الولايات المتحدة الأميركية بين حرائق السياسة والطبيعة

الولايات المتحدة الأميركية بين حرائق السياسة والطبيعة

14 نوفمبر 2018
نصف الكونغرس ضدّ ترامب(Getty)
+ الخط -
تزامن يلفت النظر؛ في ولاية كاليفورنيا، نار الحرائق تأكل الأخضر واليابس منذ أيام. وفي واشنطن نار السياسة تأكل الساري والمألوف في أعرافها ومؤسساتها، ودخانها الكثيف يقلّص الرؤية إلى حدود الصفر. المشترك بين الحريقين أن كليهما استعصى على الإطفاء وناتج من حالة جفاف خطيرة. الطبيعة في كاليفورنيا صارت كالهشيم بسبب ندرة الأمطار، بما جعل مناطقها المشجرة جاهزة للتحول بأقل شرارة إلى جحيم. وهكذا هو حال واشنطن اليابسة المنفلتة والمتناحرة سياسياً. الفارق أن الشرارات موسمية في كاليفورنيا لكنها في هذا الزمن، يومية في عاصمة القرار.

الحرائق في كاليفورنيا عادية ولو أنها مخيفة هذه المرة، إذ إنها حصدت إلى الآن 44 ضحية وحوّلت أكثر من ستة آلاف مبنى ومنزل ومساحات واسعة من الأحراش، إلى رماد وبقايا مفحّمة. مع ذلك لن تخرج بالنهاية عن سيطرة 3 آلاف إطفائي يعملون على إخمادها وتبقى خسائرها محصورة مهما كانت فادحة.

أما حرائق واشنطن الحالية فهي من نوع آخر استعصى على السيطرة. صانعها لا يتوقف عن إشعالها والإطفائية السياسية معطلة أو ممتنعة عن ممارسة مهامها (خاصة الجمهوريين في الكونغرس)، وبما يترك الأوضاع مفتوحة على المزيد من الالتهاب.

كما كان متوقعاً، تبدو مرحلة ما بعد الانتخابات النصفية للكونغرس التي مرّ عليها أسبوع، أكثر وعورة من السابق. تحوّل نصف الكونغرس ضدّ الرئيس دونالد ترامب وبخصومة عنيفة، زاد من حدة التوتر ومن توجسات البيت الأبيض، ليس فقط تجاه خصومه، بل أيضاً داخل إدارته المضطربة أصلاً. ينعكس ذلك في تسارع حركة التغييرات والإقالات فيها، آخر المغادرين في أي لحظة، ميرا ريكارديل، اليد اليمنى لـ جون بولتون، مستشار الرئيس. ذهبت ضحية لمناكفة مع معاونة للسيدة الأولى التي أعلنت ناطقة باسمها أن ميرا لا مكان لها بعد الآن في البيت الأبيض. لم يصدر بعد أي تعليق عن بولتون الذي قد يكون طردُ مساعدته بمثابة رسالة ضمنية له. فالسيدة الأولى لا تتدخل عادة في تقرير مصير كبار الموظفين في البيت الأبيض. قد تعطي رأيها، لكن ليس بصورة أمر تنفيذي غريب كما حصل أمس.

ومن المتوقع أن تكون وزيرة الأمن الداخلي، كريستين نيلسن، الضحية الأخرى قريباً "لأن الرئيس لا يريد" بقاءها في موقعها، تماماً كما سبق له أن فعل وإن بشكل أكثر حدة مع وزير العدل جيف سيشنز الأسبوع الماضي، وعيّن مكانه وزيراً بالوكالة من دون موافقة مجلس الشيوخ في سابقة غير معروفة من قبل. وقريباً يأتي دور وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي بدأ حضوره يخبو أكثر فأكثر. وربما سبقه الجنرال جون كيلي، كبير موظفي البيت الأبيض والمساعد الأول للرئيس. سرت شائعات كثيرة في السابق حول عزمه على المغادرة. لكن هذه المرة تبدو التسريبات جدّية.

وثمة همس عن استقالات أخرى على الطريق في الصف الثاني من المسؤولين، فالتذمر متزايد والتنافر متفاقم على أكثر من صعيد: عدلي وأمني ودبلوماسي، خاصة في وزارتي الدفاع والخارجية. بيئة ضاعفت من وتيرة التخبط لا سيما في السياسة الخارجية. تجلّى ذلك بأوضح صوره خلال زيارة الرئيس الأخيرة إلى باريس، للمشاركة في مئوية وقف الحرب العالمية الأولى وما رافقها من مشاكسات وخروج على البروتوكول.

وزارة الخارجية تبدو شبه غائبة عن عدة ساحات مشتعلة. الملف الفلسطيني الإسرائيلي متروك لمساعد جاريد كوشنر، جيسون غرينبلات. وكذلك الوضع في غزة؛ إذ كررت الناطقة في الخارجية أمس المعزوفة ذاتها، بأن "لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها" وأن "الإدارة تقوم بالاتصالات على أعلى المستويات في المنطقة لمعالجة الوضع"، من دون أي تفاصيل أو حتى دعوة إسرائيل لضبط النفس، كونها هي التي فجرت الوضع بالعملية الخاصة التي قامت بها قواتها داخل القطاع ليل الأحد - الإثنين. ويبدو أن الوزير مايك بومبيو مستبعد عن هذا الموضوع. حتى دوره في المفاوضات مع كوريا الشمالية خسر زخمه، أخيراً، بعد إلغاء لقاء الأسبوع الماضي مع مسؤول كوري شمالي في نيويورك. وأيضاً متابعته قضية اغتيال جمال خاشقجي بدت رتيبة، حيث اكتفى بمكالمة هاتفية قبل يومين مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في هذا الخصوص وصفتها المتحدثة في الخارجية بصورة ضبابية، وكأن صورة ما جرى في القنصلية في إسطنبول ليست واضحة بعد. وربما فعل ذلك تحت ضغط الإعلام الذي لا يبدو أنه في وارد ترك هذه القضية والتوقف عن متابعتها.

الولايات المتحدة الأميركية بين نارين، من الشرق والغرب. الثانية على شراستها تبقى عابرة هي وأضرارها. الأولى باقية على أقل تقدير لغاية 2020 ولا أحد يعرف كلفتها.