حرب الجواسيس تفجّر مواجهة بريطانية روسية مفتوحة

حرب الجواسيس تفجّر مواجهة بريطانية روسية مفتوحة

15 مارس 2018
إزالة مركبة مرتبطة بالهجوم على سكريبال(أدريان دينيس/فرانس برس)
+ الخط -


لم يعد التوتر بين بريطانيا وروسيا، على خلفية تسميم الجاسوس الروسي السابق في بريطانيا سيرغي سكريبال وابنته، مجرد تبادل اتهامات كلامية، بعدما حمّلت لندن، أمس الأربعاء، موسكو رسمياً المسؤولية عن هذا الهجوم، واتخذت إجراءات رداً على ذلك، بينها طرد دبلوماسيين روس، في أول إجراء من نوعه منذ 30 عاماً. وجاء الرد البريطاني بعد دعم كبير تلقته من أوروبا وحلف شمال الأطلسي، فيما بدت روسيا وحيدة في هذا الملف، وهي سارعت لوصف إجراءات لندن بالعدائية، متوعدة بالرد عليها، ما يفتح الباب أمام تصعيد أكبر بين البلدين.

بدأت هذه القضية بعدما تم العثور على الجاسوس السابق سيرغي سكريبال (66 عاماً)، وابنته يوليا فاقدين للوعي على مقعد في مدينة سالسبوري، جنوب غرب إنكلترا، في الرابع من مارس/ آذار الحالي، ونُقلا إلى المستشفى في حالة "حرجة" بعدما تعرضا لمحاولة قتل، حسب السلطات البريطانية، التي قالت إن شرطياً تدخل في المكان هو حالياً في حالة خطيرة. وتصاعدت الاتهامات البريطانية لروسيا بالمسؤولية عن الهجوم، لتعلن السلطات أن سكريبال وابنته هوجما بمادة من العناصر السامة "نوفيتشوك" التي أعدتها روسيا في عهد السوفييت وتعتبر بالغة الخطورة.

الاتهام الرسمي لموسكو بالوقوف وراء الهجوم، جاء على لسان رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، أمس، التي أكدت في كلمة لها أمام النواب البريطانيين مسؤولية روسيا عن تسميم الجاسوس السابق. وأعلنت ماي طرد 23 دبلوماسياً روسياً من المملكة المتحدة، و"تعليق الاتصالات الثنائية" مع موسكو التي كان لديها 59 دبلوماسياً معتمداً في المملكة المتحدة. وقالت إن طرد هؤلاء الدبلوماسيين جاء "بموجب ميثاق فيينا، وتم تعريفهم على أنهم ضباط استخبارات سريون"، مشيرة إلى أنها أكبر عملية طرد لدبلوماسيين من لندن منذ 30 عاماً، وهي ستقلص من قدرات الاستخبارات الروسية في بريطانيا لأعوام مقبلة.

وأضافت ماي أن بلادها ستعلّق كل الاتصالات الثنائية المقررة على مستوى عالٍ مع روسيا وستلغي اجتماعاً كان مقرراً لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في بريطانيا، ولن يحضر أي فرد من العائلة المالكة أو الوزراء البريطانيين مباريات كأس العالم لكرة القدم في روسيا هذا الصيف. وأضافت: "سنجمّد أصولاً للدولة الروسية في حال حصلنا على أدلة على أنها قد تُستخدم في تهديد حياة أو ممتلكات مواطنين أو سكان في بريطانيا".
وأعربت رئيسة الوزراء البريطانية عن أسفها "للنهج" الذي اتبعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المجال الدبلوماسي، قائلة "كثيرون منا كان يحدوهم الأمل عند النظر إلى روسيا ما بعد الحقبة السوفييتية. كنا نريد علاقة أفضل، لكن من المأساوي أن يكون الرئيس بوتين اختار هذا النهج"، مشددة على أنه "لا يوجد خلاف بيننا وبين شعب روسيا". وأضافت ماي "لن نتسامح مع تهديد الحكومة الروسية لحياة البريطانيين وغيرهم على أرض بريطانيا، ولا مع هذا الانتهاك الصارخ لالتزامات روسيا الدولية".

وعلى الرغم من أن ماي وصفت الإجراءات بأنها غير مسبوقة منذ 30 عاماً، لكنها جاءت أقل من التوقعات التي سرت خلال الأيام الأخيرة، والتي وصلت إلى حد الحديث عن إمكان مقاطعة بريطانيا لكأس العالم لكرة القدم، وهو الأمر الذي ردت عليه الخارجية الروسية حينها بالتحذير من أنه سيلحق الضرر بالعلاقات الثنائية وسيؤثر في الرياضة العالمية. وفي السياق نفسه، حذرت وزارة الخارجية البريطانية، أمس، رعاياها الراغبين في التوجه إلى روسيا من مخاطر التعرض لمضايقات.


ولم تتأخر موسكو، أمس، بالرد على الاتهام الرسمي البريطاني والإجراءات المتخذة، إذ اعتبرت السفارة الروسية في لندن، أن طرد الدبلوماسيين الروس "عمل عدائي غير مقبول على الإطلاق وغير مبرر وغير عقلاني". كما حمّلت السفارة القيادة السياسية البريطانية المسؤولية الكاملة عن تدهور العلاقة بين البلدين. كذلك اعتبرت موسكو أن لندن "اختارت المواجهة" في هذه القضية. وفي وقت سابق، أمس، حذر السفير الروسي في لندن ألكسندر ياكوفينكو، من أن موسكو سترد بالمثل على طرد دبلوماسيين روس من بريطانيا. كذلك أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن بلادها سترد في أقرب وقت على الإجراءات المعلنة من ماي.

