صندوق "تحيا مصر": 3 أعوام خارج الرقابة

صندوق "تحيا مصر": 3 أعوام ونصف من العمل خارج الرقابة

05 يناير 2018
محاول جنينة مراقبة الصندوق أطاحت فرض التعايش مع السيسي(Getty)
+ الخط -


منذ 3 أعوام ونصف تقريباً، وتحديداً في 24 يونيو/حزيران 2014، أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إنشاء صندوق تبرعات لدعم ما وصفه بـ"المشروعات القومية" تحت اسم "صندوق تحيا مصر". ودعا رجال الأعمال والشركات الاستثمارية إلى التبرع للصندوق، مطلقاً حملة التبرعات بإعلان تنازله عن نصف راتبه البالغ 42 ألف جنيه شهرياً ونصف ثروته المالية، من دون أن يحدد حجمها. ثم طلبت رئاسة الجمهورية من البنك المركزي فتح حساب خاص بالصندوق لتلقي تبرعات المواطنين، التي انتهجت الدولة أساليب عديدة للحصول عليها، بدءاً من حملات الرسائل النصية وحتى إجبار الطلاب والموظفين في بعض المحافظات على التبرع للصندوق.

وطوال الفترة الماضية، لم تعلن الدولة عن طريقة إدارة الصندوق بشفافية كاملة، فهناك مجلس شرفي للأمناء يضم رئيس الوزراء وشيخ الأزهر وبابا الأقباط الأرثوذكس ومحافظ البنك المركزي ووزراء المالية والتخطيط والاستثمار والتجارة والعدل ومفتي الجمهورية السابق علي جمعة ومساعد وزير الدفاع محمد أمين نصر، فضلاً عن عدد من رجال الأعمال الأكثر تبرعاً للصندوق كمحمد الأمين مؤسس مجموعة إعلام المستقبل ونجيب ساويرس. أما المدير التنفيذي للصندوق فهو المصرفي المخضرم محمد حمدان عشماوي الذي تم اختياره بناء على خبراته الطويلة في عدد من البنوك الاستثمارية، إلا أن المؤشرات تؤكد أن الإدارة الحقيقية لهذا الصندوق لمكتب السيسي شخصياً بالمشاركة مع الجيش.

وأعلن عشماوي منذ أيام أن حصيلة الصندوق حتى الآن تقترب من 10 مليارات جنيه (نحو 564 مليون دولار)، وأن السيسي كان يأمل في أن يجمع 100 مليار على الأقل في أول 3 سنوات، مشيراً في لقاء تلفزيوني إلى أن الصندوق نجح في علاج مليون و400 ألف مريض، فضلاً عن تدشينه حملات توعية ضد مخاطر فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، ومساهمته مع الهيئة الهندسية للجيش في إنشاء مجمع "الأسمرات" السكني للمرحّلين من المناطق العشوائية المهددة.

إلا أن الأرقام التي أعلنها عشماوي تبدو غير منطقية قياساً بالأرقام الضخمة التي أعلنت الشركات الخاصة والجهات الحكومية الكبرى التبرع بها للصندوق حتى قبل إنشائه، إذ تبرعت عائلة ساويرس بثلاثة مليارات جنيه، ومجموعة محمد الأمين بمليار و200 مليون جنيه، والجيش بمليار جنيه، ومجموعة عامر للاستثمارات السياحية بنصف مليار جنيه، ورجل الأعمال محمد أبو العينين بربع مليار جنيه، ورجل الأعمال أحمد أبو هشيمة بمبلغ 100 مليون جنيه، إلى جانب حصيلة تبرعات البنوك المصرية وشركات التأمين المحلية والأجنبية.

لكن من المستحيل الآن معرفة مدى دقة هذه الأرقام أو أوجه إنفاق أموال الصندوق، سواء على المشاريع أو الرواتب، أو حصيلة استثمار أمواله الحالية، نظراً لعدم وجود أي وسيلة رقابية حقيقية على أموال الصندوق، بموجب قانون أصدره السيسي في يوليو/تموز 2015، أي بعد إنشاء الصندوق فعلياً بنحو عام، وأقره مجلس النواب من دون أي ملاحظات لدى انعقاده، واكتسب هذا القانون حصانة عملية بتأييد مجلس الدولة له بفتوى قانونية صدرت أخيراً.

