من بالمه إلى ليند... اغتيالات سياسية بالسويد بلا أجوبة

من بالمه إلى ليند... اغتيالات سياسية في السويد بلا أجوبة

01 مارس 2018
اغتيلت ليند طعناً بسكين عام 2003 (سفين ناكستراند/فرانس برس)
+ الخط -



لم تكن الشابة اليسارية العشرينية، بملامح إسكندنافية خالصة، تدري أنّ كلماتها أمام 1500 ضيف، و23 رئيس وزراء، وممثلي 132 دولة، في مارس/آذار 1986، في تأبين ملهمها عن إسهامه بـ"تحويل التضامن إلى أسلوب حياة من خلال قدوتنا التي احتجناها نحن الشباب. شكراً لك أولف بالمه"، ستكون ثمناً لاحقاً لاغتيالها طعناً بسكين في 11 سبتمبر/أيلول عام 2003.

هي آنا ليند، الشابة التي قادت فرع شبيبة "الحزب الديمقراطي"، بزعامة السياسي السويدي أولف بالمه. ستمر 17 سنة على اغتيال الرجل قبل أن تجد ليند، وزيرة خارجية السويد، نفسها غارقة بدمائها، إثر عدة طعنات وجهها لها شاب سويدي من أصول صربية هو ميايلو ميايلوفيتش، في مركز تجاري، وأمام العامة المصدومين.

كانت ليند بلا حراسة، وينتظرها شريكها خارجاً، فيما القاتل يتبعها بسكينه. ويؤمن، اليوم، قطاع كبير من السويديين بأنّ اغتيال "محبوبتهم" آنا ليند، الصاعدة نحو قيادة حزبها ورئاسة الوزراء، لم يكن مجرد فعل صادر عن شخص غاضب من السياسيين، كما قدّمت الرواية الرسمية ميايلوفيتش، الذي يقضي حكماً بالمؤبد ويوصف بأنّه "الأكثر كراهية في البلد". فهؤلاء يؤمنون بأنّ الاغتيال السياسي الذي نُفّذ بحقها يشبه اغتيال بالمه، كـ"مؤامرة كبيرة".

في كلمتها التأبينية لملهمها، قبل 17 سنة من اغتيالها، قالت ليند عن بالمه "كرّس التصحيح في مجتمعنا بعمل إنساني لمكافحة الظلم والقهر والعنصرية، وبث رؤية جديدة بين الشباب السويدي تسترشد من الأخلاق والعواطف، بدل جمود وتقنية الإدارة السياسية.. وبمكافحة الاضطهاد وكراهية الأجانب نشكر بالمه، ونسترشد به".

وهكذا يفهم كثيرون خلفيات ثقافة اختلاف السويد عن دول أخرى، في تعظيم شأن المواقف المبدئية في قضايا كثيرة حول العالم. ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كان شباب السويد من يسار ويسار الوسط يقودون حافلاتهم الجماعية نحو مخيمات الفلسطينيين في لبنان وسورية، ويبدون حماسة كبيرة، مثل حماسة ليند وبالمه، لحقوق الفلسطينيين.


أولف بالمه... الدقائق الأخيرة

في مساء سويدي بارد، عند حوالي الحادية عشرة من مساء 28 فبراير/شباط 1986، كان رئيس الوزراء السويدي أولف بالمه، قد خرج توّاً من دار سينما مع زوجته ليزبيت، وابنه مورتن وزوجته أنغريد.

يودّع الرجل ابنه، بلا رتل تشريفات وحصار أمني للشوارع. يتجه كل منهما في طريقه، ولم يستمع الأب لنصيحة ابنه، بعد دردشة عن فيلم الليلة "الإخوة موتزارت"، باستقلال سيارة أجرة "تاكسي"، مع أمه. فبالمه، بحسب ابنه مورتن، في شهادة الذكرى الثلاثين لاغتيال الرجل، قال: "لا... لا أريد سيارة، لقد جلست اليوم بطوله في العمل وأريد أن أمشي مع أمك".

ليند وبالمه في عام 1984 (لارس جانسون/فرانس برس) 



على بعد 5 أمتار، يلمح الابن شخصاً أربعينياً بلباس أسود يحدّق في واجهة متجر معتم، يستدير ويتجه باتجاه مسير بالمه وزوجته ليزبيت، ولم يخطر ببال الابن أنّه على بعد 300 متر ستصاب السويد بصدمة متواصلة بسقوط أولف بالمه مضرجاً بدمائه، وإصابة زوجته.