وكان الكرملين قد استبق إعلان ماي بالتحذير من أنه "لا يقبل" الاتهامات التي "لا أساس لها" والإنذار الذي وجهته لندن عندما طالبت موسكو بتوضيحات حول تسميم سكريبال. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، في مؤتمر صحافي، أمس، إن "روسيا لا علاقة لها بما حصل في بريطانيا"، آملاً "أن يتم تحكيم العقل وأن تتساءل دول أخرى على الأقل هل هناك دليل أم لا وإذا كانت الاتهامات ضد موسكو مبررة".

هذه القضية التي بدأت تأخذ منحى دولياً، حضرت في اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، مساء أمس، بطلب من بريطانيا، لبحث مسألة تسميم سكريبال، وقامت لندن خلاله بإطلاع المجلس على الهجوم. وسبق الاتهام البريطاني الرسمي لموسكو بهذه العملية، تأكيد لندن أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أمس، أن استخدام غاز للأعصاب من الدرجة التي تستخدم في المجال العسكري في محاولة لقتل سكريبال يعد انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي ويجب أن يكون بمثابة تحذير للمجتمع الدولي. وقال السفير البريطاني جوليان بريثويت، للمجلس في جنيف: "المجلس والجمعية العامة للأمم المتحدة شجبا انتهاكات روسيا للقانون الدولي بأسلوب روتيني يثير القلق. إن تصرفاتها الرعناء تحقير لكل ما يمثله هذا الكيان". من جهته، قال السكرتير الأول في البعثة الأميركية في جنيف جيسون ماك: "من أوكرانيا إلى سورية، والآن في بريطانيا، تواصل روسيا التصرف باعتبارها قوة غير مسؤولة تزعزع استقرار العالم وتتجاهل علناً سيادة الدول الأخرى وحياة المقيمين داخل حدود هذه الدول".

كذلك، لاقت بريطانيا دعماً من الاتحاد الأوروبي في هذه القضية، إذ اعتبر رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، أن روسيا تقف "على الأرجح" وراء تسميم سكريبال. وكتب توسك على حسابه على "تويتر" على هامش زيارة رسمية إلى فنلندا: "أعبّر عن تضامني الكامل مع رئيسة الوزراء تيريزا ماي بعد الهجوم الوحشي الذي نفذ بإيحاء على الأرجح من موسكو". من جهته، ندد حلف شمال الأطلسي بتسميم سكريبال، معتبراً ذلك "انتهاكاً فاضحاً للأعراف والاتفاقات الدولية" حول الأسلحة الكيميائية. وجاء في بيان نشره الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، أن "الحلفاء اتفقوا على اعتبار الهجوم بمثابة انتهاك فاضح للأعراف والاتفاقات الدولية" وطلبوا من روسيا "الرد على أسئلة بريطانيا، وخصوصاً عبر تقديم معلومات كاملة حول برنامج نوفيتشوك لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية".

ولكن ما هو غاز "نوفيتشوك" الذي تُتهم موسكو باستخدامه لتسميم العميل السابق وابنته؟ يشرح العالم الكيميائي الروسي فيل ميرزايانوف، الذي كان يعمل قبل نحو 25 عاماً لدى المختبرات الروسية قبل أن يلجأ إلى الولايات المتحدة، أن هذا العنصر الكيميائي أقوى بعشر مرات على الأقل من غاز الأعصاب وآثاره رهيبة ولا شفاء منها، ويكفي نصف غرام منه لقتل شخص وزنه خمسين كيلوغراماً. ويشير إلى أن من يتعرض له يصاب بتشويش في الرؤية ثم باختلاجات وضيق في التنفس، مضيفاً أنه في حال عاش سكريبال وابنته فسيعانيان من آثاره طيلة حياتهما. ولكن كيف تُستخدم المادة، يقول العالم الكيميائي إن "هذا سهل"، نظراً لأنها خليط من عنصرين لا ضرر منهما قبل مزجهما، "ويمكن بالتالي نقل العنصرين بسهولة منفصلين وتركيب الرذاذ في اللحظة الأخيرة عبر خلطهما في مسدس رش صغير. بعدها يُرش الرذاذ على المستهدف".
ويعرب ميرزايانوف عن ثقته بأنه ما من "أحد غير الروس" يمكن أن يستخدم غاز "نوفيتشوك"، مشيراً إلى أن "الروس هم الوحيدون الذين طوروا هذه العناصر. لطالما احتفظوا بها سراً ولا يزالون". ويكشف أنها المرة الأولى التي تُستخدم فيها هذه الغازات التي استغرق تصنيعها 15 سنة لقتل إنسان. ولكن لماذا الآن؟ يقول إن موسكو "أرادت تخويف أحد. ربما معارض (لفلاديمير) بوتين أو للكرملين".

في المقابل، وفي ما بدا محاولة لإبعاد الشبهات عن روسيا باستخدام هذه المادة، قال السيناتور الروسي فرانتس كلينتسيفيتش إن هذه المادة السامة يمكن أن تحفظ في أي مختبر من مختبرات جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، بما فيها أوكرانيا وجورجيا.

(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)

المساهمون