وحصلت "العربي الجديد" على معلومات موثقة من الجهاز المركزي للمحاسبات، تؤكد تلقي الجهاز تعليمات صريحة من رئاسة الجمهورية، مؤيدة بفتوى أصدرها مجلس الدولة في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعدم مباشرة أي دور رقابي على أموال وأنشطة صندوق "تحيا مصر" سواء على المستوى المحاسبي أو القانوني، كاستثناء وحيد من بين كل الجهات التي تدير المال العام، والتي ينص الدستور المصري على خضوعها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.

وتكشف المستندات عن قصة صراع خفي بين أجهزة الدولة المسيطرة على الصندوق من جهة، وبين إدارة الجهاز المركزي للمحاسبات في عهد رئيسه السابق هشام جنينة، قبل أشهر قليلة من صدور قرار السيسي بالتحقيق معه ثم عزله من منصبه، بسبب رفض تلك الأجهزة خضوع الصندوق بأية صورة للرقابة، إلى حد لجوء السيسي إلى استخدام سلطته المؤقتة كمشرع في غياب البرلمان لإصدار القانون سالف الذكر رقم 84 لسنة 2015 لمنع الجهاز المركزي للمحاسبات من الرقابة على الصندوق.

بدأت القصة بعد الإعلان عن تأسيس الصندوق بنحو 5 أشهر، ففي 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 أصدر السيسي في غياب البرلمان قانوناً حمل الرقم 139 لسنة 2014 بإنشاء الصندوق رسمياً بدلاً من صندوق "دعم مصر" الذي كان قد أنشئ في أعقاب عزل الرئيس محمد مرسي، ليكتسب الصفة الاعتبارية كجهاز حكومي تابع لرئيس الوزراء، بعد نجاحه في اجتذاب مليارات الجنيهات. ونصّت المادة الثامنة من ذلك القانون، الذي أعد وأصدر على عجالة، على اعتبار أموال الصندوق "أموالاً عامة في تطبيق أحكام قانون العقوبات"، أي أن الاستيلاء عليها يُعتبر استيلاءً على مال الدولة، كما نصت المادة ذاتها على أن "يتولى الجهاز المركزي للمحاسبات مراجعة ومراقبة حسابات الصندوق وإعداد تقرير ربع سنوي يعرض على رئيس الجمهورية".

في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، أي بعد صدور القانون بأسبوعين تقريباً، بدأ هشام جنينة في ممارسة الإجراءات التي نص عليها القانون، فأسند مهام الرقابة على الصندوق إلى قطاع الخدمات الرئاسية التابع له مباشرة والذي يقوم بمراقبة أوجه الإنفاق في الجهات التابعة لرئاسة الجمهورية، وطلب من الإدارة المركزية للرقابة المالية على الجهاز الإداري للدولة والوحدات الخدمية بالجهاز، بدء مخاطبة الجهات الحكومية لمعرفة موارد الصندوق وأوجه إنفاقه، استعداداً لتقديم التقرير الربع سنوي الأول إلى السيسي.
ويبدو من المستندات أن جنينة وأعضاء الجهاز المركزي للمحاسبات تعاملوا "بجدية أكثر من اللازم"، بحسب تعبير مصدر مطلع في الجهاز، إذ أرسلوا إلى رئاسة الوزراء خطاباً في 31 ديسمبر/كانون الأول 2014 يطالبونها ببيان رسمي بكل موارد الصندوق في الداخل والخارج. لكن رئيس الوزراء ومساعديه الإداريين تجاهلوا الرد تماماً، على الرغم من أن رئيس الوزراء هو رئيس مجلس أمناء الصندوق وهو من يعيّن مديره التنفيذي.


واستمر الجهاز المركزي برئاسة جنينة يحاول طرق الأبواب لمباشرة دوره الرقابي، فبلغته المعلومات بأن هيئة الشؤون المالية للجيش والتابعة لوزير الدفاع هي التي تقوم بأعمال المحاسبة والإشراف على تلقي التمويل والإنفاق، فتوجه فريق من موظفي الجهاز إلى هيئة الجيش المالية في 18 مايو/أيار 2015 (أي بعد 6 أشهر من صدور القانون ومرور موعدين للتقرير ربع السنوي) لفحص أعمال الصندوق، لكنهم لم يمكنوا من الاطلاع على أي مستند.

