صدمة أميركية من قرار ترامب: تساؤلات عن الآتي

صدمة أميركية من قرار ترامب الانسحاب من سورية: تساؤلات عن الآتي

21 ديسمبر 2018
يرى البعض أن أميركا ستضطر للعودة (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
يفتح قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية الكامل من سورية في أسرع وقت ممكن، المجال أمام الكثير من التساؤلات حول تداعياته، التي لن تقتصر بطبيعة الحال على الساحة السورية، بل ستمتد إلى الشرق الأوسط وحتى مناطق بعيدة، حيث لأميركا وجود عسكري، من دون الإغفال عن الانعكاسات الداخلية في واشنطن، مقابل استفادة أطراف أخرى، لا سيما روسيا وإيران.

وبدا واضحاً من ردود الفعل الأميركية، أن ترامب أقدم على خطوته هذه، من دون علم أركان إدارته ولا التشاور مع قيادات الكونغرس، وضد توصيات البنتاغون الذي التزم الصمت بعد الإعلان عن الخطوة. ومنذ مجيء ترامب للسلطة، طرح فكرة الانسحاب من سورية، لحسابات انتخابية أولاً نظراً للرفض الشعبي العام للمشاركة في حروب خارجية. وفي مارس/آذار الماضي، جدّد تعهده بتنفيذ هذا الانسحاب "قريباً جداً". لكنه تراجع في سبتمبر/أيلول الماضي بعد تدخّل أقطاب المؤسسة في الإدارة والكونغرس وشرح الاعتبارات الجيوسياسية التي تبرر البقاء هناك. وكل الإدارة تحدثت آنذاك عن أهمية التواجد في سورية. مستشار الأمن القومي جون بولتون أكد أن القوات الأميركية لن تغادر "طالما بقيت القوات الإيرانية خارج حدود بلادها". وزير الدفاع جيم ماتيس حذر من التسرع الذي قد "يؤدي إلى عودة داعش". كما أن المبعوث الخاص إلى سورية جايمس جيفري شدد على أن القوات الأميركية "باقية في سورية لضمان مغادرة الإيرانيين". كل تلك التأكيدات أطاح بها إعلان ترامب الأربعاء قرار الانسحاب. وبدا تبرير الرئيس الأميركي بأن المهمة انتهت مع هزيمة "داعش"، واهية لمعظم الأوساط، إذ إن التنظيم ما زال يحتفظ بما بين 20 ألفاً و30 ألف مقاتل، بحسب التقديرات.

ومن المتوقع أن يؤدي تجاهل ترامب لموقف ماتيس، الذي أوصى بضرورة صرف النظر عن ترك الساحة السورية كلياً "لاعتبارات تخص الأمن القومي الأميركي"، إلى تزايد التوتر بين الرجلين، بما قد يسرّع من استقالة الوزير، لا سيما أن علاقته صارت مهتزة أخيراً مع الرئيس. هذا الأمر تحدثت عنه صحيفة "واشنطن بوست"، التي نقلت عن مصادر أن ماتيس قد يستقيل من منصبه في المرحلة المقبلة.

في الداخل الأميركي أيضاً، بدا واضحاً أن قرار ترامب زاد الانقسامات، لا سيما في صفوف الجمهوريين. وجاءت الردود قاسية من بعض أعضاء الكونغرس، خصوصاً كبار الجمهوريين في مجلس الشيوخ، مثل السيناتور ليندسي غراهام، التي وصف الانسحاب بالخطوة "الكارثية"، من الناحيتين الأمنية والجيوسياسية. كما قال العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، ماركو روبيو، إن الانسحاب "خطأ فادح ستكون له آثار أوسع" تتخطى القتال ضد "داعش". ووصف القرار بأنه "مثال آخر على كيف أن الولايات المتحدة ليست شريكاً جديراً بالثقة".
كذلك ندد السيناتور الديمقراطي من ولاية رود آيلاند، جاك ريد، بما وصفه "خيانة للأكراد السوريين". وقال "يبدو أن الرئيس الآن يكتفي بالتخلي عن ثقتهم ويتركهم في صراع دموي محتمل مع تركيا. هذا القرار يزيد بشكل كبير من المخاطر الأمنية لشركائنا الإقليميين الرئيسيين في إسرائيل والعراق والأردن".

