سباق على "إمبراطورية التنف": إيران تبحث عن موطئ قدم

سباق على "إمبراطورية التنف": إيران تبحث عن موطئ قدم في المثلث السوري-العراقي-الأردني

19 نوفمبر 2018
أنشأت المليشيات مواقع داخل منطقة التنف السورية(لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -
منذ مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنشأت مليشيات عراقية مختلفة مرتبطة بإيران مواقع عدة لها داخل منطقة التنف السورية، التي تربط العراق بسورية والأردن وتعرف أيضاً بالمثلث السوري العراقي الأردني، فيما تصاعد السجال الأميركي الروسي في الأسابيع الأخيرة بشأن المنطقة التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى محطة للسباق على النفوذ فيها من دول عدة، بينها إيران، والولايات المتحدة، وحتى روسيا. 
وظلت تلك الصحراء القاحلة بمثابة مثلث ميت لا يكاد يذكر قبل أن تعلن بغداد عام 1991 قصف تل أبيب وحيفا إبان حرب الخليج بصواريخ سكود طويلة المدى من حدودها الدولية الغربية، ويتم الكشف لاحقاً عن أن مسار بعض الصواريخ كان من خلال وادي "جباب" العراقي مروراً بمثلث التنف، بهدف تجنيب سكان المدن الأردنية آنذاك أي خطر محتمل الحدوث. في عام 2003 نفذت الولايات المتحدة عمليات إنزال جوي في مثلث التنف، مع بدء عملية احتلال العراق بهدف مباغتة القوات العراقية التي كانت تتجمع على الحدود العراقية مع السعودية والكويتية آنذاك.

وبعد قيام الثورة السورية لم يتجاوز دور هذه المنطقة ما عرفت به سابقاً كونها عقدة مواصلات مهمة، إذ إنها الطريق الواصل إلى دمشق وفيها أيضاً المعبر البرّي العراقي السوري المعروف باسم التنف أيضاً والذي سقط بيد "داعش" عام 2014، وتبادلت قوى أخرى عدة، بينها قوات النظام وفصائل سورية معارضة وقوات عراقية عشائرية، عملية السيطرة على المعبر.

كما يمرّ من المنطقة أنبوب النفط العراقي المعطل منذ نحو 70 عاماً والمعروف باسم خط كركوك - حيفا، والذي شيّد عام 1932 لإيصال النفط العراقي إلى حيفا ومنه إلى باقي دول المنطقة. ويبلغ طول الأنبوب 942 كيلومتراً، وأوقف العراق ضخ النفط فيه عام 1948. ولا يزال الأنبوب قائماً رغم تهالكه ويعرف في العراق أيضاً باسم أنبوب الموصل – حيفا، إذ كانت كركوك سابقاً مدينة تابعة لولاية الموصل. وباتت عقد الأنبوب (مراكز التحكم) بمثابة دلالات لا تزال تستخدم حتى الآن في العراق، إذ هناك منطقة H1 ،H3، وهي عقد ومراكز السيطرة على الضخ الممتدة على طول الأنبوب. وفي مثلث التنف توجد نقطة H4. ويرمز الحرف H إلى الحرف الأول من مدينة حيفا الفلسطينية.

في الجانب الآخر، فإن المهربين كانوا يعتبرون تلك المنطقة شريانهم الوحيد في نقل المواد والبضائع المهربة بين العراق والأردن عبر ما يعرف بـ"الكسرات"، في إشارة إلى كسر السواتر الترابية للحدود بين البلدين وإدخال المواد المهربة، وهي في العادة سجائر وأغنام عراقية وبنزين، بسبب غلاء المواد الثلاث في الأردن مقارنة بأسعارها في العراق.

وتبلغ مساحة التنف أكثر من 80 كيلومتراً طولاً و50 كيلومتراً عرضاً، يتخللها وادي التنف وجبل التنف، وكلاهما في الجزء السوري من هذه المنطقة التي غالبيتها ذات طبيعة صحراوية قاسية، باستثناء الوادي الذي يفيض بمياه السيول كل عام، ويطلق عليه أيضاً اسم وادي التنف، وينتهي داخل الأراضي العراقية حيث يلتقي مع متفرعات وادي حوران الكبير، غرب الأنبار. وتعتبر تلك المنطقة مرتكز غزال الريم العربي.

