الجنوب الليبي: صراعات قبلية متعددة الجنسيات تحت أنظار حفتر

الجنوب الليبي: صراعات قبلية متعددة الجنسيات تحت أنظار حفتر

23 أكتوبر 2018
شهد الجنوب اشتباكات قبلية منذ سقوط نظام القذافي(فرانس برس)
+ الخط -
لم يعد الحديث عن وجود مليشيات أفريقية في الجنوب الليبي وسيطرتها على مناطق هناك، سراً، فتلك المنطقة التي خرجت من اهتمامات الدولة الليبية منذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011، وقعت تحت سيطرة مليشيات قبلية متناحرة، وتراجعت الأوضاع الأمنية والمعيشية فيها تدريجياً حتى وصلت حد الانهيار وتمدُد مليشيات أفريقية متمردة فيها، في ظل تضافر شبكة من العوامل والأسباب المحلية والخارجية. وجاءت الاشتباكات في الأيام الأخيرة في منطقة أم الأرانب (الواقعة جنوب سبها)، بين مليشيات تشادية ومسلحين من المنطقة، لتقدّم دليلاً جديداً على انتشار المليشيات الأفريقية في مناطق متعددة من الجنوب الليبي. وقال الرائد أكرم البراي، أحد الضباط العسكريين من المنطقة، بوجود عناصر من المليشيات التشادية في كل المناطق الواقعة جنوب أم الأرانب وصولاً إلى الحدود التشادية، مشدداً على أن أهالي الجنوب "عزموا على طردها بمساعدة حكومتي الشرق وطرابلس أم من دونهما"، لافتاً إلى غياب الحكومتين بشكل كامل عن الجنوب، وأن الخدمات والظروف المعيشية في المنطقة سيئة إلى أبعد الحدود.

وبات مسؤولون في الجنوب يتحدثون جهاراً عن وجود هذه المليشيات الأفريقية، بدليل إعلان المتحدث باسم الغرف الأمنية المشتركة في سبها، مختار الطرشاني، أن قوات الغرف على استعداد لملاحقة هذه المليشيات، فيما أعلنت جمعية الهلال الأحمر في سبها، في 6 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، عن نجاحها في الدخول في مفاوضات مع مليشيات أفريقية تمكّنت بموجبها من إطلاق سراح 11 مواطناً مختطفاً.

أما حكومة الوفاق في طرابلس، فلا يبدو أن مواقفها تتجاوز البيانات المستنكرة للوضع في الجنوب، لا سيما أنها منشغلة في صراعات مسلحة في العاصمة طرابلس. في المقابل، اعترف أعضاء في مجلس النواب بسيطرة مليشيات أفريقية على مناطق جنوبية. وقال عضو البرلمان، مصباح دومة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الوضع الأمني متفلت للغاية، فالسيطرة للمرتزقة الذين ينشطون في مجالات تهريب البشر والمخدرات، بالإضافة إلى عمليات خطف المواطنين، بل والهجوم على القرى والواحات جهاراً"، مشيراً إلى أن المجلس عقد جلسات عدة لمناقشة أوضاع الجنوب. من جهتها، طالبت عضوة المجلس، سهام سرقيوة، قبل أيام، بضرورة مثول اللواء خليفة حفتر أمام مجلس النواب لمساءلته عن أوضاع الجنوب، وموقف قواته من الأحداث هناك.

مسار الانهيار
تزيد مساحة الجنوب الليبي على 500 ألف كيلومتر مربع، ويعيش فيه طيف قبلي مكوّن من التبو والطوارق والعرب المعروفين باسم الفزازنة والزوية والمجابرة، يتوزعون في ستين مدينة وقرية وواحة. ويتصل هذا الإقليم بحدود خمس دول أفريقية مجاورة (الجزائر، النيجر، تشاد، السودان، ومصر)، وبفعل انهيار الوضع الأمني، لم تنجح تلك الدول بمنع مرور واتصال القبائل القاطنة في الجنوب الليبي بامتداداتها القبلية في تلك الدول، كالتبو في تشاد والنيجر، والطوارق في تشاد والنيجر والجزائر.

