الظل الثقيل لمذبحة رابعة والنهضة: الدماء تسد الأفق السياسي

الظل الثقيل لمذبحة رابعة والنهضة: الدماء تسد الأفق السياسي

القاهرة

العربي الجديد

العربي الجديد
14 اغسطس 2017
+ الخط -
بعد مرور أربع سنوات على مذبحة فض اعتصامي رابعة والنهضة التي ارتكبتها قوات الجيش والشرطة في 14 أغسطس/آب 2013، تعيش مصر حالة انسداد واضحة في الأفق السياسي تبلغ حد غموض رؤية النظام للاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية المقرر دستورياً إجراؤها في النصف الأول من العام المقبل 2018، والانتخابات المحلية المؤجلة منذ عامين. فيما يروّج موالون للنظام في البرلمان ووسائل الإعلام، لإجراء تعديل دستوري أولاً لمد الفترة الرئاسية للرئيس عبد الفتاح السيسي أو تغيير قواعد انتخابات الرئاسة ليتمكّن من البقاء في السلطة لفترة أطول، ومن دون حد أقصى، وذلك بشكل مخالف لما نصّت عليه كل الوثائق الدستورية التي صدرت بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.

الدماء التي سالت تحت آليات الجيش والشرطة في ميداني رابعة والنهضة، لها دور كبير في إغلاق الأفق السياسي في مصر، على أكثر من مستوى، ولا سيما أن النظام، ومنذ دعوة السيسي الشعب لتفويضه ضد "الإرهاب المحتمل" في 26 يوليو/تموز 2013، فإنه اختار طريق اللاعودة ورفض الحلول الوسط مع التيار الإسلامي بصفة عامة و"الإخوان المسلمين" بصفة خاصة. فكانت البداية الصادمة بإراقة الدماء في فض الاعتصامين، ثم قدّمت السلطات الأمنية المصابين والناجين من المجزرة إلى محاكمات تفتقر لأبسط مقوّمات العدالة ما زالت جارية حتى الآن، قبل أن تعلن "الإخوان" جماعة إرهابية. ثم وضعت السلطة التنفيذية، بمساعدة السلطة القضائية، يديها على أموال وعقارات الجماعة والقادرين من أعضائها وأنصارها.

ويعكس هذا التسلسل في خطوات النظام الحاكم، رغبته في تدمير جماعة "الإخوان" وتيار الإسلام السياسي بصفة عامة، فبدأ التنكيل بالحد الأقصى من الإجراءات التصعيدية، ألا وهو إراقة الدماء، وإجبار الأطراف المحايدة على الصمت وإغلاق المنافذ السياسية والإعلامية أمام رافضي المذبحة، كانت مقدمة طبيعية لكل ما تلا ذلك من خطوات، بما في ذلك قطع كل إمكانية للتواصل مع الجماعة، لاستحالة التفاوض على تكريس أي وضع سياسي جديد فيما عقدة الدماء ما زالت قائمة.
وبحسب تصريحات قيادات جماعة "الإخوان"، وأقوال أفراد الجماعة في التحقيقات القضائية التي تُجرى معهم بتهمة التظاهر والتجمهر، أو بسبب اتهامات بانتهاج العنف، فإن احتمالات المصالحة مع النظام الحالي باتت مستحيلة عملياً لانعدام إمكانية فك عقدة الدماء، واستحالة تنازل النظام بإخضاع المسؤولين الحقيقيين عنها للمساءلة القانونية، بل إن العكس تماماً هو ما حدث بمبادرة النظام لتقديم الناجين والمصابين للمحاكمات.

ولا تقتصر هذه الصورة على "الإخوان"، بل تشمل الجماعات الإسلامية الأخرى، عدا حزب "النور" السلفي، التي شارك أفرادها بصورة منظمة أو فردية في اعتصامي رابعة والنهضة، فأريقت دماء العشرات منهم، ومورست أصناف من التنكيل ضد أتباعهم في الأقاليم، حتى المحافظات والمناطق التي لم يكن ينشط فيها "الإخوان".
وأدت هذه الممارسات المتفاقمة إلى تعدد أطراف الخصومة مع النظام من داخل التيار الإسلامي، لا سيما أن حزب "النور" السلفي، وهو الحزب الإسلامي الوحيد الذي أيّد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، داهمته الخلافات بين قياداته حول الموقف من فض الاعتصام، أخذاً في الاعتبار أن العشرات من شباب الحزب كانوا قد شاركوا في الاعتصام بصورة فردية، فتفجر الحزب عملياً من داخله. انعكس ذلك على أداء "النور" السياسي، فأبعدته السلطة تدريجياً عنها ولم تأخذ بمقترحاته لقانون الانتخابات وتقسيم الدوائر، حتى لقي هزيمة في انتخابات مجلس النواب 2015، وحصد 11 مقعداً فقط بعدما كان الحزب صاحب المركز الثاني في انتخابات مجلسي الشعب والشورى 2011 و2012.

