أحمد جرار نموذج لمطارَدي الضفة: قصة استشهاد معلن

أحمد جرار نموذج لمطارَدي الضفة: قصة استشهاد معلن

رام الله

نائلة خليل

نائلة خليل
07 فبراير 2018
+ الخط -
أن تكون مطارداً في أرض محروقة مثل الضفة الغربية المحتلة، فإن الاغتيال يكون مسألة وقت لا أكثر، ليبدو الواقع شبيهاً بقصة "موت معلن"؛ الكل يعلم أن المطارد مشروع شهيد وأن خبراً عاجلاً يحمل تفاصيل عملية اغتياله هو أمر متوقع بمجرد اقتحام قوات الاحتلال وانسحاب الأمن الفلسطيني من المكان، فالواقع الفلسطيني بات مكشوفاً بطريقة لا تحتمل الأسرار، والمطارد للاحتلال يعلم ذلك ويصرّ على المضي قدماً في طريق اختاره.

استشهاد المطارد أحمد نصر جرار، فجر أمس، في قرية اليامون قرب جنين بعد عملية عسكرية لساعات عدة، لن يكون الأخير في سلسة مقاومين يعلمون تماماً أن الضفة الغربية محروقة ولم تعد مكاناً آمنا للمطاردين. لكن الأمان والحياة لا يبدوان أكثر من مناورة لهؤلاء الشبان الذين يصنعون أقدارهم بأيديهم منذ اللحظة الأولى التي قرروا فيها الانخراط في العمل المقاوم، فإن لم يستشهد المطارد خلال عمله الفدائي، تأجلت تصفيته إلى حين اشتباكه مع الجنود الذين سيعثرون عليه قبل تنفيذ عمله الثاني، في لعبة مكشوفة يعرفها الطرفان المطارد والاحتلال.

وباتت هذه اللعبة المكشوفة أكثر خطراً وأقصر عمراً خلال السنوات القليلة الماضية، لأنه في الضفة الغربية التي باتت تشبه برنامج الأخ الأكبر "Big brother"، أصبح كل فلسطيني تحت مراقبة دائمة لمئات الكاميرات المنتشرة في الشوارع التي يسيطر عليها الاحتلال، ناهيك عن آلاف الكاميرات للمحال التجارية الفلسطينية في ما يشبه "الموضة"، والتي يقوم الاحتلال بمصادرتها بشكل مباشر بعد أية عملية مقاومة، ما جعل أصواتاً كثيرة ترتفع يوماً بعد يوم مطالبةً بعدم وضع الكاميرات أو وضعها بطريقة لا تكشف الشوارع وتعطي أدلة جاهزة للاحتلال.

لا تتوقف لعبة الموت المكشوفة بين المطارد والاحتلال عند هذا الحدّ، بل إن أي تطور تكنولوجي بات يشكل خطراً حقيقياً يتهدد المطارَدين الذين تتمّ ملاحقة هواتفهم ومراقبة هواتف عائلاتهم وأصدقائهم لتحديد أماكنهم في غضون دقائق، ناهيك عن وجود أعداد كبيرة من العملاء الفلسطينيين للاحتلال على قدر عالٍ من التدريب في المراقبة والملاحظة وجمع المعلومات، وهم في مأمن من أية عقوبة ممكنة، فضلاً عما يجمعه "مندوبو" أجهزة أمن السلطة الفلسطينية من معلومات أيضاً عن المقاومين تصل ليد الاحتلال بطريقة أو بأخرى.

