معركة التماثيل والأنصاب: حرب على تاريخ أميركا

معركة التماثيل والأنصاب: حرب على تاريخ أميركا

26 اغسطس 2017
احتجاجات أميركية على المجموعات العنصرية (سبنسر بلات/Getty)
+ الخط -

عادت الولايات المتحدة بالزمن أكثر من 150 عاماً، إلى زمن الحرب الأهلية (1861 ـ 1865)، وإفرازاتها وتداعياتها وتماثيلها، في منحى مواكب للحالة العنصرية التي أرساها وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. في هذا السياق، يصوّر شريط فيديو انتشر قبل أيام على مواقع التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة شاباً أميركياً من أصول أفريقية وهو يتسلّل ليلاً إلى حرم إحدى جامعات ولاية ميريلاند ويحطم بمطرقته تمثالاً لكريستوفر كولومبوس مكتشف القارة الأميركية، بعد قراءة خطاب مؤدلج، بدا وكأنه لائحة اتهام أمام محكمة ثورية تدين كولومبوس وتعتبره المسؤول الأول عن حقبة العبودية، وعما لحق بالأفارقة الذين نقلهم المستعمرون الأوروبيون إلى "الأرض الجديدة".

وتندرج عملية تحطيم تمثال كولومبوس في سياق حملة بدأت قبل سنوات، واقتصرت حينها على تماثيل رموز قادة كونفدرالية الجنوب الانفصالية، بسبب ارتباط أسماء هؤلاء بالحرب الأهلية، ورفضهم تحرير العبيد. لكن بعد المواجهات العنصرية في مدينة تشارلوتسفيل في ولاية فرجينيا، التي انفجرت خلال تظاهرة العنصريين البيض والنازيين الجدد احتجاجاً على قرار سلطات المدينة نقل تمثال الجنرال روبرت لي، القائد العسكري الذي قاد الانفصاليين خلال الحرب الأهلية، اتسعت الحرب على التماثيل لتطاول كافة الرموز التاريخية التي تعود إلى حقبات مختلفة من كولومبوس إلى جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وغيرهم من الرموز التاريخية الأميركية.

وقد راح ضحية هذه الحملة مئات الأنصاب التذكارية في مختلف المدن الأميركية، منها ما تم نقله إلى المتاحف أو المخازن، بعد اتخاذ السلطات المختصة قراراً بإزالتها. ومنها ما أُسقط أو حُطّم على يد مجموعات يسارية راديكالية وناشطين ينتمون إلى منظمات مدافعة عن حقوق الأقلية ذات الأصول الأفريقية مثل "أنتيفا"، وهي منظمة معادية للفاشية، تشكلت بعد انتخاب الرئيس دونالد ترامب. وقد برز دور عناصر "أنتيفا" ونزعتهم نحو العنف خلال التظاهرات الأخيرة من خلال زيّهم الأسود الموحّد والأقنعة التي يغطون بها وجوههم، واعتمادهم أساليب المليشيات المسلحة.

وعلى غرار منظمة "بلاك لايفز ماتر" يطالب الجمهوريون، خصوصاً الأجنحة المحافظة في الحزب، بحظر نشاط "أنتيفا"، باعتبار أنها "مليشيا إرهابية مسلحة". وقد ذكر ترامب هذه المنظمة بالاسم خلال خطابه الناري قبل أيام في ولاية أريزونا، أثناء حديثه عن مجموعات يسارية اعتبرها "تتحمّل مسؤولية اندلاع أعمال العنف في تشارلوتسفيل"، بالإضافة إلى تحميله المسؤولية للنازيين الجدد والعنصريين البيض وأفراد مجموعة "كو كلوكس كلان" العنصرية المتطرفة.


وفي خطاباته التي تلت مواجهات تشارلوتسفيل في فرجينيا، وقبلها في تغريداته على موقع "تويتر"، كرّر ترامب معارضته حملة إزالة التماثيل والنصب التذكارية. واعتبرها حرباً ثقافية تستهدف التاريخ الأميركي. واتفق موقف الرئيس الأميركي مع موقف قاعدته الشعبية، التي تضم شرائح واسعة من اليمين الأميركي، خصوصاً جناح المحافظين والمتطرفين عنصرياً. ورأى خصوم ترامب أن "الهدف من دخوله في السجال حول مستقبل التماثيل والنصب التذكارية في أميركا، هو تعبئة أنصاره في الشارع وتأجيج المشاعر العنصرية".

في المقابل، اعتبر المدافعون عن ترامب أن "حرب التماثيل ليست ظاهرة جديدة على المشهد السياسي الأميركي، بل تعود إلى حقبة الرئيس السابق باراك أوباما". وقد تزامنت مع الحملة لإنزال أعلام كونفدرالية الانفصال، التي كانت ما زالت ترفرف في عدد من المدن الأميركية في ولايات الجنوب. وأطلقها ناشطون من العرقية الأفريقية الأميركية، بعد مجزرة كنيسة تشارلستون عام 2015، التي راح ضحيتها تسعة مصلين من سقطوا برصاص ديلان روف المتحمس لاستقلال ولايات الجنوب.