لكن في السنوات الأخيرة اكتسبت المنطقة أهمية عسكرية كبيرة، وسط تنافس بين أبرز الدول الفاعلة في المشهد السوري والعراقي على الوجود فيها، بدءاً من الولايات المتحدة، مروراً بروسيا وحتى إيران.

وفي أواخر أكتوبر الماضي، قال مسؤول عراقي محلي في محافظة الأنبار، غربي البلاد، إن شاحنات تقلّ مسلحين ينتمون لفصائل عراقية مختلفة اجتازت الحدود العراقية ودخلت الأراضي السورية، وهي ثالث قافلة تتوجه إلى سورية تحمل مسلحين خلال أقل من أسبوعين.
ووفقا للمسؤول نفسه العامل في مجلس قضاء الرطبة، غربي العراق، فإن الشاحنات تحمل تصاريح يمنع على الجيش والشرطة أو أي قوة أخرى تفتيشها أو إيقافها داخل حواجز التفتيش، ومعها شاحنات مغلقة يعتقد أنها تحمل أسلحة وذخيرة. وأوضح أنّ مليشيات العصائب والنجباء والإمام علي والخراساني وكتائب حزب الله والبدلاء باتت تسيطر على كامل الحدود العراقية المحاذية للتنف السوري ووجود الجيش العراقي هناك صوري لا أكثر. ولم يؤكد تلك المعلومات أي مسؤول آخر في المدينة مع الأردن وسورية، إلا أن شهود عيان من قبيلة البو عيسى التي توجد في المنطقة أكدوا أن عبور الشاحنات إلى الجانب السوري بات مشهداً اعتيادياً. وأشاروا إلى أن مرافقي الشاحنات هم افراد المليشيات الذين يستقلون عربات بيك آب ويضعون شعار الحشد الشعبي عليها.

وفي السياق ذاته تتحدث مصادر مقربة من فصائل موالية لإيران في العراق عن إقامة ثلاثة مقرات لها في التنف السوري من جهة الحدود مع العراق وعلى بعد لا يتجاوز 30 كيلومتراً من القاعدة الأميركية الموجودة في المنطقة. ووفقاً للمصادر نفسها، فإن المناطق التي توجد فيها المليشيات الحالية، بذريعة إحباط محاولات تسلل تنظيم "داعش"، هي ذاتها المناطق التي تعرضت لقصف جوي في يونيو/ حزيران الماضي، أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من مليشيا حزب الله ومليشيا الأبدال العراقيتين.

وسرّبت فصائل عراقية مسلحة عدة صور لزعيم فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني خلال العام 2018 مع زعماء مليشيات عراقية مثل أبو مهدي المهدي وأوس الخفاجي وقيس الخزعلي وأكرم الكعبي في تلك المنطقة.

وقال عقيد في الجيش العراقي، طلب عدم ذكر اسمه، إن الجيش العراقي له حق التوغل بعمق 10 كيلومترات داخل الأراضي السورية وفقاً لاتفاقية أمنية جرى التوصل إليها مع حكومة حيدر العبادي السابقة ونظام بشار الأسد في فبراير/ شباط من العام الحالي. لكن لا توجد أي قوات عراقية نظامية بل فصائل من الحشد الشعبي تنتشر داخل التنف السوري تحديداً دون سواها من الأراضي السورية مثل البو كمال ودير الزور والحسكة الحدودية مع العراق. وأضاف "لا نأتي بجديد إذا تحدثنا عن فصائل عراقية داخل التنف برعاية إيرانية، لكن الجديد أنها زادت من وجودها أخيراً، وبشكل ملحوظ، والحديث عن عبور شاحنات مسلحين من العراق إلى سورية صحيح". وأكد أن الفصائل "تمتلك أسلحة متوسطة وثقيلة، مثل مدافع 105 مليمترات ومدافع الهاون وصواريخ كاتيوشا".