الساعة الحادية عشرة والثلث من ذلك المساء، يطلق القاتل عدداً من الطلقات على ظهر بالمه، ويختفي في العتمة وسط صراخ الزوجة المصابة ودهشة السكان، وهم لا يدرون أنّ هذا الرجل النازف على رصيف شارع بسيط وسط عاصمة الديمقراطيات الإسكندنافية، هو رئيس وزراء بلدهم صاحب الشعبية الكبيرة.

اندلعت، ما بعد الصدمة، كل نظريات "المؤامرة"، فصارت للسويديين قضية "جون كيندي" خاصتهم: من ولماذا قُتل أولف بالمه؟

الملاحقة الأمنية عقب الاغتيال، أدت إلى اعتقال رجل مدمن على الكحول، وجنائي معروف، اسمه كريستر بيترسون، مع تخبط أمني وتقاذف للمسؤوليات من قبل الجهات المختصة، ليس فقط عن تأمين رئيس وزراء بلدهم، بل عن القاتل والأدلة، ومن يقف وراء الاغتيال السياسي الذي هزّ السويد وكل الدول المجاورة، لا سيما بعد جهود بالمه في تعزيز وجه السويد عالمياً.

لم يستطع القضاء السويدي أن يثبت التهمة على بيترسون، رغم شهادة الشهود، واستمر التحقيق سنوات، فمات بيترسون عن 57 عاماً دون حكم، وترك للخيال أن يبحث عن إجابات تستند إلى نظرية "مؤامرة التخلص من بالمه".

وقضية الاغتيال ما تزال مفتوحة ولم تُحل، ويؤمن السويديون بأنّ "مدمن الكحول" كريستر بيترسون لم يكن سوى "كبش فداء".


في كل ذكرى سنوية لاغتيال بالمه، تتدفق النظريات عن دوافع القتل، فكُتبت كتب، وصُنعت وثائقيات، والتحقيقات الصحافية مستمرة، ولم يصل أحد بعد إلى نتيجة تجيب مجتمع السويد عن سبب اغتيال رئيس وزرائهم.

اليوم أيضاً في 2018، يعيش السويديون قلق انحسار مبدأ "التضامن"، في مجتمع يشهد انقسامات وتقدّماً لليمين المتطرّف، فيعود لطرح نظريات كثيرة، يقوم بعضها على البحث، وآخر على التخمين والتحليل وربط الأحداث بمعطيات تاريخ بالمه الشخصي وعلاقاته الدولية.

هل تخلّص الأميركيون من خلال وكالة استخباراتهم "سي آي إيه" من الرجل الذي قض مضاجعهم منذ حرب فيتنام، ومعاداته لسياساتهم حول العالم وفي الشرق الأوسط تحديداً؟ أم أنّه قُتل لأنّه اتُهم باعتماد الليونة أمام السوفييت؟

أسئلة ما تزال مطروحة، إلى جانب أخرى من قبيل تخمينات عن مسؤولية نظام الأبرتهايد الجنوب أفريقي، ورغبة الموساد الإسرائيلي بالتخلّص من بالمه، لتعاطفه مع ياسر عرفات وقضية الشعب الفلسطيني.

كما تُطرح أسئلة من قيبل: هل الحركة الكردية هي التي قتلته؟ أم أنّ متعاطفين مع "النازية الجديدة" في جهاز الشرطة السويدي تخلّصوا منه؟ هكذا لا تكف صحافة السويد عن طرح كل تلك النظريات.


علاقات موسكو ودور الشرطة

في 2016، جزم الكاتب الدنماركي توماس لاداغوورد، في كتابه "اغتيال بالمه"، أنّ "الاغتيال كان مخططاً، والدوافع سياسية من جهة اليمين المتطرف، ومتعاطفين مع النازية في جهاز الشرطة".

بعد 32 عاماً تبرز خفايا داخلية، وشهادات مرعبة في الديمقراطية السويدية، عن أنّ الشرطة، وخصوصاً مؤيدي اليمين المتطرف، احتفوا باغتيال بالمه.

المحققون وصلوا إلى نتائج مذهلة، بحسب وثائق الكاتب لاداغوورد، عن أنّ "بعض العناصر (الشرطية) المتطرفة كانوا في مسرح الجريمة"، وأنّ مفتش محطة شرطة في نورمالمس قال: "لقد مات الكلب الجبان"، وقد سبق أن شرب هذا الضابط ستيلان أوكابرينغ، نخب الشمبانيا مع بعض الأصدقاء، احتفاء بمقتل بالمه.

