الشرخ يتعمّق في أميركا... ومخاوف على المؤسسات والأمن القومي

الشرخ يتعمّق في أميركا... ومخاوف على المؤسسات والأمن القومي

18 اغسطس 2017
تظاهرات ضد اليمين المتطرف في شارلوتسفيل (شيب سمودفيلا/Getty)
+ الخط -


كشف الاشتباك الدموي الذي وقع في مدينة شارلوتسفيل الأميركية، عن احتقانات متراكمة في الداخل الأميركي، تبدو مرشحة للمزيد من الانفجار إذا تعذّر ضبطها، وتعود بداياتها إلى ما قبل حكم الرئيس دونالد ترامب، لكن الأخير شحنها بكثير من الزخم من خلال خطابه الانتخابي، ثم أثناء رئاسته، ليشكّل موقفه من الحدث ذروة الضخ، حسب الإدانات التي توالت من كل اتجاه.

وأظهرت صدامات شارلوتسفيل التابعة لولاية فيرجينيا، وما أفرزته من اصطفافات، مدى اتساع وعمق الشرخ بين أقلية أميركية تصر على استرجاع الماضي العنصري المدفون، وأكثرية مصممة على تعميق دفنه. الأولى، وهي خليط من النازيين الجدد ومن جماعات أقصى اليمين الإيديولوجي المؤمن بتفوق الرجل الأبيض، شرسة وتستقوي برئاسة تداريها وتساويها بالآخرين. والثانية، وهي مزيج من الليبراليين ويسار الديمقراطيين والملونين والأقليات، تتحرك للتصدي على خطين: اجتثاث آثار ذلك التاريخ من خلال اقتلاع النصب التذكارية لرموزه من ساحات مدن أميركية، وفي الوقت نفسه شنّ حملة ضد ترامب بدعوى أنه منحاز إلى صف العنصريين. وثمة من هذا الفريق من بدأ يدعو صراحة إلى ضرورة اقتلاع ترامب من الرئاسة "لعدم صلاحيته" لهذا المنصب، بعد أن رفض التنديد بالعنصريين البيض وما تسببوا به من سقوط ضحايا في شارلوتسفيل. انشطار يشبه إلى حد ما المناخات التي شهدتها الولايات المتحدة عشية حربها الأهلية في العام 1860. الفارق أن العبودية آنذاك كانت نقطة الخلاف والتفجير، أما اليوم فإن "الآخر" هو المشكلة، حسب الفريق الانعزالي الذي يرفض كل مختلف عنه في اللون أو العرق أو المعتقد.

وفي جديد هذه المواجهة بين الطرفين، شارك آلاف الأشخاص في تظاهرة بمدينة شارلوتسفيل، الأربعاء، احتجاجاً على أحداث العنف التي شهدتها المدينة يوم السبت الماضي. وحمل المتظاهرون المناهضون للعنصرية شموعاً بأيديهم، تعبيراً عن رفضهم للممارسات التي قام بها أعضاء الجماعات العنصرية البيضاء واليمينية المتطرفة. كما ردّد المتظاهرون هتافات مناهضة للعنف والعنصرية والتمييز، وأخرى تدعو للتصالح والتسامح بين الجميع.
في المقابل، كان النصب التذكاري للرئيس الأميركي السادس عشر، أبراهام لنكولن، في العاصمة واشنطن، يتعرض، الأربعاء، إلى اعتداء، إذ كُتبت عليه عبارات متطرفة، واتُهمت جماعات عنصرية متطرفة بالمسؤولية عن ذلك.

"تعاطف" ترامب مع العنصريين لاقى ردوداً منددة من اتجاهات مختلفة، شملت الكونغرس ومنه عدد غير قليل من الجمهوريين، ولو أن بعضهم ما زال يتهرب من الإدانة. كما شملت مروحة واسعة من كافة الشرائح والقطاعات. عدد من رؤساء الشركات الكبرى، المفترض أن يكونوا من أقرب الناس إلى ترامب، انسحبوا احتجاجاً من المجلس الاستشاري الذي شكّله للتداول بشؤون الاقتصاد، وهو ما حمل الرئيس على حل المجلس قبل أن ينسحب الباقون منه. فخلال الأيام القليلة الماضية، قدّم 8 من أعضاء المجلس المذكور استقالاتهم، احتجاجاً على موقف ترامب من أعمال العنف والعنصرية.