ووفقاً لمصادر سياسية مقربة من التيار الإسلامي، فإن "كل المفاوضات السرية بين أجنحة في السلطة وشخصيات نافذة في جماعة الإخوان، بين صيف 2013 وخريف 2014 لحث الجماعة على وقف التظاهرات الشعبية والسيطرة على أتباعها ومنعهم من انتهاج العنف مقابل تدشين وضع سياسي جديد للجماعة والإفراج عن قياداتها، كانت تتوقف عند تمسك الإخوان بمساءلة مرتكبي مذبحتي رابعة والنهضة، وتعويض أسر الشهداء والمصابين واعتراف الدولة بالخطأ الجسيم". وردت السلطات على هذا التمسك بمزيد من إجراءات التضييق والمحاصرة الاقتصادية واعتقال جميع القيادات التي كانت تقوم بأدوار الاتصال والوساطة وتحظى بمساحة للتحرك، كالوزير السابق محمد علي بشر والمتحدث الرئاسي الأسبق ياسر علي ورجل الأعمال حسن مالك، وكالت لهم تهماً متعددة. ولم يؤد هذا الأمر إلا لمزيد من العنف تجلى في اتهام عضو مكتب الإرشاد محمد كمال، بتشكيل فرق العمليات النوعية، ثم انفصال عشرات من شباب الجماعة، ودعوة بعض من هؤلاء العشرات للتخلي عن النهج السلمي سواء خارج أو داخل السجون.

أما على صعيد السلطة، فتُمثّل دماء المذبحة عقدة أخرى، هي الخوف من أي محاسبة مستقبلية أو إجراءات قضائية دولية من شأنها تعريض شخصيات نافذة للخطر، كالسيسي نفسه أو وزير الداخلية آنذاك محمد إبراهيم أو رئيس الوزراء آنذاك حازم الببلاوي أو رئيس الجمهورية المؤقت السابق عدلي منصور، وكذلك رؤساء وقادة الفرق الشرطية والعسكرية التي شاركت في عملية الفض. وليس أدل من ذلك على عملية الاختفاء التام لوزير الداخلية الأسبق بعد استغناء السيسي عن خدماته، فسافر فترة طويلة إلى الإمارات، في خطوة فسرها المراقبون على أنها إمعان في حمايته. وبعد عودته ابتعد تماماً عن المشهد السياسي، شأنه شأن الببلاوي الذي ترك عمله في مصر وأصبح يقضي فترات طويلة في الولايات المتحدة.


ورأت مصادر حكومية في وزارة العدل أن رغبة السيسي في الاحتفاظ بمنصبه لأطول فترة ممكنة بدراسة إجراء التعديل الدستوري المطروح حالياً، تهدف من ضمن أسباب عدة، للإفلات من أي ملاحقة قضائية محلية أو دولية بسبب فض اعتصام رابعة، فهو كان المسؤول الأمني الأول في البلاد وقت الأحداث، ولن يكون بمعزل عن المحاسبة إذا تغيّر النظام السياسي بثورة أو بطريقة سلمية. وحتى إذا لم تنته المساءلة بإدانته، فهو لا يرغب في وضع نفسه بموقف الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي نال من محكمة النقض براءة باتة من تهمة قتل متظاهري ثورة 2011 بعد إجراءات استغرقت 5 سنوات.

وأوضحت المصادر الحكومية أن "مذبحة رابعة والنهضة تحوّلت إلى عقدة تاريخية ستعيق أي جهود مستقبلية لإنجاز عدالة انتقالية حقيقية في مصر"، مشيرة إلى أن استناد السلطات إلى تقرير تقصّي الحقائق الرسمي (الذي أشرف عليه وزير الشؤون النيابية الحالي عمر مروان) يعكس عدم رغبة السلطات نهائياً في الإقدام على الاعتراف، الذي هو أول طريق المصارحة والمكاشفة وصولاً للمساءلة أو المسامحة والمصالحة، مما يعني قطع الطريق نهائياً أمام تحقيق عدالة انتقالية، على الرغم من الإلزام الدستوري بذلك.

وكشفت المصادر أن السيسي رفض عام 2014 مناقشة مشروع قانون للعدالة الانتقالية، كان قد أشرف عليه وزير العدالة الانتقالية الأسبق محمد أمين المهدي، بسبب تضمّنه مواد تقتضي إعادة النظر في أسباب ووقائع ما جرى في مذبحتي رابعة والنهضة، جنباً إلى جنب مع مذابح وأحداث دامية أخرى شهدتها مصر منذ مليونيات ميدان التحرير مطلع عام 2011، مروراً بأحداث ماسبيرو ومحمد محمود الأولى والثانية والاتحادية والحرس الجمهوري.