وأكابرينغ هو واحد من عناصر الشرطة والجيش المتعاطفين مع النازيين، والذين نظروا إلى بالمه كخائن، يُخشى من أن يكشف أسراراً قومية، في زيارته لموسكو، قبل شهرين من اغتياله.

يشير الكاتب إلى أن "هروب المتهم الأول في تلك الليلة، كريستر بيترسون، نحو شقة الشرطي اليميني المتطرف كارل غوستاف أورستلينغ، يعني الكثير".

وفي تلك الفترة، كانت الحرب الباردة في أوجها، واتُهم السوفييت، كما اليوم، بخرق المياه الإقليمية السويدية مرات عدة، كما اتُهم بالمه بـ"الجبن أمام الاتحاد السوفييتي".

اُغتيل بالمه في 28 فبراير/شباط 1986 (جاكوب فورسيل/فرانس برس) 

وكل هؤلاء الرجال الأمنيين، لم يُلاحقوا ولم يستَجوبوا، بل فقط جرى إبعادهم عن التحقيق في قضية بالمه، وما تزال حتى اليوم رائحة "التلاعب بالأدلة وإخفاء الشهادات" تثير مخيلة الباحثين عن أجوبة عن سؤالَي: مَنْ ولماذا؟

ثلاثة عقود مرّت، وما يزال أمر "السرية والتكتم المهني"، ملزماً لكل من كانت له علاقة بقضية بالمه. إلزام لا يزال جهاز الاستخبارات السويدي "سابو" يتابعه بشكل حثيث، مع شخصيات رفيعة المستوى في الشرطة.

قبل عامين، طالب، عبر صحيفة "إكسبرسن"، عميلان سابقان عملا على قضية بالمه في جهاز الاستخبارات السويدي، هما: يان هينريك بارلنيغ ووالتر كيغو، بأن "يكشف الجهاز عن المعلومات التي توصّلنا إليها في 1989 حول معرفة السوفييت بمخطط قتل بالمه، عن طريق شخص أرسلوه بجواز سفر مزوّر، وهو مسؤول عن عدة عمليات قتل".

وبالصوت والصورة تحدّث الرجلان، بيد أنّهما ما زالا يخضعان لـ"سرية المهنة"، بعد 30 سنة، غير قادرين على كشف الأسماء وكل ما يملكانه من معلومات.

أياً يكن الجواب عن "منْ ولماذا؟"، فإنّ السويد تغيّرت كثيراً، ويخشى كثيرون مزيداً من التغيير، إذ لم يعد السياسي بنظر الشارع كما كان، وتنتشر اليوم، فيها كما في غيرها من دول إسكندنافيا، حراسات أمنية مشددة، تحول بينه وبين الشارع، بفعل شراسة الاصطفاف والفرز، على مدار السنوات الماضية.

بالمه في سطور

ولد أولف بالمه عام 1927.

وفي عام 1953، أصبح سكرتير رئيس الوزراء الأسبق تاغا أرلاندر، ثم وزيراً للتعليم. وفي عام 1969 أصبح زعيماً لـ"الحزب الاجتماعي الديمقراطي"، وانتهج خطاً يسارياً في الحزب، وكان معارضاً لسياسات أميركا في فيتنام وحول العالم، ومؤيّداً لقضايا التحرّر الوطني، ومكافحاً عنيداً بوجه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومؤيداً كبيراً لقضية فلسطين.

تولّى بالمه منصب رئيس الوزراء في السويد عدة مرات، آخرها من عام 1982 حتى مقتله في 1986.

الرصاصة التي قتلته هي تلك التي تلقاها في ظهره أمام زوجته. في تلك الأمسية، 28 فبراير/شباط ولسبب غير معروف، صرف بالمه حرّاسه الشخصيين. واعتبرت الشرطة السويدية أنّ "قضية بالمه" هي الأكبر في تاريخ العمل الأمني في البلاد، بل أكبر من قضية الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي، من حيث الموارد والمشاركين فيها، والتي كلّفت مقدار مليار كرونة، ورغم ذلك لم يحسم سؤال: منْ قتل أولف بالمه؟

وخلال سنوات التحقيق، تقدّم أكثر من 130 شخصاً، معلنين مسؤوليتهم عن الاغتيال، فيما اعتبرت أغلبها محاولة لإثارة انتباه، وكسب تغطية صحافية.

المساهمون