في موازاة التحركات الإيرانية كشف في 23 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال جوزيف فوتيل، زار قاعدة التنف التي تديرها بلاده، بشكل سرّي، في خطوة لم يخف فوتيل أن هدفها يتجاوز القضاء على المقاتلين المتبقين من تنظيم "داعش" بقوله "لدينا مهمة دحر داعش، لكنني أقر بأن وجودنا وتطويرنا لشركائنا والعلاقات هنا لديها تأثير غير مباشر على بعض الأنشطة "الخبيثة" التي تسعى إيران ووكلاؤها إلى ممارستها". لافتاً في الوقت نفسه إلى أن مهمة "التحالف" في التنف لم تتحول إلى حملة ضد إيران. وأوضح الأهداف الأميركية قائلاً "إن لهذه القاعدة فوائد إضافية في عرقلة نفوذ إيران، إذ إن الوجود الأميركي هناك يجعل من الصعب على طهران تعزيز وجودها العسكري في سورية ومساعدة نظام الأسد على استعادة مناطق خارجة عن سيطرته".
واستدعت التحركات الأميركية رداً من روسيا، تحديداً عبر المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا، التي ذهبت للحديث عن أنه "يوجد احتلال واضح من قبل القوات الأميركية لأراضي الدولة السورية ذات السيادة". كذلك أعربت زاخاروفا قبل أيام عن رفض روسيا قيام الولايات المتحدة بالاعتماد على مسلحي فصائل "مغاوير الثورة" في حماية القافلات الأميركية بمحيط قاعدة "التنف". وأضافت "نحن نعتبر حقيقة قيام الأميركيين، بخلاف الاتفاقيات المبدئية، بإشراك مسلحي مغاوير الثورة في حماية القافلات داخل ما يسمى بـ (المنطقة الاستثنائية) أمراً غير مقبول على الإطلاق".

من جهته، قال العقيد المنشق عن جيش النظام السوري، حاتم الحمصي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن التنافس على المنطقة من قبل مختلف أطراف الصراع داخل الساحة السورية قد يرتفع في الفترة المقبلة. ولفت إلى أنه عمل "في هذه المنطقة بضعة أشهر عام 2006 ويعلم مدى أهميتها. ويجد الأميركيون فيها موقعاً ممتازاً لنفوذهم العسكري في سورية. والروس يعتبرون أن حصولهم على موطئ قدم فيها لا يقل أهمية عن وجودهم في مناطق الساحل السوري، فالمنطقة تمثل محطة رصد جوي واستخباري مهمة لهم، خاصة في ما يتعلق بالعراق والأردن أيضاً. كما أن إصرار إيران على دفع مليشيات موالية لها في تلك المنطقة يهدف لتحقيق مكاسب سياسية مستقبلية على أبعد تقدير".

وبرأي الخبير في الشأن الأمني العراقي، العميد المتقاعد فوزي الطائي، فإن "سرّ إصرار المليشيات التابعة أو المدارة من قبل إيران على الوجود في تلك المنطقة سببه أهميتها الجغرافية". ولفت إلى أنّ "إيران فشلت حتى الآن في إيصال صواريخ مؤثرة إلى حدود الجولان السوري المحتل من الكيان الصهيوني، وهذا يعني أن إيصال صواريخ بمدى 200 ميل (نحو 320 كيلومتراً) إلى منطقة التنف السورية يجعل القدس وحيفا وتل أبيب ضمن مدى تلك الصواريخ". كما تحدث عن أسباب أخرى وراء الاهتمام الإيراني بالمنطقة، من بينها "ضمان تدفق التواصل البري بين الإيرانيين ونظام الأسد بدون مشاكل". وبرأيه، فإن "الوجود في المنطقة يشكل أيضاً ورقة لعب للإيرانيين مع الأردنيين في المستقبل، ولهذا نجد الجانب الأردني مستنفر جداً على تلك الحدود عسكرياً واستخبارياً".

ووفقاً للطائي، فإن الإيرانيين يحاولون الحصول على أكبر قدر من المكاسب على الأرض السورية تحسباً لوقت يضطرون فيه لتقديم تنازلات. وأضاف "شخصياً لا أعتقد أن الإيرانيين يشكلون تهديداً على الاحتلال الإسرائيلي لا حالياً ولا في المستقبل، وشعاراتهم لتمرير أجندتهم في أكبر قدر ممكن من الدول العربية".

المساهمون