خريطة الغضب السوداني: من مدينة الحديد والنار إلى الخرطوم

خريطة الغضب السوداني: من مدينة الحديد والنار إلى الخرطوم

28 ديسمبر 2018
العمال جزء أساسي من المتظاهرين (أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -


من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، خرجت مدن السودان، في احتجاجات شعبية، بدأت في سياق عفوي، ضد ندرة الخبز، الذي أصبح هناك مشقة للحصول عليه، وضد شح الوقود، الذي بات توفيره يحتاج للوقوف في صفوف طويلة وإهدار ساعات أو أيام في أحيان كثيرة. وانطلقت الشرارة من مدينة عطبرة شمال السودان، ثم تمددت إلى مدن أخرى. وسرعان ما تحولت المطالب من خبز ووقود ودواء، إلى المناداة بسقوط النظام، على أن يبدأ ذلك بتنحي الرئيس عمر البشير، الذي يكمل السنة المقبلة 30 عاماً من حكم البلاد. وتستعرض "العربي الجديد" أبرز المدن السودانية، التي قالت، بصوت عالٍ، "لا" لبقاء النظام:

عطبرة ...مدينة الحديد والنار

في مدينة عطبرة، التي تقع على مسافة 310 كيلومترات إلى الشمال من العاصمة الخرطوم، انطلقت شرارة الاحتجاجات، وإن كانت بعض المدن قد حاولت استباقها، إلا أن محاولاتها اعتراها شيء من الخجل والتواضع، ولم تلفت الأنظار. وبرزت عطبرة، التي تعرف بمدينة الحديد والنار، كمدينة صناعية، تشبع سكانها بالوعي السياسي مبكراً، خصوصاً بعد أن أصبحت مركزاً لسكك حديد السودان والنقابات العمالية، وبالتحديد نقابة سكة الحديد التي كانت تقود منذ عهد الاستعمار البريطاني الاحتجاجات والإضرابات السياسية، وتمسكت بهذا النهج بعد ذلك. وليس غريباً أن يكون اسم عطبرة، وأصله "أتبرا"، مرتبطاً بالثورة طبقاً للمؤرخين الذين ردوه إلى "أتبرا" المشتق من الكلمة العربية "تتبير"، ويعني التدمير أو التحطيم أو الهلاك. وسُميت بذلك نسبة إلى تدمير نهر عطبرة عند فيضانه كل ما هو موجود على أطرافه.

وبسبب مواقفها السياسية، تعرضت نقابة سكة الحديد في عطبرة إلى ضربات موجعة، إذ تم فصل العمال وتشريدهم مرة على يد نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري وأخرى على يد الحكم الحالي في التسعينات، خصوصاً أن النقابة ومعها الكثير من سكان المدينة محسوبون على الحزب الشيوعي الذي يستمد قوته أصلاً من العمل النقابي. ويبلغ عدد السكان في المدينة نحو 140 ألف نسمة، يعمل معظمهم في هيئة سكة الحديد كموظفين أو عمال في الورش والقطارات. كما أنهم يعملون في مصانع الإسمنت المنتشرة في المنطقة، فضلاً عن التجارة والزراعة. ومع تدهور الظروف الاقتصادية هاجر الكثير من سكان المدينة إلى العاصمة بحثاً عن العمل والتعليم. وعلى الرغم من سقوط 3 قتلى خلال الاحتجاجات الحالية، فإن المحتجين في المدينة يصرون على مواصلة انتفاضتهم، إذ دعا شباب المدينة، إلى حشد ومسيرة اليوم الجمعة، أطلقوا عليها اسم "جمعة الشهيد"، وذلك عقب الصلاة التي قرروا إقامتها في ميدان عام.

بربر

بالقرب من مدينة عطبرة، تقع مدينة بربر التاريخية ذات الطابع الديني الصوفي، إذ تنتشر فيها المدارس القرآنية (الخلاوي)، وفيها درس القرآن الزعيم الروحي لطائفة "الأنصار"، محمد أحمد المهدي، قبل أن يهاجر غرباً في طريق ثورته. وكانت بربر في يوم من الأيام معبراً للحجاج السودانيين، وفي المدينة جامعة الشيخ عبد الله البدري وكلية الدراسات الإسلامية والعربية التابعة لجامعة وادي النيل، وكلية الشريعة والقانون، وكلية الزراعة والمعهد الفني. وانضمت بربر مبكراً للانتفاضة السودانية الحالية، وقد عمدت السلطات المحلية بعد سقوط قتلى إلى إغلاق المدارس والجامعات في المدينة. ومن اللافت في خروج مدن شمال السودان، هو أنها كسرت ما كان كثر يعتقدونه بأن شمال السودان موالٍ للحكومة  عطفاً على أن العديد من رموز الحزب الحاكم في السودان يتحدرون من المنطقة.



دنقلا

لم يقتصر الحراك الشعبي في شمال السودان على بربر وعطبرة، فقد شمل كذلك العبيدية ودنقلا مركز الولاية الشمالية، تلك المدينة المعروفة بحضارتها القديمة وحكمت أجزاء واسعة من السودان. كما شملت مدينتي كريمة ومروي معقل قبيلة الشايقية ذات التأثير العميق في المشهد السوداني في تجلياته السياسية والاجتماعية والوجدانية.

