على طاولة الخيارات العسكرية".
في الواقع يبدو أن تسمية ما جرى في بريطانيا بـ"هجوم عسكري بأسلحة كيميائية محظورة"، ليست بالتعبير البسيط. ستولتنبرغ أشار إلى أنه "الهجوم الأول بغاز الأعصاب ضد أراضي دولة عضو منذ تأسيس حلف الأطلسي، وهذا أمر مرفوض في العالم المتحضر".

حلف الأطلسي يستعدّ
عملية الانتشار والتحديث العسكري لحلف الأطلسي، وزيادة الموازنات الدفاعية، منذ قرار قمته عام 2014، وتوسيع رقعة "التعاون" مع دول ليست أعضاء في الحلف، وحتى من خارج الجغرافية الأوروبية، تشير إلى أن الدول الـ29 في الحلف، ليست في وارد الاستسلام للظرف الجديد، الذي أرادت روسيا تطبيعه، بالحديث مراراً وتكراراً عن "أكبر قوتين عالميتين"، أي روسيا والولايات المتحدة، لتتمكن من الاستفراد بكل دولة.

فالأوروبيون، بحسب ما تظهره عملية التضامن مع لندن، ليسوا في وارد التخلي عن تقاربهم العسكري، حتى مع بريطانيا المنسحبة من ناديهم. وتلك أيضاً رسالة واضحة لروسيا، بأن "مخطط اللعب على الاستفراد وشق صف الأوروبيين لن ينجح". وليس ببعيد أن يذهب بعض المهتمين باللعبة في بحر البلطيق إلى ربط تأخير تمرير "خط غاز الشمال 2" (نوردستريم 2)، في سياق إشهار دول الحلف وأوروبا، لكل أوراق الضغط التي في حوزتهم بوجه روسيا.

يلعب المحافظون والليبراليون، والأمنيون الأوروبيون أيضاً، لعبة داخلية يصفها مصدر مطلع في لجان الأمن والدفاع في الشمال الأوروبي لـ"العربي الجديد" بفرصة "حشر حلفاء روسيا في الأحزاب المتطرفة والمتساهلة مع موسكو في الزاوية، وذلك بتعرية مواقفهم أمام الشارع". هذا الأمر يبدو جلياً في السويد والدنمارك، مع توقعات بأن تتمدد عملية "الإحراج" هذه، في ظل تزايد التوتر وإظهار تهديد روسيا، إلى دول في شرق أوروبا، تحت عنوان "رص الصفوف". والتعبير الأخير هو أيضاً ما ورد على لسان ستولتنبرغ، خلال عرض التقرير السنوي.

في الكواليس، تبدو الأمور "أخطر مما يرشح لوسائل الإعلام". فوفقاً لأكثر من مصدر غربي، تشهد منطقة شمال القارة الأوروبية منذ العام الماضي، تزايداً في التحركات العسكرية الأميركية، مدعومة بسلاح الجو الكندي، وعدد من دول حلف الأطلسي، و"بالكاد تفارق أجواء دول بحر البلطيق والمنطقة القطبية".
الآن، وبحسب ما يتسرب، فإن استخدام تعبير "الهجوم الكيميائي في بريطانيا" ليس مجرد وصف بسيط في العلاقة مع موسكو، كما يقول عضو مقرر في لجان دفاع وأمن في برلمان بلد إسكندنافي لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن "تأكيدات ستولتنبرغ في مؤتمره الصحافي لا تعني أنه لم يتم (بعد الهجوم) تنشيط الآلة العسكرية للحلف، فهو يؤكد في المقابل أن الحلف سيكون جاهزاً للرد الاحترافي المتناسب، وذلك أيضاً يخفي الكثير في أجواء التسخين".

ستولتنبرغ لم يخفِ رسالته لروسيا بالقول "عبّرنا عن دعمنا السياسي لبريطانيا، وعرضت الدول الأعضاء مساعدتها العملية"، ثم أضاف عن الحشود العسكرية في الجبهة الشرقية أنها "لتوجيه رسالة واضحة مفادها أننا مستعدون".
كلام الأمين العام لحلف الأطلسي يؤكد ما يذهب إليه المصدر الدنماركي لـ"العربي الجديد"، بأن "التوجّه في دول الحلف هو أن يكون الرد موحداً، بغية القول لموسكو بأن استراتيجيتها لا تعمل، وأن هجماتها المتعددة لن تعزز موقعها، أو تُحسن سمعتها حول العالم، بل على العكس، وفي الوقت نفسه يريد الحلف إظهار أن تعزيز قوته العسكرية لها أثر رادع".