وبدا أن البيت الأبيض فوجئ بحدة الردود واتساعها. ظهر ذلك في محاولته لتسويق القرار، كما بعزوف البنتاغون عن التعليق. ومن المؤشرات في هذا الخصوص، أن البيت الأبيض قرر في آخر لحظة إلغاء لقاء رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السيناتور بوب كوركر، مع ترامب، والذي كان كوركر قد طلب عقده للاطلاع من الرئيس على الأسباب التي حملته على اتخاذ قراره. الأمر الذي فاقم الاعتراض في الكونغرس وعزز الشكوك حول الدواعي. ولم يجد ترامب إلى جانبه سوى فريق بسيط من المحافظين، مثل السيناتور راند بول، الذي رحّب بالانسحاب انطلاقاً من موقفه المناهض لنشر القوات الأميركية في الخارج، أو لأن القرار يصحح الخطأ المتمثل "بوجود قواتنا في سورية خلافاً للقانون الدولي ومن غير أن يجيزه الكونغرس"، كما رأى جون غلازر، رئيس قسم الشؤون الخارجية في مؤسسة "كاتو" للدراسات في واشنطن، رداً على سؤال "العربي الجديد".


ومن الانتقادات التي وُجهت لقرار ترامب أيضاً، اعتبار الانسحاب نسخة عن قرار الانسحاب الخاطئ الذي اتخذه الرئيس السابق باراك أوباما سنة 2011 من العراق، والحديث عن أن واشنطن ستضطر للعودة إلى الساحة السورية لاحقاً، لكن بثمن أكبر. واللافت أن ترامب نفسه كان قد انتقد سلفه أوباما في السابق بسبب سحبه القوات الأميركية من العراق. وفي هذا السياق، قال الدبلوماسي الأميركي السابق، ايلان غولدنبرغ، إن تنظيماً يخلف "داعش" يمكن أن يظهر، مما يمكن أن يستدعي تدخلاً أميركياً جديداً. وكتب على "تويتر": "نحن على وشك أن نكرر الخطأ نفسه في الشرق الأوسط، والذي ارتكبناه مراراً وتكراراً في السنوات العشرين الأخيرة".

على الرغم من الحماوة الداخلية التي خلقها قرار ترامب في الساحة الأميركية، إلا أن تداعياته الأكبر ستكون في الخارج. ولعل السؤال الأبرز الذي طُرح هو "من سيملأ الفراغ" بعد الانسحاب الأميركي، و"من يملك القدرة على إرساء الاستقرار"، كما قال المتخصص في شؤون سورية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أندرو تابلر.
القرار جاء "ليقدّم هدية" إلى موسكو، التي تُعتبر "الرابح الأول من هذه الخطوة الطائشة"، بتعبير الجنرال الأميركي المتقاعد باري ماكفري. هذه القراءة وافقت عليها معظم التحليلات أمس للتطور الجديد. وقالت المديرة التنفيذية لمركز "الأمن الأميركي الجديد"، المساعدة السابقة لوزير الخارجية الأميركي، فيكتوريا نولاند، إن ترامب بقراره هذا "يُقدّم هدية رأس السنة الجديدة إلى بشار الأسد، داعش، الكرملين وطهران". وأضافت في مقال لها في صحيفة "واشنطن بوست"، أن القرار يضمن خسارة المكاسب العسكرية الأميركية في سورية، والقضاء على أوراق النفوذ التي كانت في يد وزير الخارجية مايك بومبيو ومبعوثه الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، لدفع تسوية دبلوماسية تلبي أهداف الإدارة الخاصة بإبقاء "داعش" وإيران خارجاً، متابعة "قرار ترامب يعني تدهور الوضع الأمني أكثر، وأن داعش وإيران سيزيدان قوتهما مرة أخرى، وأن الولايات المتحدة ستضطر للعودة إلى سورية بتكلفة عسكرية أكبر وفي ظروف أكثر ضرراً مما لو بقينا هناك".

ورأت نولاند أن "كل شيء في هذا القرار يهدد مصالح الأمن القومي كما يفهمها ترامب؛ لأن تنظيم داعش لم يهزم، وعندما تخرج القوات الأميركية سيقوم التنظيم باتخاذ ثلاث خطوات: إعلان النصر على القوات الأميركية الكافرة، وشحن قوته للتجنيد في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وضخ مقاتلين جدد إلى شرق سورية، وسيخرج من مخابئه لاستعادة مناطق شرق سورية من قوات سورية الديمقراطية ". كما لفتت إلى أن "إيران ستستفيد من هذا القرار، إذ ستتقدّم إلى المناطق التي ستتركها الولايات المتحدة، وقد تأمر طهران مقاتليها وعناصر حزب الله، الموجودين في الجنوب والغرب، بالتحرك نحو الشرق".