ويرى مراقبون فلسطينيون أن أصعب ما يميّز هذه المرحلة هو تفكيك الحاضنة الشعبية، و"تعقيم" مرحلة كاملة كان فيها وجود المطاردين أمراً مألوفاً، وذلك بعد تفاهمات السلطة الوطنية الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي عام 2005 لإنهاء ملف المطاردين، إذ صدر العفو عن نحو 300 من المطاردين، الغالبية العظمى منهم من مطاردي "شهداء الأقصى"، الذراع العسكري لحركة"فتح". في المقابل، تم اعتقال العشرات في المقار الأمنية للسلطة لفترات زمنية متفاوتة، تم تفريغ جزء منهم في العمل الأمني، وبقي جزء آخر من المطاردين فارين، بعد رفض الاحتلال إعطائهم أي عفو وتم اغتيالهم بعد أن سلّم رفاقهم في شهداء الأقصى السلاح ضمن تفاهمات أمنية فلسطينية إسرائيلية معروفة بدأت عام 2005 وانتهت بشكل كامل عام 2007. وأتت هذه التفاهمات في ظلّ خطة الجنرال، كيث دايتون، المنسّق الأمني الأميركي بين الفلسطينيين والإسرائيليين والذي قام بمهمة إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية بما يُنهي تماماً عهداً كان الأمن الفلسطيني فيه لاعباً مهماً في المقاومة، مثل هبة النفق عام 1996، ومشاركة الأمن عبر تظاهرات في دعم الأسرى عام 1998، وتوّجت عام 2000 بمشاركة رجال أمن في المقاومة بشكل لافت، ولعل ملحمة مخيم جنين من أبرز الأدلة على ذلك.

عبر هذه التفاهمات الفلسطينية الإسرائيلية تحت الرعاية الأمنية الأميركية، تم استئصال ظاهرة المطاردين بشكل شبه كامل، وكان الهدف البعيد هو تغيير البيئة النضالية الفلسطينية بشكل جذري، بحيث بات أي مطارد حالة فردية يائسة. في الوقت ذاته، كانت السلطة تعمل بشكل دؤوب على خلق الفلسطيني الجديد، إذ فتحت البنوك أبوابها للقروض، وبناء مؤسسات الدولة التي أثبتت التجربة لاحقاً أنها "مؤسسات لدولة وهمية"، تزامناً مع تسويق أميركي وأوروبي كبير لرئيس الوزراء الأسبق، سلام فياض، باعتباره رجل مؤسسات، والرئيس محمود عباس باعتباره رجل السلام. وقد نجح كل ما سبق في تفكيك الحاضنة الشعبية للمطاردين، فيما شدّد الاحتلال من قبضته، بحيث بات هدم أي منزل يؤوي مطارداً أمراً مألوفاً تماماً، في أسلوب ردع وحشي.

يقول الخبير في شؤون الأسرى ومدير مركز "أحرار"، فؤاد الخفش إن "إسرائيل أصبحت تعتبر أن كل مطارد عبارة عن قنبلة موقوتة يشكّل خطراً على جنودها ومستوطنيها، ومن ناحية أخرى يشكّل نموذجاً ملهماً للفلسطينيين، وهذا الذي يجب استئصاله وعدم السماح به"، مضيفاً "من خلال محاربة المطارد، فإن الاحتلال يحارب ظاهرة البطل التي لا يجب أن تكون في الضفة الغربية حتى لا تصبح حالة".

ويتابع الخفش، إن "الاحتلال يحارب المطارد بشكل منظّم وكبير، إذ توجّه قبل أشهر إلى اعتقال أحد الطلاب، وعندما لم يكن موجوداً في المنزل، تم اعتقال والدته ووالده في قرية سالم قضاء نابلس، والأمر ذاته تكرر مع شاب آخر تم اعتقال والده لحين تسليم نفسه، في ممارسات وحشية مفادها أن الاحتلال لن يتهاون بوجود مطارد".


أشهر المطارَدين

وبينما سجلت فترة ما قبل عام 2006 عدداً كبيراً من المطلوبين، فإن هذا العدد بعد 2009 تلاشى بشكل كبير، بحيث أصبح المطارد شخصاً نادراً، وفي لعبة موت مكشوفة مع الاحتلال. فقلائل فقط استطاعوا الصمود أثناء المطاردة لفترة طويلة. وربما يشكّل اسم إبراهيم حامد أسطورة في هذا المجال، إذ تمّت مطاردته لمدة 11 عاماً، وأطلق الاحتلال عليه لقب "الخيال"، وكان عبارة عن كابوس حقيقي لكل ضباط الشاباك الذين تناوبوا على ملفه.

