الجزائر... جيش الرئيس ضد الانقلابات العسكرية

الجزائر... جيش الرئيس ضد الانقلابات العسكرية

08 سبتمبر 2017
أعلن الجيش انحيازه إلى بوتفليقة (فايز نور الدين/فرانس برس)
+ الخط -

حسمت المؤسسة العسكرية في الجزائر موقفها من الوضع السياسي في البلد، وانحازت لصالح الرئاسة والدستور، وردت بلهجة حادة على قوى وأطراف سياسية ومدنية طالبت الجيش بالتدخل وإلقاء ثقله في المشهد السياسي لإنهاء حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، عبر تطبيق المادة 102 من الدستور.

وللمرة الأولى تعتمد قيادة الجيش الجزائري، في منشور رسمي، كلمة "الانقلابات العسكرية"، وتعلن أن عهد هذه الانقلابات قد ولى، وأن الجيش لن يتدخل في الشأن السياسي مهما كانت الظروف، وسيلتزم حدود مهامه الدستورية. وجاء في الافتتاحية الرسمية لمجلة "الجيش"، الناطقة باسم المؤسسة العسكرية في الجزائر، والتي أخذت شكل بيان رسمي، "لكل من يطالب، سراً أو جهاراً أو ضمنياً بالانقلابات العسكرية، نذكر بأن جيشنا سيظل جيشاً جمهورياً ملتزماً بالدفاع عن السيادة الوطنية وحرمة التراب الوطني، حافظاً للاستقلال، جيشاً لا يحيد أبداً عن القيام بمهامه الدستورية مهما كانت الظروف والأحوال".

ليس اللافت في هذا البيان إعلان الجيش أن عهد الانقلابات العسكرية قد انتهى فحسب، لكن اللافت أيضاً أن المؤسسة العسكرية ردت بلهجة حادة وانتقادية على الشخصيات والأحزاب والمثقفين الذين طالبوا الجيش بالتدخل، ووصفتهم "بالأقلام المأجورة". وأوضحت أن "إنجازات الجيش دفعت بعض الأقلام المأجورة إلى تنصيب نفسها مدافعاً عن حرية الشعب، وهي التي وصفته بالأمس القريب بكل النعوت والأوصاف". وإن لم تسمِ قيادة الجيش هذه الأطراف، فإنها قدمت توصيفاً يمكن عبره فهم من تقصد. وتحدثت عن "أقلام مأجورة خاضت في كل المواضيع والاختصاصات، من الشريعة إلى التاريخ مروراً بعلم الفلك والسياسة والاقتصاد وغيرها من المعارف والعلوم. وعندما أخفقت وفشلت وتيقنت من عجز فكرها ومحدودية تأثيرها، عرجت على مؤسسة الجيش، معتقدة أنه بتلفيق التهم وتزوير الحقائق وسرد التعاريف الأكاديمية المملة والاستعانة بالكنايات والاستعارات والسجع والطباق، سيفرش أمامها البساط الأحمر وسيصطف الشعب يهلل ويصفق وسيصنفها في خانة الأبطال والصالحين". واعتبر بيان الجيش أن "المواطن الجزائري ليس بذلك البليد أو المعوق، ولا يحتاج إلى وصي تلجمه المناصب والمسؤوليات ولما يُعزل يبيع نفسه للشيطان ويؤجر قلمه لكل آثم حقود". ويعني ذلك أن قيادة الجيش كانت تقصد رئيس حزب التجديد الجزائري السابق ووزير التجارة الأسبق، نور الدين بوكروح، والكاتب الإعلامي أحميدة العياشي، ورئيس حزب جيل جديد، سفيان جيلالي، وهي الشخصيات التي خاضت تجارب الكتابة من الشريعة إلى التاريخ مروراً بعلم الفلك والسياسة والاقتصاد، بحسب وصف بيان الجيش.