بعد سقوط نظام القذافي، وإثر تزايد التناحر القبلي، لا سيما بين قبائل أولاد سليمان والقذاذفة في منطقة سبها، والتبو والطوارق في أوباري، وقبائل أخرى في الكفرة، كلّف المؤتمر الوطني العام في 2012 قوة عُرفت باسم "القوة الثالثة" بوقف تصاعد العنف والوقوف كقوة محايدة هناك، لكن التجاذبات السياسية التي أدخلت البلاد في مرحلة انقسام سياسي وأمني منذ العام 2014، جعلت تلك القوة خصماً عسكرياً لقوات حفتر، التي سلّحت قوى قبلية في المنطقة وأدخلتها أتون المعركة.

وحتى عام 2015، كانت الخلافات القبلية في الجنوب قائمة على أسباب تاريخية، ولكن في بداية ذلك العام، أعلن عيسى عبد المجيد والعقيد علي سيدي، وهما من أبرز زعماء قبائل التبو، تأييدهما لـ"عملية الكرامة" بقيادة حفتر، لتتسرب من وقتها صلات وعلاقات بين الرجلين وحركة "العدل والمساواة" السودانية، التي ثبت في ما بعد وجود عناصرها في صفوف قوات حفتر، وفق تقارير للأمم المتحدة.

في المقابل، اندفع خصوم حفتر في الجنوب للاستعانة بحركات تمرد تشادية، وهو ما أثبته تقرير خبراء الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، إذ كشف أن "القوة الثالثة" استعانت بعناصر التمرد التشادي المسلحة، كما أكد استعانة قائد حرس المنشآت النفطية السابق، إبراهيم الجضران، بالعناصر نفسها في هجومه على منطقة الهلال النفطي منتصف يونيو/حزيران الماضي. حتى أن مليشيات تشادية اعترفت بالتواجد على الأراضي الليبية، مثل مجموعة "المجلس العسكري لإنقاذ الجمهورية"، و"تجمّع القوى من أجل التغيير" في تشاد، وغيرها، التي أعلنت عن بعض خسائرها في معارك الجنوب الليبي، عبر صفحاتها الرسمية. وفي إبريل/نيسان الماضي، نقلت صحيفة "الوحدة" التشادية، عن مسؤولين في الحكومة هناك، أن حوالي 11 ألفاً من عناصر المعارضة التشادية منتشرون حالياً في جنوب ليبيا، عبر ست حركات مسلحة.

تداخل مناطق السيطرة

استعانة طرفي الصراع الليبي بمرتزقة من الخارج، وتداخل انتشارهما في العديد من المناطق، يحولان دون رسم صورة واضحة عن خارطة السلاح والنفوذ، ففيما لم يعد هناك وجود حقيقي لقوات موالية لحكومة الوفاق الوطني بعد انسحاب "القوة الثالثة" في مايو/أيار من العام الماضي، بقيت قوات حفتر متمترسة في قواعد عسكرية معينة، من دون أن تتدخّل للحد من الفوضى والاعتداءات على السكان. ومن أبرز تلك القواعد، قاعدتا "براك الشاطئ" و"تمنهنت" بالقرب من مدينة سبها، اللتان يسيطر عليهما خليط من مقاتلي القبائل ويتولى قيادتهما عسكريون من النظام السابق، وقاعدة الجفرة الجوية الأكبر جنوبي البلاد، ويسيطر عليها مقاتلو التيار المدخلي السلفي، بالإضافة إلى معسكرات الكفرة التي تشغلها كتيبة "سبل السلام" التي تتألف هي الأخرى من التيار السلفي. أما خارج نطاق هذه القواعد العسكرية، فقد تحوّلت أغلب مناطق الجنوب إلى ساحة للصراع بين المليشيات الأفريقية المتعددة، كانت أبرزها المواجهات المسلحة العنيفة بين مليشيات تشادية وأخرى سودانية في بلدة الجغبوب، على الحدود الليبية المصرية، بسبب الصراع على طريق للتهريب مرتبط بهذا المنفذ الاستراتيجي بالنسبة للمهربين في الجنوب.