في 22 مايو/أيار 2006، تمكّنت قوات الاحتلال من اعتقال حامد، قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام في الضفة الغربية، حيث كان يختفي في منزل قرب بيت الرئيس محمود عباس. خطأ صغير وتافه تسبب باعتقال حامد، حسب ما يتناقله عناصر حركة "حماس"، إذ قام حامد بمدّ سلك الهاتف من البيت الذي كان يؤويه إلى الغرفة الصغيرة الملحقة بالبيت، حيث كان ينام، و"نبّه هذا الأمر أحد العملاء الذي بدأ يراقب صاحب البيت وتحركاته ومشترياته من البقالة والطعام، إلى أن تمّ اعتقال حامد بشكل مباغت وبدون اشتباك مسلح".



وعادة ما يتم الحديث عن أخطاء المطاردين في استعراض القوة، الذي تقوم به الاستخبارات الإسرائيلية، والتي تعتمد كلها على جمع المعلومات على الأرض، مثلما حدث بإعطاء الفلسطينيين معلومات عن السيارة المحترقة التي قادها أحمد نصر جرار لتنفيذ عمليته، أو تحرّك المطارَد في مكان فيه مئات العيون التي ترصده، أو إجراء مكالمة هاتفية، أو رصده عبر كاميرا شارع أو محل تجاري.

مطارد آخر، وهو الشهيد أحمد البلبول من مدينة بيت لحم، وهو أحد مؤسسي حركة "الشبيبة الطلابية" وأحد أبرز قيادات الذراع العسكرية لحركة "فتح" كتائب "شهداء الأقصى"، والذي بدأت قوات الاحتلال بمطاردته عام 2001 وتمّ اقتحام منزله نحو 37 مرة بحثاً عنه. وبعد محاولات فاشلة عدة، تمكّن الاحتلال من اغتياله في 12/3/2008 ومعه ثلاثة من رفاق دربه، هم الشهيد محمد شحادة والشهيد عيسى مرزوق والشهيد عماد الكامل.

بعد نحو عام، وتحديداً في 28 مايو 2009، تم اغتيال القيادي في القسام عبد المجيد دودين (47 عاماً) بعد مطاردة استمرت 18 عاماً، حيث استشهد في خربة سكاكا شرقي بلدة دير العسل جنوب غرب الخليل، بعد تفجير الاحتلال بئراً كان يتحصّن فيها. قصص اختفاء دودين وعدم معرفة أقرب أهله بمكان وجوده، كانت لغزاً حقيقاً للاحتلال.

ويذكر أحد المصادر لـ"العربي الجديد" أنّ الأمن الفلسطيني اعتقل دودين، وبقي رغم اعتقاله يهندس العمليات ضد الاحتلال، ما دفع الرئيس ياسر عرفات عام 1996 إلى إرسال الراحل (مسؤول ملف القدس وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية سابقاً)، فيصل الحسيني، إلى دودين والطلب منه بشكل شخصي أن يخفّف العمليات، لأن بقاءها على هذه الوتيرة ستقود إلى إنجاح بنيامين نتنياهو في الانتخابات وخسارة شمعون بيريز، وهذا ما حصل فعلاً".

تدريجياً، باتت فترات المطارَدة أقصر مما مضى، ولم تعد تحسب بالسنوات، بل بالأسابيع والأشهر. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2010، تمكّنت قوات الاحتلال من اغتيال نشأت الكرمي وزميله مأمون النتشة في مدينة الخليل، بعد نحو أربعين يوماً على مطاردتهم، بعد قصف المنزل الذي احتميا به، بالقذائف. وتتهم قوات الاحتلال الكرمي والنتشة، بتنفيذ عملية الخليل "سيل النار"، وهي عبارة عن سلسة عمليات قتالية موجّهة من كتائب القسام ضد المستوطنين في الضفة الغربية، كان أولها في 31 من أغسطس/آب 2010، قرب قرية بني نعيم شرق الخليل، وأسفرت عن مقتل أربعة مستوطنين وإصابة خمسة آخرين، تبعتها عملية أخرى في رام الله في أقل من 24 ساعة، أسفرت عن إصابة مستوطن إسرائيلي وزوجته بجروح.