في ذلك الحين جاءت الحملة على تماثيل قادة الانفصال كردٍّ من الناشطين المناهضين للتمييز العنصري في الولايات المتحدة، على ظهور المتطرفين البيض المعترضين على وصول رئيس أسود إلى البيت الأبيض. وغالباً ما كانت تعتمد الوسائل القانونية المتاحة كتوقيع العرائض المطالبة بإزالة تمثال أو نصب تذكاري معيّن. فكانت مجالس المدن المعنية تبحث في الأمر. وفي المدن حيث الغلبة للحزب الديمقراطي كانت تصدر قرارات بإزالة التماثيل وفي المدن ذات الهوى الجمهوري كانت ترفض تلك المطالب وتبقى التماثيل قائمة.

وجاءت الحملة الواسعة على التماثيل التي اجتاحت المدن الأميركية في الأسابيع القليلة الماضية، كردة فعل من مجموعات متطرفة من الأفارقة الأميركيين، أثارها دفاع الرئيس الأميركي عن مجموعات اليمين العنصري المتطرّف، وتبنيه وجهة نظرها إزاء تماثيل الحقبة الانفصالية.

وما أثار المخاوف في ظاهرة العنف المتصاعد ضد تماثيل حقبة العبودية في الولايات المتحدة، هو كونها تعبيرا عن احتقان عنصري تاريخي جراء التمييز المجحف الذي لحق بالأفارقة الأميركيين خلال القرون الماضية. غير أن الخطير في الأمر حالياً هو أن ظهور النزعة العنصرية العنيفة لدى الأقلية الأفريقية الأميركية تزامن مع تنامي قوة اليمين العنصري الأبيض الميّال أيضاً إلى ممارسة العنف العنصري.

كما أن تداعيات الأزمة السياسية الحادة التي تتخبط فيها إدارة ترامب، من التحقيقات الروسية إلى الاشتباك مع الغالبية الجمهورية في الكونغرس، وفشل الرئيس في الإيفاء بوعوده للناخبين وإلقاءه اللوم على الكونغرس والإعلام والاستبلشمنت، كل ذلك عزّز المخاوف من أن يتحوّل الصراع على تاريخ الولايات المتحدة وحقبة انفصال الجنوب إلى حرب أهلية أميركية جديدة لرسم مستقبل أميركا وفق معادلات عنصرية جديدة.

وطالما كان تاريخ الحرب الأميركية (1861 ـ 1865) محطة فاصلة في الاتحاد الأميركي، خصوصاً أنها أدت إلى تحرير العبيد، وإنهاء كل فكرة استقلالية لولاية أو مجموعة ولايات. وبعد أن ظنّ كثر أن صفحات التاريخ طوت الجدل الذي ظل يجتاح المجتمع الأميركي أثناء "حقبة الرقيق" عندما كان القانون الأميركي يعطي امتيازات وحقوقا للأميركيين البيض من دون أولئك من ذوي الأصول الأفريقية، عادت الصدامات العنيفة التي شهدتها مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا لتسبر أغوار الماضي العميق ويطفو ذلك الجدل على السطح مجدداً.

فعاد الحديث عن جماعات عنيفة مسلحة ذات ماض لطخته الدماء والعنف كما هو حال حركة "كو كلوكس كلان" و"النازيين الجدد" و"ذوي الرؤوس الحليقة" وغيرهم. وفي ظهيرة يوم مشمس من يوم السبت 12 أغسطس/ آب الحالي، اندفع الأميركي الأبيض المتطرف جيمس أليكس فيلدز، بسيارته "دودج تشالنجر" فضية اللون باتجاه متظاهرين ضد العنصرية، متسبباً في مقتل هيذر هاير (32 عاماً)، وجرح 19 آخرين.
الحادث نفسه، جاء على خلفية احتشاد أعداد كبيرة من المؤيدين للجماعات العنصرية البيضاء واليمينية المتطرفة، بينها "كو كلاكس كلان" و"النازيون الجدد"، في تشارلوتسفيل، قابلها خروج مظاهرة لأعداد أخرى من مناهضي العنصرية في المدينة، قبل تعرض الأخيرة للهجوم. وجاء احتشاد مؤيدي الجماعات العنصرية البيضاء؛ احتجاجاً على قرار المدينة إزالة تمثال الجنرال روبرت لي، أحد رموز الحرب الأهلية الأميركية، والمتهم بالعنصرية وتأييد العبودية.

الجنرال روبرت أي. لي، وُلد في 19 يناير/كانون الثاني 1807 في مقاطعة ويستمورلاند بولاية فيرجينيا، وهو واحد من تسعة أبناء للحاكم التاسع لولاية فيرجينيا الضابط بسلاح الفرسان هنري لي الثالث، وأحد الموفدين الأوائل لتمثيل المقاطعة، التي أصبحت لاحقاً ولاية فيرجينيا، في الكونغرس التأسيسي للبلاد. وكان أيضاً أحد المقاتلين البارزين في فرقة الخيّالة المشاركة في الثورة الأميركية (1775 - 1783) ضد التاج البريطاني، والذي نتج عنه لاحقاً تأسيس الولايات المتحدة الأميركية.

