الأمن المفقود في سورية: إحاطة بأحوال المدن والأرياف (1/10)

الأمن المفقود في سورية: إحاطة بأحوال المدن والأرياف (1/10)

24 ديسمبر 2018
منح النظام مليشيات موالية له صلاحيات كبيرة (فرانس برس)
+ الخط -
صحيح أن فصولاً كثيرة من الحرب السورية قد طويت بالفعل، لكن كل المناطق السورية، بلا استثناء، لا تزال تعيش حالة من الفلتان الأمني، تختلف أشكالها بين منطقة وأخرى، سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام، أو تلك الخاضعة للمعارضة، أو لـ"قوات سورية الديمقراطية". وطيلة سنوات سبع، أباد النظام السوري من أباد من أهل البلد، وهجّر واعتقل وعذّب تحت عنوان إعادة فرض الأمن، وقد تمكن، في الواقع، بفضل تحالف عالمي دعمه، وبسبب تخلي العالم و"المجتمع الدولي" عن شعب بأكمله، من إعادة سيطرته مع مليشيات وجيوش أجنبية على جزء كبير من الأرض السورية، من دون أن يوفر لها الأمن، الذي أصبح فعلياً "مخصخصاً" لمصلحة مليشيات محلية وأجنبية، في انتظار تمكن النظام من إعادة بناء جيشه وأجهزته الأمنية المنهكة بالكامل عديداً وجهوزية، بشكل تصبح قادرة على فرض نفسها بشكل مركزي على المدن والأرياف، هذا في حال سمح لها الراعيان الإقليميان، إيران وروسيا بذلك، وخصوصاً أن نفوذ القوى المحسوبة على موسكو وطهران وحزب الله أصبح كبيراً جداً ولم يعد مجرد تفصيل يتعلق بمساعدة النظام على إنهاء الحرب لمصلحته. 

بناءً على ما تقدم، كيف تبدو صورة الوضع الأمني في المدن الرئيسية وأريافها، الخاضعة للنظام ولمليشياته المحلية أو الأجنبية، من دمشق إلى درعا فحلب والساحل والسويداء وغيرها، أو تلك المناطق التي لا تزال خارجة عن سيطرة محور دمشق ــ طهران ــ موسكو ــ حزب الله؟ 

النظام يهتم بمراكز المحافظات

في المناطق التي يسيطر عليها نظام بشار الأسد، تختلف الحالة الأمنية بين المدن والأرياف، بحسب أهمية المدينة بالنسبة له. وحاول النظام منذ بداية الثورة، جاهداً المحافظة على صورة أقرب للمثالية في مراكز المحافظات الخاضعة له، وبشكل خاص في العاصمة دمشق، فيما ترك أمر الأرياف لحالة من الفوضى تتحكّم فيها المليشيات الموالية له، والتي تعاظم نفوذها خلال سبع سنين من الحرب، ليخلق مناخاً من التنافس بين تلك المليشيات على النفوذ والسيطرة ضمن المناطق التي تنشط فيها، وصراعاً على الامتيازات، وهو ما أدى إلى صدامٍ في ما بينها، وصل إلى حد المواجهة العسكرية أحياناً. لكن ذلك فعلياً كان يجري تحت أعين قيادة النظام، الذي قلّص هيمنته الأمنية المركزية، خلال السنوات الماضية، لصالح هذه المليشيات، إذ مُنحت امتيازات تجني عبرها مكاسب مالية، مقابل ضمان ولائها التام، لمتابعة المهام التي وُجدت أساساً لأجلها، وهي تحديداً ضبط الأمن ومنع أي نشاط معارض في المناطق التي سُلّمت لها، وكذلك الاستفادة من عنصرها البشري في المعارك التي كانت مشتعلة على مختلف الجبهات.

ويُمكن الحديث عن مليشياتٍ وازت قوتها في وقتٍ من الأوقات، قوة أجهزة النظام الأمنية ذاتها، في محافظات كاللاذقية وطرطوس، أو أقل من ذلك بقليل في مدينة حلب، وغربها تحديداً، وكذلك في مدينتي حمص وحماة. إلا أن سطوة المليشيات في محافظتي اللاذقية وطرطوس ركزت بشكل خاص على النازحين من المحافظات الأخرى، خصوصاً النازحين من مدينتي حلب وإدلب، إذ جرى النظر إليهم بعين الشك والريبة، كونهم جاؤوا من محافظات ثارت على النظام، وتم التعامل معهم كحاضن شعبي للمعارضة، خصوصاً في حال كان هناك ناشطون ومطلوبون ضمن عائلة من نزح إلى هاتين المحافظتين. بينما اختلف الوضع قليلاً في مدينة حماة الممسوكة أكثر من قبل الأجهزة الأمنية بسبب المكوّن السكاني للمدينة، التي خرجت فيها أكبر التظاهرات في سورية في بداية الثورة، وبسبب الحساسية الكبيرة بين سكان المدينة والنظام الذي ارتكب مجازر مروعة بحق سكانها في ثمانينيات القرن الماضي.