وكان بوكروح نشر، قبل أسبوعين، رسالة مطولة طالب فيها الجيش بالتحرك لإنقاذ البلاد، واتهم العسكريين السابقين بالجبن. وقال "أنتم الجبناء. أيها السادة لا تفروا من هذا البلد الذي أمدكم بأكثر مما أعطيتموه. كونوا شجعاناً واخرجوا إلى العلن وقولوا كلمتكم، وإذا لزم الحال، من أجل الجيش الذي صنعتموه، لكي لا يكون بعدها وسيلة لقمع الشعب بأمر من مستبد أو جهة، أو حتى بأمر مباشر من المافيا والعصابات غداً؟" كما اتهم قيادة الجيش بالدخول تحت جبة بوتفليقة ودعم سياساته، قائلاً "ما معنى أن نقر بالولاء للجمهورية حين نعلم أن هذه البيعة ليست للشعب السيد بل لرجل مخفي، لا ينطق ولا يتحدث ونعلم أنه مريض مقعد، منقوص القدرات الجسدية والفكرية. عندما تحولت أركان الجيش بين الفينة والأخرى، بعد سلسلة من القرارات، الساعد المسلح والمهدِد الذي يحتمي خلفه نظام محتضر يحكم البلاد، بل ضيع البلاد بأن أفرغ الدولة من محتواها ودورها، وجعل منها كياناً لا يسير شؤون البلاد ولا يضمن سلامة الشعب والتراب. والكل يرى بأم عينيه أنها دولة هائمة على وجهها في القفار". وأضاف "في هذه الظروف، لا يسعنا إلا الوصول إلى نتيجة، وهي أن الجيش الجزائري لم يعد جيشاً صامتاً فحسب، بل ولا يريد أن يسمع أيضاً، ويدير وجهه تفادياً لرؤية ما يحدث تحت عينيه".

وقبل أسبوع، نشر أحميدة العياشي رسالة وجهها إلى قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، يدعوه فيها إلى التدخل لما يعتبره "إنقاذ البلد وإعادة الأمل". وحرض العياشي الجيش على وقف من "تجرؤوا على ملامسة الخط الأحمر، وهم يبرهنون اليوم أن لا قوة تقف أمام أطماعهم وجنونهم في الحكم والانفراد به، وفي نهب ما تبقى من ثروات الوطن. لذا فكل صمت تجاههم يعني الموافقة على الإسراع بدفع البلاد نحو هاوية غير مسبوقة، وعندئذ يكون الوقت قد فات". وأضاف العياشي مخاطباً رئيس الأركان "إنني برسالتي هذه لا أدعوكم إلى معركة بالوكالة بل إلى إعادة الأمل إلى كل هؤلاء الذين لا زالوا يؤمنون بدور الجيش في إيقاف هذه الرقصة المقيتة التي يجر بها القراصنة البلاد إلى حلبة الموت". لكن قيادة الجيش لم تكتف بالرد الرافض ومهاجمة من اعتبرتهم "دعاة الانقلابات العسكرية" في الجزائر، لكنها أعلنت التزامها بالانحياز لصالح مؤسسة الرئاسة، والرئيس عبد العزيز بوتفليقة بصفته وزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة، والتمسك بالمهام الدستورية التي يخولها الدستور للجيش ليس أكثر، وهو موقف يضع كثيراً من الأطراف، التي راهنت على إمكانية تحول في موقف الجيش، في الزاوية، خصوصاً وأن موقف الجيش الرافض للانقلاب والتدخل في الشأن السياسي، ظل لفترة مطلباً رئيساً لكثير من قوى المعارضة السياسية التي عانت في العقود الماضية من هيمنة الجيش والمؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات على الشأن السياسي والاستحقاقات الانتخابية ومناحي الحياة الاقتصادية عامة.