وقال المصدر المحاسبي المطلع إن "وفد الجهاز الذي تحرك بأوامر من جنينة تعرض لما يشبه الطرد من مقر هيئة الشؤون المالية للقوات المسلحة، وحاول جنينة التواصل مع السيسي عبر مدير مكتبه عباس كامل، إلا أنه لم يتلق أي رد بشأن ما حدث، فقال إنه سيتقدم بتقرير رسمي للرئاسة".
ورجّح المصدر أن يكون هذا الموقف هو "القشة" التي أنهت كل فرص التعايش بين السيسي وجنينة، فبعد أيام قليلة كلف السيسي الحكومة بإعداد مشروع قانون جديد لإنشاء صندوق "تحيا مصر" وإلغاء القانون الصادر قبل أشهر معدودة، وكان الهدف الرئيسي واضحاً: أن يتم إلغاء أي دور رقابي للجهاز المركزي للمحاسبات، وتوسيع صلاحيات الصندوق للتصرف في أمواله من دون التقيد بالتشريعات الحاكمة للمال العام.

وكان يجب على الحكومة الالتفاف بنص مشروع القانون الجديد للإفلات من شراك المواد الدستورية والقانونية التي تختص الجهاز المركزي للمحاسبات بالرقابة على أموال الدولة والأشخاص الاعتبارية العامة ومراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة والموازنات المستقلة ومراجعة حساباتها الختامية، أي كل ما له صلة بالمال العام تقريباً، بل إن قانون الجهاز نفسه أورد على سبيل الحصر الجهات التي يراقبها، ومن بينها الجهات الحكومية والهيئات العامة والمؤسسات العامة وهيئات القطاع العام وأية جهة تقوم الدولة بإعانتها أو ضمان حد أدنى للربح لها أو تكون أموالها مملوكة للدولة.

وبالفعل تم إعداد قانون جديد أصدره السيسي تحت رقم 84 لسنة 2015 في 8 يوليو/تموز 2015، ولم تبرز وسائل الإعلام الموالية للنظام الفارق بينه وبين سابقه، ونصّ على تمتع صندوق "تحيا مصر" بالاستقلال المالي والإداري، وإسناد سلطة تحديد أساليب الإشراف عليه وإدارته وتصريف شؤونه إلى رئيس الجمهورية من دون التقيد بالنظم الحكومية المنصوص عليها في أي قانون آخر، وإسناد الرقابة على أعمال الصندوق المحاسبية إلى مكتب مراجعة مسجل لدى البنك المركزي تختاره إدارة الصندوق، وقصر دور الجهاز المركزي للمحاسبات على "إعداد تقرير بمؤشرات أداء الصندوق سنوياً على ضوء القوائم المالية المعتمدة من مراقب الحسابات".
وبذلك تم إبعاد الجهاز المركزي تماماً عن مباشرة الدور الرقابي على الصندوق، وأصبحت المستندات الوحيدة التي يجوز له الاطلاع عليها هي ما يصدره مكتب مراقب الحسابات من قوائم مالية بعد اعتمادها، مما يعني أن الأعمال نفسها تظل بعيدة عن رقابة الجهاز المقررة دستورياً.

ومفاد هذا الأمر، وفقاً لتعبير المصدر المحاسبي، بأن "السيسي استحدث لأموال الصندوق مجالاً جديداً بين العام والخاص، فكل الأموال العامة يراقبها الجهاز المركزي، ولا يجوز له مراقبة الأموال الخاصة، لكن أموال الصندوق تأتي في منطقة بينية، فهي بحكم المنطق أموال عامة تكلف الدولة بالتصرف فيها أو استثمارها، وبحكم القانون الذي أصدره السيسي لا تخضع لرقابة الجهاز المختص دستورياً بذلك".
وكان السيسي قد أصدر بعد هذا القانون بشهر واحد قانوناً آخر حدد فيه حالات عزل رؤساء الأجهزة والهيئات الرقابية، استغله في وقت لاحق للإطاحة بجنينة من منصبه بعد اتهامه بالإدلاء بتصريحات كاذبة عن حجم الفساد في مصر بهدف زعزعة الاستقرار في الاقتصاد الوطني، وعيّن بدلاً منه القاضي السابق هشام بدوي بعدما اشترك في اللجنة التي أعدت تقريراً يزعم مخالفة جنينة للقانون وأنه يستحق العزل.
ولم يعلن صندوق "تحيا مصر" منذ إعادة تشكيل إدارته هوية مراقب الحسابات الذي تم التعاقد معه، كما لم ينشر أي قوائم مالية، بل إن مسؤولين في البنك المركزي اعتبروا في تصريحات صحافية المعاملات المالية للصندوق "سرية"، إلى أن تم تعيين ضابط الجيش اللواء أكرم النشار مديراً مالياً للصندوق، لترتفع درجة سرية أنشطة الصندوق، في ظل انعدام الرقابة الرسمية عليها.