القضارف

سقط في مدينة القضارف شرق السودان سبعة قتلى، مهروا بدمائهم الثورة السودانية، وفي مقدمتهم طالب في مرحلة الثانوي، هذا غير عشرات المصابين. وانضمت المدينة للاحتجاجات في يومها الثاني، وكانت الأعنف بين كل التظاهرات. وتبعد المدينة عن الخرطوم بنحو 410 كيلومترات، وتقع داخل ولاية القضارف، وهي واحدة من أكبر الولايات من حيث إنتاج الذرة والسمسم، وبها سوق عالمي للمحاصيل. وهناك تنوع عرقي في المدينة، إذ تقطن فيها قبائل الشكرية والهوسا والشايقية ورفاعة والهدندوة والكنانية واللحويين والبني عامر وغيرها. ويُعد رئيس "مبادرة القضارف للخلاص"، جعفر خضر، أيقونة الحراك الشعبي في المدينة، وهو يقوم بذلك من على كرسي متحرك. وهو كان بدأ نضاله منذ سنوات، ونتيجة لذلك أودع المعتقل لمرات عديدة.

بورتسودان

من المدن التي خرجت باكراً ضد تدهور الأوضاع المعيشية، مدينة بورتسودان، الميناء الرئيس للسودان على البحر الأحمر. وصادف انطلاق الاحتجاجات، التي خرجت ليوم واحد، مع وجود الرئيس عمر البشير في المدينة لحضور مناورات عسكرية، حضرها كذلك رئيس هيئة أركان الجيش السعودي. ورغم الترتيبات الأمنية خرج المحتجون إلى الشوارع، وأرغموا حكومة ولاية البحر الأحمر على إلغاء قرار بزيادة سعر رغيف الخبز من جنيه إلى 3 جنيهات. وتقطن المدينة غالبية من قبائل البجا، ويعملون في مجال الزراعة والرعي وكعمال شحن وتفريغ في الميناء. ويناهض العمال منذ فترة اتجاه الحكومة لخصخصة الموانئ، ما سيؤدي، بحسب اعتقادهم، إلى تشريدهم.

مدن بحر أبيض

لم تتخلف مدن بحر أبيض جنوب السودان من الانضمام إلى ركب الاحتجاجات. فقد خرجت تظاهرات في مدينة كوستي العريقة أولاً، ولحقت بها ربك مركز ولاية النيل الأبيض التي تبعد عن الخرطوم مسافة 260 كيلومتراً جنوباً، ثم الجزير أبا، أحد معاقل طائفة "الأنصار" الدينية، التي انطلقت منها دعوة محمد أحمد المهدي الذي حرر السودان من الحكم التركي في القرن التاسع عشر.

أم روابة

وبعد أن خرج أهالي مدينة الرهد بولاية شمال كردفان غرب البلاد، آثر أهالي مدينة أم روّابة اللحاق بهم. وتعتبر المدينة واحدة من أهم المراكز التجارية في السودان وسوقا رائدة للحبوب. ودفع أهالي أم روابة ثمن خروجهم غالياً، إذ قمعت قوات الأمن التظاهرات، ما أدى إلى إصابة عدد من المواطنين، بالإضافة إلى اعتقال العشرات. وحتى مدينة الأبيض، مركز الولاية، لم تكن بعيدة عن الحراك الاحتجاجي.

الخرطوم

من الملاحظ أن الاحتجاجات انطلقت هذه المرة من الأطراف، بعيداً عن الخرطوم، التي بدأت تدخل تدريجياً  في موجة الرفض، وبدرجات متفاوتة. غير أن الأحد الماضي حدث تطور مهم بمشاركة الجمهور الرياضي، وكانت المبادرة لجمهور فريق الهلال أحد قطبي الكرة السودانية، إذ نظم عشاقه تظاهرة، شارك فيها الآلاف، عقب مباراة الفريق أمام الأفريقي التونسي. وفي اليوم التالي، أعاد جمهور فريق المريخ، القطب الآخر للكرة في السودان، المشهد ولو بعدد أقل، حين خرج بتظاهرة بعد مباراة فريقه أمام الأهلي الخرطوم مطالباً بسقوط النظام.

ويوم الثلاثاء الماضي، كانت الخرطوم على موعد مع أضخم تجمع دعا إليه "تحالف المهنيين" المعارض. ورغم الإجراءات الأمنية المشددة، استطاع الآلاف التجمع في عدد من المواقع وسط العاصمة، في إطار خطة لتشتيت جهود القوى الأمنية، التي دخلت في حالة كر وفر معهم. وأصيب ثمانية أشخاص بجروح جراء قمع قوات الشرطة للمتظاهرين. كما شهدت أحياء العاصمة في السبعة أيام الأولى تظاهرات في عدد من الأحياء، مثل الحاج يوسف والنزهة وناصر والثورة والصالحة والديم وودنوباوي والهجرة وغيرها. كما خرجت تظاهرات في مدن أخرى، لكن بنسبة أقل، مثل سنار والدمازين وسنجة ورفاعة والمناقل والرهد وكاس وبرام. وبالنظر إلى تصنيف المشاركين في الحراك الشعبي، فالثابت هو أن طلاب الثانوي في مختلف مدن الأطراف، والذين سقط منهم قتيل في ولاية القضارف، هم من بدأوا التظاهر، ثم امتد هذا الأمر إلى كافة شرائح المجتمع. كما أن فئة الشباب، خصوصاً بين 18 و30 سنة، هي الأكثر نشاطاً من بين جميع شرائح المجتمع السوداني. أما المرأة السودانية فكانت حاضرة بقوة. وفي بعض المواقع بدت الأكثر من حيث العدد وبث الحماسة لدى الرجال. وما لفت الأنظار في ولاية القضارف، خروج تظاهرة نسائية فقط يوم السبت الماضي، هتفت المشاركات فيها بسقوط النظام وبالعدالة لأبنائهن المحتجزين لدى الشرطة، بحجة مشاركتهم في التظاهرات. واتسعت نوعية المشاركين في الاحتجاجات، لتضم الثلاثاء الماضي كوادر حزبية مدربة سلفاً على أعمال التظاهر.

المساهمون