كذلك فإن القيادات العسكرية في هيئة الأركان، أصدرت بياناً على غير عادة، استنكرت فيه الانحياز، ودعت إلى الوحدة. وتردد أن الضيق شمل بعض المسؤولين في البيت الأبيض، ومن بينهم كبير موظفي البيت الأبيض الجنرال جون كيلي، "المستاء والمحبط" من ممارسات الرئيس. ناهيك بفيض التنديد الذي نقلته وسائل الإعلام والذي وصلت موجته إلى رئيس بلدية مدينة فينيكس في ولاية أريزونا، الذي طلب من ترامب صرف النظر عن تنظيم فعالية في المدينة لإلقاء كلمة فيها.


على الرغم من كل ذلك، عاد ترامب لتأكيد تمسكه بموقفه المنحاز، الأمر الذي زاد من التذمر والسخط حتى في صفوف فريقه، لكن من دون استقالات حتى الآن مع أنها غير مستبعدة. وكان قد شاع في الأيام الأخيرة أن إقالة المستشار الاستراتيجي للبيت الأبيض ستيفن بانون باتت قريبة، بحجة أنه تسبّب بسقطات مكلفة للرئيس.
وفي موقف لافت، لم يدافع بانون في مقابلة مع موقع "أميريكان بروسبكت"، عن ترامب تجاه موجة الانتقادات التي طاولته بسبب موقفه من أعمال العنف في شارلوتسفيل، بل تحدث بانون بازدراء عن الحركة المناصرة لنظرية تفوق العرق الأبيض التي ساهم في تعزيزها حين كان في موقع "برايتبارت". وقال بانون في المقابلة: "القومية الإثنية، إنهم فاشلون. هامشيون. أعتقد أن وسائل الإعلام تعطيهم أهمية أكثر مما يستحقون، وعلينا أن نساهم في سحقهم، سحقهم أكثر". وشدد على أن "هؤلاء الأشخاص هم مجرد مجموعة من المهرجين".
وتعاني إدارة ترامب من موجة من الإقالات والاستقالات، كانت آخرها إقالة مدير الاتصالات في البيت الأبيض أنطوني سكاراموتشي، بعد 10 أيام من تعيينه في منصبه، فيما أعلن البيت الأبيض، الأربعاء، تعيين هوب هيكس مؤقتاً مديرة لاتصالاته.

هذه التطورات تدفع مراقبين للقول إن المشكلة ليست في بانون وغيره من موظفي الإدارة، بل في رئاسة تفرّخ أزمات. وثمة مخاوف حقيقية من تداعيات ذلك وآثاره المؤذية على عمل المؤسسات، كما على "الأمن القومي الأميركي"، وفق تحذير مدير الاستخبارات المركزية السابق جون برينان وغيره من المسؤولين السابقين مثل وزير الدفاع ليون بانيتا.

وفي ظل هذا التوتر تبدو واشنطن وكأنها على موعد مع تطورات هامة بعد النهاية القريبة لإجازة الصيف. فهناك شعور متزايد بضرورة التحرك السريع لتقليل الخسائر واستدراك ما هو أخطر. ذلك أن رئاسة ترامب "تتقلّص قدرتها على الحكم ساعة بعد ساعة"، بحسب تعبير أحد المراقبين. ففي الداخل العلاقة شبه مجمّدة بين البيت الأبيض والكونغرس. وفي الخارج زاد الرئيس من تعقيد الأزمات، ومنها الأزمة مع كوريا الشمالية، إضافة إلى كابوس التحقيقات الروسية واحتمالاتها والتي تبقى حاضرة في حسابات كافة الأطراف، وبالذات حسابات البيت الأبيض ومواقف ترامب.

المساهمون