غير أن هذه الصورة، تبقى مغايرة للوضع الأمني في العاصمة دمشق، حصن قيادة النظام، ومقر قيادات الأفرع الأمنية. وبطبيعة الحال تختلف طبيعة تحكّم تلك المليشيات في مراكز مدن تلك المحافظات عن طبيعة تحكمها بأريافها، ففي مراكز المدن لا يزال النظام محافظاً على مؤسساته نسبياً، والتي تتابع وتبت بالقضايا الأمنية والقضائية وحتى الخدمية، مع تحكّم تلك المليشيات بالقرارات والإجراءات التي تصدر عن تلك المؤسسات. فيما يصل الوضع في الأرياف إلى قيام المليشيات بدور المؤسسات الأمنية والقضائية بشكل فعلي، والتحكّم التام بعمل المؤسسات الخدمية، الأمر الذي خلق حالة من الفوضى الأمنية في الأرياف أكثر منها في المدن، لتتحوّل الأرياف في الوقت الحالي إلى بؤر للإجرام، من قتل وسرقة وخطف مقابل فدية.


انتشار السلاح

أما في المناطق المحسوبة على المعارضة، فيعيش سكانها حالة من الفلتان الأمني تختلف أيضاً بين مناطق سيطرة فصائل المعارضة، ومناطق سيطرة الفصائل الإسلامية، إلا أن السمة العامة لتلك المناطق هي تحكّم الفصائل بالوضع الأمني في ظل غياب دور المؤسسة القضائية، مع استبدال القضاة والمحامين بما يسمى "شرعيين" بلا مؤهلات، وخضعوا لدورات "شرعية" لا تتجاوز بضعة أيام وتم تنصيبهم كقضاة شرعيين يبتون بقضايا الناس.

كما أن الفصائل التي تبحث عن مصادر تمويل ذاتية لا تجد أضعف من المواطنين للتحكّم بالخدمات المقدمة لهم وبيعها بأسعار تحقق أرباحاً لتلك الفصائل. ولعل أبرز الفصائل التي تتاجر بخدمات المواطنين هو تنظيم "هيئة تحرير الشام" (التي تشكّل جبهة النصرة أساسها). هذا التنظيم عيّن أميراً مالياً مهمته تحقيق عوائد مالية للتنظيم من خلال الخدمات المقدّمة للمواطنين ومن خلال تجارة المعابر التي كان التنظيم حتى وقت قريب يأخذ إتاوات على البضائع التي تدخل من كل المعابر، سواء مع النظام أو مع "قوات سورية الديمقراطية"، والتي حد منها اتفاق سوتشي الأخير بين روسيا وتركيا حول شمال غربي سورية، إلا أن التنظيم لا يزال مسيطراً على معبر باب الهوى مع تركيا.

كما تتسم مناطق سيطرة فصائل المعارضة بالانتشار الكبير للسلاح الخفيف والمتوسط بين المدنيين وانتشار محلات بيع الأسلحة، الأمر الذي أدى بطبيعة الحال إلى فوضى سلاح مترافق مع انتشار الفقر والبطالة، ما تسبّب بانتشار عمليات السرقة والخطف وطلب فدية مادية والقتل لأسباب شخصية، بالإضافة إلى التصفيات الجسدية لأسباب سياسية. في الوقت الذي يقوم به القضاء في تلك المناطق على المحسوبيات، التي تأخذ في الحسبان وضع العائلات الكبيرة وعناصر الفصيل المسيطر، إذ يتم التغاضي عن الكثير من المخالفات والجرائم التي يرتكبها هؤلاء، مقابل التشدد مع بقية المواطنين، بالإضافة إلى عدم معرفة أنواع الأحكام المرتبطة بكل جريمة، خصوصاً في ظل منع المتهمين من الاستعانة بمحامٍ عنهم.

انتهاكات "قسد"

أما في مناطق سيطرة مليشيا "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، فالوضع الأمني ليس أفضل حالاً من باقي مناطق سورية، إذ يتحكّم حزب "الاتحاد الديمقراطي"، وذراعه العسكري "وحدات حماية الشعب" الكردية، بكل مفاصل الحياة في تلك المناطق. وتتعامل هذه الوحدات بدرجات متفاوتة مع المواطنين، فالأولوية بكل شيء لعناصر تلك المليشيا، فيما يتم التعاطي مع باقي المكوّنات كمواطنين يمكن أن تُنتهك حقوقهم في أي لحظة، سواء كانوا من المكوّن الكردي المعارض لتوجّهات تلك المليشيا، أو من المكوّنات الأخرى من عرب وسريان وأشوريين. هؤلاء يتعرضون لخطر الاعتقال تحت ذرائع وتهم جاهزة، كما أن مليشيا "سورية الديمقراطية" مثلها مثل كل المليشيات المنتشرة في سورية، تمارس كل أشكال التعسف بحق المواطنين الخاضعين لسيطرتها، من دون أن تكون هناك جهة من الممكن أن تضع حداً لجرائمها، خصوصاً تجاه المكوّن العربي الذي تعرّض قسم منه لعمليات تهجير قسري على يدها مع وجود تهمة جاهزة هي التعاون مع تنظيم "داعش".

المساهمون