سمعة والد الجنرال وبسالته في معركة تحرير البلاد، هي ما أكسبته لاحقاً لقب "لايت هورس هاري" لجرأته وحنكته وشجاعته في التصدي للجيش البريطاني. أما روبرت لي، فانضم إلى أكاديمية "ويست بوينت" العسكرية عام 1829 وتخرج منها كثاني أفضل المتفوقين على دفعته من دون وجود شائبة واحدة في سجله، خلال السنوات الأربع التي قضاها هناك، بحسب قناة "هيستوري" التأريخية الأميركية، قبل تعيينه في فيلق المهندسين.

وبحسب القناة التأريخية نفسها، فقد برز نجم لي في الحرب الأميركية ـ المكسيكية (1846 - 1848) والتي نشبت بين الجارين عقب ضم الولايات المتحدة لتكساس إليها عام 1845 بعد انفصالها عن المكسيك والذي جاء ثمرة ما يعرف بثورة تكساس عام 1836.



أصيب لي الذي كان برتبة نقيب خلال هذه الحرب، بجروح بسيطة، نال على إثرها ترقية تشريفيةً لرتبة عقيد (دون الامتيازات المرافقة للرتبة أو زيادة في الراتب)، ووصفه القائد العسكري لهذه الحرب وأحد أهم الجنرالات العسكريين في التاريخ الأميركي وأطولهم خدمة في هذه الرتبة (52 عاما) الجنرال وينفيلد سكوت بأنه "أفضل جندي وقعت عليه عيناي في الميدان".

في عام 1852، تم تعيين الجنرال لي رئيسا لأكاديمية "ويست بوينت" العسكرية التي تخرج فيها قبل 23 عاماً من ذلك التاريخ، إلا أنه وبعد ثلاث سنوات فقط، استطاع الحصول على موافقة وزير الحرب الأميركي وقتها، جيفرسون ديفيس ليعود إلى الجيش برتبة مقدم في فرقة الخيالة الثانية في غرب تكساس.

وفي عام 1861 اندلعت الحرب الأهلية بين حلف الشمال الذي ضم عضو الحزب الجمهوري وقتها والرئيس الجديد للبلاد أبراهام لينكولن تدعمه في ذلك 23 ولاية، ويقود جيشه الجنرال يوليسيس أس غرانت، الذي أصبح لاحقاً الرئيس الـ 18 للولايات المتحدة، في مقابل 7 ولايات جنوبية معززة بانضمام 4 أخرى مشكّلة الاتحاد الكونفدرالي الأميركي برئاسة وزير الحرب الأسبق جيفرسون ديفيس، ويقود جيشها الجنرال ديفيد إيمانويل تويغز، والذي كان عمل الجنرال روبرت اي لي تحت قيادته كقائد جيش شمال فرجينيا.

كانت خطة الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه الرئيس الأميركي السادس عشر أبراهام لينكولن هي محاولة فرض قوانين إلغاء العبودية على جميع الولايات الأميركية، حال فوز مرشحهم الرئاسي عام 1861، إلا أن 7 ولايات أميركية كانت تنوي إعلان انفصالها عن الاتحاد الأميركي في حال فوز المرشح الجمهوري، بسبب هذه الخطة.

كانت الولايات الجنوبية تعتقد أن محاولة الرئيس فرض منع العبودية عليها، انما هو تدخل من الحكومة الفيدرالية في صلاحيات الولاية، والتي من ضمن صلاحية حاكمها هو السماح بممارسة تجارة العبيد. ولم تكن تريد الولايات الجنوبية هذا فحسب بل أرادت ان تدعي أحقيتها في توسيع هذه الممارسة إلى ولايات آخرى.

في شتاء عام 1865 قام رئيس الاتحاد الكونفيدرالي جيفرسون ديفيس، بتعيين الجنرال لي قائدا عاماً لجيوش الكونفيدراليين الجنوبيين، إلا أن الوقت كان متأخراً وسرعان ما أعلن لي استسلامه أمام تقدم قوات الشمال في 9 أبريل/ نيسان 1865 منهياً بذلك الحرب الأهلية ومفسحاً الطريق للرئيس لينكولن لفرض قانون إلغاء العبودية. أصبح لي فيما بعد رئيساً لكلية واشنطن في مدينة ليكسنغتون بولاية فيرجينيا وحتى مماته بالسكتة القلبية عام 1870، والتي أصبحت بعد ذلك جامعة لي وواشنطن.

ورغم أن اليمين بشكل عام ينظر إلى الجنرال لي بأنه البطل الذي دافع عن الجنوب حتى اللحظات الأخيرة قبل إعلان الاستسلام في ربيع عام 1865، إلا أن العديد من المؤرخين يرونه "خائناً" للعهد الذي قطعه على نفسه يوم أصبح عسكرياً بالحفاظ على تلاحم "الاتحاد" بين الولايات الشمالية والجنوبية.