كذلك، أعلنت الغرفة الأمنية في سبها، أن اشتباكات وقعت نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، قالت كتيبة "سبل السلام" إنها حصلت بينها وبين قوى متمردة تشادية، إنما جرت بين متمردين سودانيين وتشاديين ضمن صراعهم على طرق التهريب. وكان تقرير خبراء الأمم المتحدة الصادر في سبتمبر الماضي، أكد تورط قوات "سبل السلام" التابعة لحفتر في عمليات تهريب للبشر بمشاركة مليشيات "العدل والمساواة"، والتي قال إن أعدادها في تزايد بالجنوب الليبي.
وأشارت غرفة سبها، في بيان لها مطلع الشهر الحالي، إلى أن تأثيرات هذه الصراعات امتدت إلى مدن أخرى في الجنوب، آخرها الهجومات المسلحة التي نفذتها هذه المليشيات على مناطق وادي الآجال والجبال السود وغيرها، وتم خلالها اختطاف مواطنين. كما أن بلدية مرادة جنوب شرق الهلال النفطي أعلنت قبل أيام عن القبض على سوداني ينتمي لـ"العدل والمساواة" خلال هجوم نفذته مجموعة مسلحة يقودها أحد كبار ضباط حفتر، العميد هلال بوعمود، على موقع عسكري في مرادة.

صراعات قبلية وحضور خارجي
يشرح الخبير الليبي المتخصص في دراسات الجنوب، إبراهيم هيبة، أن الصراع في الجنوب يحدث بتأثير صراعات القبائل الأفريقية القائمة على النهب والسلب والخطف والتجارة غير المشروعة والإرهاب والاحتراب في منطقة الساحل الممتد من شمال السودان وشمال تشاد وشمال النيجر وشمال مالي وجنوب الجزائر، مشيراً في تدوينة له عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أنها انتقلت إلى الجنوب الشرقي والجنوب الغربي الليبي بكامل مقوماتها، وأن "الصراع القائم اليوم في الجنوب هو بين تلك القبائل الإفريقية ذاتها، ولكن هذه المرة على الأراضي الليبية للسيطرة على مناجم الذهب وطرق التهريب ومناطق النفوذ وخطف الناس ودفع الإتاوات".

في المقابل، يقول مراقبون إن الجنوب متأثر بتنافس دولي متمثل في صراع فرنسي إيطالي للتمدد فيه، كما أن حفتر غير بعيد عن المشهد ويتقن لعبة العزف على وتر الخلافات القبلية ليحافظ على وجوده هناك. فالولاءات السياسية الداخلية أدت دوراً كبيراً في تعميق وتفكيك النسيج الاجتماعي للمكوّنات الاجتماعية في المنطقة، كنتيجة طبيعية لتضارب المصالح بين القيادات السياسية والعسكرية والاجتماعية المتأثرة تارة بالداخل، وتارة أخرى بمساعي دول جوار عربية وأجنبية.

لكن ملامح الوجود الخارجي في الجنوب الليبي لا تبدو واضحة بشكل كبير، غير أن السكان المحليين أكدوا أكثر من مرة وجود مستشفيات ميدانية تقيمها فرنسا إبان اندلاع المعارك لمعالجة جرحى أحد الطرفين. كما أن علاقة فرنسا بحفتر غير خافية، والمرجح أن باريس تمهد وتسهل له سبل السيطرة على الجنوب. ومن جهة أخرى، يتحدث أهالي سكان منطقة غات عن تواصل وتنسيق كبير بين اللواء علي كنه، أحد القادة السابقين لقوات معمر القذافي، مع الجزائر التي يقال إنها تدعمه في منطقة "غات" القريبة من حدودها، والتي تُعتبر عاصمة للطوارق الذين يمتلكون امتدادات قبلية كبيرة في الجزائر.

ويتساءل مراقبون عمن يشغل قواعد عسكرية استراتيجية ومهمة في الجنوب، كقاعدة لويغ وقاعدة جبل واو الناموس، القريبتين من قواعد فرنسية هامة كقاعدة ماداما على حدود النيجر. فيما تبرز جهود إيطالية كبيرة للتواجد في الجنوب أيضاً في صراع مع فرنسا على هذا الإقليم، ففي أكثر من مناسبة استضافت روما لقاءات لعمداء بلديات الجنوب وقدّمت مساعدات إنسانية ودعماً لوجستياً لتلك البلديات، كما أنها رعت مصالحات بين قبائل متناحرة.