ولعلّ أبرز المطارَدين في السنوات القليلة الماضية، هم أعضاء "خلية الخليل"، الذين خطفوا ثلاثة مستوطنين وقتلوهم في الخليل. وتمّ اغتيال عضوي الخلية عامر أبو عيشة ومروان القواسمي، بعد ثلاثة أشهر من التخفّي، بعد تفجير منزل تحصّنا فيه في 23 سبتمبر/أيلول 2014، فيما تم اعتقال رفيقهم الثالث حسام القواسمي بعد شهر ونصف من المطاردة.

كل هذه التجارب لم تردع مقاوماً آخر هو محمد الفقيه، الذي نفّذ عملية قنص أحد زعماء المستوطنين على طريق مستوطنة مقامة على أراضي محافظة الخليل. وبعد مطاردته لمدة شهر، تمّت محاصرة المنزل الذي لجأ إليه في بلدة صوريف قضاء الخليل. وبعد سبع ساعات من الاشتباك، استشهد الفقيه يوم 27 يوليو/تموز 2016.

تنوّعت خلفيات المطاردين ما بين طلاب جامعات وتجّار، أو صيدلي كما هو الحال مع باسل الأعرج الذي اغتاله الاحتلال في السادس من مارس/آذار عام 2017، بعد ستة أشهر على اختفائه عقب إطلاق أجهزة أمن السلطة سراحه وزملاءه، إذ اختفى منذ ذلك الحين ولم يعد إلى المنزل.

واللّغز المحيّر في اغتيال الأعرج الذي تنكّر بهوية موظّف في البنك الدولي يتقن اللغة الإنكليزية، وكان شديد الحذر، ويعلم جميع أصدقائه أنه لا يستخدم الهواتف الذكية إطلاقاً، وأنه شديد الذكاء في تحركه، أنه تمّ الوصول إليه واغتياله في اشتباك مسلح في شقته المستأجرة وسط رام الله.

ورغم محاربة الاحتلال للمطارد، فإنه يستبعد أن تنتهي هذه الظاهرة المرتبطة ببقاء وجود الاحتلال؛ وبعد اغتيال أحمد جرار، بقي المطارد الأخير في الضفة الغربية المحتلة هو عبد الكريم عاصي الذي نفذ عملية قتل مستوطن في الخامس من الشهر الحالي، لذا تترقب الضفة الغربية اقتحامات كثيرة ورقابة مشددة من أطراف عدة على حركات عاصي وأنفاسه لتصفيته.

ذات صلة

الصورة

سياسة

استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي سيارة تابعة لمنظمة "المطبخ العالمي المركزي" World Central Kitchen في مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، ليل الثلاثاء
الصورة
مشهد لموقع مجمع الشفاء الطبي في غزة في 1 إبريل 2024 (محمد الحجار)

مجتمع

كشف فلسطينيون كانوا في مجمع الشفاء الطبي ومحيطه في شمال قطاع غزة عن فظائع ارتكبتها القوات الإسرائيلية في خلال اقتحامها المستشفى قبل انسحابها منه كلياً.
الصورة
فلسطينيون والمقر الرئيسي لوكالة أونروا في قطاع غزة وسط الحرب (فرانس برس)

سياسة

قالت صحيفة "ذا غارديان" إن إسرائيل قدمت للأمم المتحدة مقترحاً لتفكيك وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ونقل موظفيها إلى وكالة أخرى.
الصورة

سياسة

أعلنت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية، أن قوات الاحتلال الإسرائيلي استولت، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على 27 ألف دونم من الأراضي.