وأشارت نولاند إلى أن "موسكو ستحتفل بالقرار أيضاً، فبعد سنوات من التظاهر بالتفاوض على حل سياسي مع واشنطن للأزمة السورية، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيتجاهل أي محاولات من مبعوثي ترامب، لأن واشنطن لا تملك قوات عسكرية على الأرض، وسيواصل الكرملين دعمه للأسد وتوطيد سيطرته على سورية كلها حتى 2021، وتنظيم انتخابات لرئيس جديد".

كذلك، طرح قرار ترامب تساؤلات عما إذا كان الانسحاب العسكري من الخارج، سيطاول مناطق أخرى تنخرط فيها الولايات المتحدة عسكرياً، ولا سيما أفغانستان. فقد سبق لترامب أن قال إن غريزته تدفعه إلى التخلي عن أفغانستان كونها قضية خاسرة، لكنه أبدى في الآونة الأخيرة رغبته في البقاء بحثاً عن سلام مع حركة "طالبان". غير أن المفاجأة في سورية تثير تساؤلات حول ما إذا كان شركاء الولايات المتحدة في أفغانستان، وحتى العراق، يشعرون بالثقة من أنه لن يتخلى عنهم أيضاً.
وقالت مديرة التخطيط الاستخباراتي في "معهد دراسة الحرب"، جينيفر كافاريللا، في مقابلة مع "أسوشييتد برس"، إنه بعد قرار ترامب "أعتقد أن علينا أن نشعر بالقلق إن كانت أفغانستان هي التالية". وتشارك الولايات المتحدة في الحرب في أفغانستان منذ 17 عاماً، ولا يزال هناك 15 ألف جندي يقومون بمساعدة القوات الأفغانية في قتال "طالبان".

وفي السياق نفسه، كتبت نائبة المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، كوري شاكه، على موقع "أتلانتيك دوت كوم" الأربعاء، أن قرار الانسحاب سوف يزعزع كل حليف يعتمد على الضمانات الأمنية الأميركية. وأضافت "يجب أن تشعر حكومتا العراق وأفغانستان بقلق بالغ. لأنه إذا أمكن الانسحاب من سورية بهذه السهولة، فإن العراق وقد أعلن الانتصار في المعركة ضد داعش، فما هي الحجة لاستمرار مساعدته؟ وإذا كان لدى ترامب اهتمام قليل باستقرار الأمن في سورية، فكيف يمكن لأفغانستان أن تثق في أنه لن يتخذ القرار نفسه بشأنها، عندما تكون المعركة في أفغانستان أكثر كلفة، والتقدّم أقل وضوحاً؟".
ولعل الخاسر الأكبر من حلفاء الولايات المتحدة، ستكون "قوات سورية الديمقراطية" التي تنضوي ضمنها الوحدات الكردية، والمهددة بعملية عسكرية تركية شرقي الفرات، وهو ما دفع هذه القوات لوصف قرار ترامب بالانسحاب والتخلي عنها بالطعنة في الظهر.

ولن تتوقف التداعيات على ذلك، بل بدأت التساؤلات عن انعكاسات القرار الأميركي على الأمن الأوروبي. فعلى الرغم من أن تنظيم "داعش" خسر كل الأراضي التي كان يسيطر عليها في سورية تقريباً، إلا أنه يعتقد أن لديه آلافاً من الأنصار الذين يشنّون هجمات في الخارج وغالباً ما يتغلغلون بين السكان المحليين في أوروبا. وبانسحاب القوات الأميركية، ستبقى فرنسا وبريطانيا في التحالف الدولي لمحاربة "داعش" في سورية، بما يضعهما أمام مخاطر التعرض لهجمات من التنظيم. وفي هذا السياق، كتب رئيس الوزراء البلجيكي السابق غاي فيرهوفشتات، على "تويتر": "كعادتها فإنها (الولايات المتحدة) تترك الأوروبيين في وضع أكثر صعوبة... ويظهر أنه من الخطأ تماماً عدم امتلاكنا قوة دفاعية قادرة على المساعدة في إحداث الاستقرار في الدول المجاورة"، وذلك وسط دعوات تقودها فرنسا لإنشاء جيش أوروبي منفصل عن حلف شمالي الأطلسي.