ولا يقتصر ظل المذبحة على تحديد حركة التيار الإسلامي وشل تفكير السلطة الحاكمة، بل له أثره الكبير أيضاً على الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية والثورية والحقوقية. فمن جهة أولى تمثّل الدماء عقدة أمام توحّد جهود تلك القوى، بعد انتقالها من صفوف تأييد الانقلاب على "الإخوان" إلى معارضة حكم السيسي، مع جهود "الإخوان" والتيار الإسلامي المعارض للنظام، فالاتهامات توجّه بين الحين والآخر لتلك القوى بالتقاعس عن منع المذبحة رغم تمثيلها في سدة الحكم بعدة وزراء من حكومة الببلاوي.

فالحكومة التي صدر عنها قرار الفض بالقوة كان فيها شخصيات يسارية وناصرية عدة، صمتت لفترة ليست بالقليلة على الدماء المراقة، على الرغم من اعتراضها رسمياً، كنائب رئيس الوزراء آنذاك زياد بهاء الدين، ووزراء الخارجية والمالية والقوى العاملة نبيل فهمي، وأحمد جلال، وأحمد البرعي. ثم شارك بعضها في تشديد التنكيل بـ"الإخوان" في ما بعد، كالببلاوي ونائبه الثاني حسام عيسى، اللذين أعلنا الإخوان "جماعة إرهابية"، بعد أقل من 4 أشهر على المذبحة. وعلى الرغم من أن موقف نائب رئيس الجمهورية آنذاك محمد البرادعي يُعتبر أفضل حالاً لإعلانه استقالته احتجاجاً على فض الاعتصام عقب المذبحة مباشرة، فإن المواقف السياسية للبرادعي قبل الانقلاب وتمسكه بالاستعانة بالجيش ورفضه التقارب مع مرسي، ما زالت تقف حجر عثرة أمام قبول التيار الإسلامي به مرة أخرى.

وفي مكان غير بعيد من البرادعي، تقف شخصيات وقوى أخرى كانت ضد الاعتصام نفسه تمسكاً بإبعاد "الإخوان" عن السلطة وفي الوقت نفسه رفضت الفض بإراقة الدماء، كحزب "مصر القوية" ورئيسه عبدالمنعم أبو الفتوح، و"التيار الشعبي الناصري" ورئيسه حمدين صباحي، والحقوقي خالد علي، وعدد ليس بقليل من النشطاء الثوريين كعلاء عبدالفتاح الذي كان يحرض على فض الاعتصام وروجت أذرع النظام لمطالباته على نطاق واسع كدليل على أن قرار الفض يحظى بدعم شبابي يساري. وتمثّل المذبحة بالنسبة لهؤلاء عقدة حقيقية، فتصريحات بعضهم تعكس شعوراً بالذنب من مساندة الانقلاب قبل الفض، على الرغم من تمسكهم بمعارضة سياسات "الإخوان". لكن ذوي الدم يحمّلونهم جزءاً من المسؤولية، كأشخاص فاعلين في المسرح السياسي آنذاك اختاروا الصمت على التحريض الممنهج قبل الفض، مما يُعتبر عائقاً أمام توحيد جهودهم مع "الإخوان"، ويحرمهم من التمتع بإجماع القوى المعارضة، ويفقدهم رصيداً كبيراً من الشعبية المطلوبة لمقارعة السيسي في انتخابات رئاسية مقبلة أو تحدي النظام ميدانياً وإعلامياً.



ذات صلة

الصورة
مئات يترقبون انتشال المساعدات على شاطئ بحر غزة (محمد الحجار)

مجتمع

يواصل الفلسطينيون في قطاع غزة ملاحقة المساعدات القليلة التي تصل إلى القطاع، وبعد أن كانوا يلاحقون الشاحنات، أصبحوا أيضاً يترقبون ما يصل عبر الإنزال الجوي.
الصورة

سياسة

نقلت وكالة "رويترز"، اليوم الجمعة، عن أربعة مصادر أن مصر بدأت تمهيد منطقة على الحدود مع قطاع غزة يمكن استخدامها لإيواء لاجئين فلسطينيين.
الصورة

منوعات

تداول مصريون عبر منصات التواصل مقطعاً من خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، الخميس، وصف فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن طريق الخطأ بأنه الرئيس المكسيكي.
الصورة

منوعات

شهدت كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اليوم الأربعاء، موجة من السخط والدهشة، بعدما قارن حالة المصريين في ظل التردي الاقتصادي بحالة أهالي قطاع غزة.