ويطرح السؤال الراهن في الجزائر عن كيفية فهم مواقف الجيش و"توبته الحاسمة" عن الانقلابات العسكرية، بل ومهاجمته لكل طرف سياسي أو مدني دعاه للتدخل وإلقاء ثقله في المشهد؟ ويعتقد عسكريون سابقون أن تغير التركيبة الراهنة في قيادة الجيش، سواء تعلق الأمر بالصف الأول أو الثاني من القيادات، أدت إلى تغير لافت في مواقف الجيش إزاء التدخل في الشأن السياسي. ويقول العقيد السابق في الجيش، رمضان حملات، لـ"العربي الجديد"، إن "قيادة الجيش اليوم ليست قيادة الجيش بالأمس، ومحاولة توريط الجيش مرة أخرى، تحت أي غطاء، خطة بالية باهتة مكشوفة. أعتقد أن عهد الانقلاب ولى في الحقيقة، ولا اعتقد أن الجيش سيتدخل في المشهد السياسي تحت أي ظرف كان". ويؤكد حملات أن الأطراف السياسية التي تطالب الجيش بالتدخل، تحاول توريطه بالطريقة نفسها التي تم توريطه في انقلاب العام 1992. ويقول "إذا كان هناك مشكلة سياسية في الوطن فالجيش لا يتحملها، بل تتحملها الطبقة السياسية المفبركة التي كانت تقتات من ريوع الدولة العميقة". وخاطب حملات الأطراف السياسية التي تستدرج الجيش للتدخل في الشأن السياسي، قائلاً "إذا كان الجيش صامتاً فتلك طبيعة كل جيوش العالم، وإن كان لا يستمع فلأنه استمع مرة واحدة للسياسيين فأدخلوه في متاهات عرضت الوطن برمته إلى الهلاك". وأشار بوضوح إلى أطراف سياسية، داخلية وخارجية، حرضت الجيش الجزائري في ديسمبر/كانون الأول 1991 على وقف المسار الانتخابي بعد فوز الإسلاميين بالانتخابات البلدية التي كانت جرت في يونيو/حزيران 1990، وفي الدور الأول للانتخابات البرلمانية التي كانت جرت في 26 ديسمبر 1991، على أن يجري الدور الثاني في 16 يناير/كانون الثاني 1992، بحجة توجه الإسلاميين للانقلاب على النظام الجمهوري. وأدى استدراج الجيش إلى تنفيذ انقلاب، في 12 يناير 1992، على المسار الديمقراطي الذي بدأ عقب سقوط نظام الحزب الواحد بعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988، إلى دخول البلاد في دوامة العنف والإرهاب، وتفجر موجة من الجنون الدامي، أدى إلى خراب سياسي واقتصادي وشرخ اجتماعي عميق، نتيجة سقوط آلاف القتلى والجرحى وضحايا الإرهاب والمختطفين.

وبخلاف تقدير رد الجيش على دعاة "الانقلابات العسكرية"، كموقف تقدمي يحسب للقيادة العسكرية الجزائرية بخلاف جيوش دول أخرى تسارع للانقلاب على الشرعيات الدستورية، فإن هناك تقديراً آخر يذهب في اتجاه، أن الجيش لم يتخل عن دوره السياسي، وأن موقفه برفض خيار الانقلاب العسكري لا ينطلق من إيمان عميق بالفكر الديمقراطي أو تحول جدي في عقيدته، لكنه انحياز من قبل قائد الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، إلى بوتفليقة. ويفسر أحميدة العياشي هذا الموقف بكونه رد جميل من قائد الجيش لبوتفليقة. وقال "بوتفليقة استعاد عدداً من الضباط القدامى المبعدين من طرف الارستقراطية العسكرية، ومن بين هؤلاء قايد صالح، الذي لاحقته عشرات الإشاعات من قبل الاستخبارات (عندما كان يشرف عليها محمد مدين، المعروف بالجنرال توفيق، قبل إبعاده) وأصابته في سمعته الشخصية والعائلية، وكان تاريخه قد انتهى لولا إعادته إلى الحياة من طرف بوتفليقة، ففضلُه عليه كان عظيماً لا يقدر بثمن. ولم يكن قايد صالح يوالي سوى بوتفليقة، ولذا لا نعجب عندما توسل إلى بوتفليقة للترشح إلى ولاية رئاسية رابعة، قائلاً: هذا الولاء سيبقى مطلقاً لشخص الرئيس".
ويذهب نور الدين بوكروح إلى نفس المنحى، حين يعتقد أن بوتفليقة نجح في الإمساك بمقاليد الجيش، بعدما نجح على مدار عقد ونصف العقد في إبعاد أبرز القيادات المؤثرة في الماكينة العسكرية، كقائد الأركان السابق، الفريق محمد العماري، والجنرال إسماعيل العماري، والجنرال توفيق وأن "الجيش الجزائري تحول، بقيادة قايد صالح، إلى جيش الرئيس". ولا يعقد موقف الجيش الوضع في الجزائر بقدر ما يزيده وضوحاً، فكلما اتضحت التحالفات كلما كان الاصطفاف السياسي أكثر انسجاماً مع طبيعة المشهد السياسي في البلاد، لكن سقوط المراهنة على تدخل الجيش كخيار ورفض بوتفليقة التنازل عن الحكم بسبب وضعه الصحي، سيدفع المعارضة للبحث عن خيارات أخرى. ويبقى الباب مفتوحاً أمام خيار الإبداع السياسي الممكن، أو تلاحم طارئ بين الظروف والقدر.



المساهمون