جزر النيل مهدّدة: خطط مصرية لتسليمها إلى مستثمرين خليجيين

جزر النيل مهدّدة: خطط مصرية لتسليمها إلى مستثمرين خليجيين

13 يونيو 2017
"الورّاق" إحدى الجزر الخمس المهددة مع سكانها (العربي الجديد)
+ الخط -
يبدو نظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي راغباً في تحقيق مزيد من المكاسب المالية بإرضاء المستثمرين الخليجيين والأجانب على حساب المواطنين المصريين، فالتوجيهات المقتضبة التي وجّهها السيسي لرئيس الهيئة الهندسية للجيش، اللواء كامل الوزير، بتطوير الجزر النيلية في القاهرة والجيزة، تخفي في ثناياها مشروعاً حكومياً لإخلاء بعض الجزر ذات المواقع المميزة من سكانها ومنح الأراضي لمستثمرين مصريين وعرب بعد توحيد ولاية التصرف في هذه الأراضي لصالح وزارة الإسكان أو الجيش، حسب الأحوال، وذلك وفقاً لما يكشفه مصدر حكومي واسع الاطلاع على هذا الملف.

فبالتزامن مع سعي السيسي لسرعة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر للسعودية، بدأ التمهيد الحكومي لخطوات استثمار جزر النيل الواقعة بين محافظتي القاهرة والجيزة، وصولاً إلى القناطر الخيرية في القليوبية شمال القاهرة، حيث ينقسم النيل إلى فرعي دمياط شرقاً ورشيد غرباً. ويصل عدد الجزر الصالحة للاستغلال السكني والسياحي بين القاهرة والجيزة نحو 81 جزيرة أبرزها على الإطلاق 5 جزر هي: الدهب، والقرصاية، والوراق، ومحمد، وبين البحرين.

النشاط الأساسي للسكان في هذه الجزر هو الزراعة وتربية المواشي والدواجن وصيد الأسماك، وتعاملت الدولة مع هذه الأراضي كأراضي الأوقاف طوال العقود الأربعة الماضية، إذ تم توصيل المرافق بمختلف أنواعها للسكان مع منحهم عقود استئجار مؤقتة تجدد دورياً، وذلك من دون تمليك الأرض لأي من السكان وكذلك لأي من رجال الأعمال الذين اتخذوا من بعض هذه الجزر مقارّ صيفية لهم للاستمتاع بجمال طقسها ومناظرها الطبيعية.

وشهد النصف الثاني من عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، محاولات حكومية حثيثة للتنصل من التزاماتها المرفقية التي بدأت بين عامي 1979 و1983 إزاء قاطني هذه الجزر لإجبارهم على تركها، في ظل رغبة بعض المستثمرين المصريين والعرب للاستيلاء عليها وإنشاء مشاريع سياحية. وبلغت هذه المحاولات ذروتها عام 2007 حين تداول مجلس الوزراء برئاسة أحمد نظيف مشروعين واضحين أحدهما لإخلاء 25 في المائة من أراضي جزيرة الدهب وتحويلها لمنتجع سياحي، والثاني بإخلاء أرض جزيرة القرصاية بالكامل وتخصيصها لمشروع سياحي اقترحه أمير سعودي.

ويكشف ملف قضية جزيرة القرصاية، التي كانت مسرحاً لأوضح المحاولات الحكومية للاستحواذ وطرد الأهالي، عن أنه خلال عام 1997 طلب محافظ الجيزة من الهيئة العامة لمشاريع التعمير والتنمية الزراعية الموافقة على الترخيص بإنشاء مشروع سياحي استثماري، تفادياً لإقامة المجتمعات العشوائية في المناطق المتميزة والفريدة في الجزيرة، وتم عرض هذه المذكرة على وزير الزراعة ورئيس الوزراء، اللذين كلفا محافظ الجيزة آنذاك بدراسة كيفية تدبير مساكن بديلة لقاطني هذه الجزيرة، والقيام ببحث اجتماعي لسكان الجزيرة بغرض النظر في إمكانية تعويض السكان عن النشاط الاقتصادي مصدر رزقهم مع مراعاة البُعد الاجتماعي والاقتصادي والأمن الاجتماعي.

ويوضح ملف القضية أن الحكومة امتنعت عن بيع هذه الجزر للمستثمرين بسبب خشيتها من رد فعل عنيف من الأهالي، ولذلك حاولت أكثر من مرة استرضاءهم أو إرهاقهم مالياً بالرسوم والغرامات، إلا أنهم تمسكوا بها، حتى أدخلت حكومة نظيف الجيش كلاعب أساسي في القضية؛ ففي 21 مايو/أيار 2007 صدرت توجيهات لوزير الدفاع، المشير محمد حسين طنطاوي، بإخطار جميع المتعاملين بعدم تجديد تأجير الأراضي الزراعية في الجزيرة بعد أكتوبر/تشرين الأول 2007 وطلب إخلاء الأرض، وإعداد دراسة البدائل المختلفة للتعامل مع أوضاع اليد والمنشآت التي تمت إقامتها بالفعل، واقتراح أسلوب تحصيل حق الدولة عن هذه الأراضي التي تم تغيير استخدامها، وتوحيد جهة الولاية على أراضي الجزيرة بالتنسيق مع محافظة الجيزة.
إلا أن أهالي الجزيرة لجأوا لمجلس الدولة فأصدر حكمين متتاليين من القضاء الإداري والمحكمة الإدارية العليا بإلغاء قرارات طردهم من الجزيرة، بل أشار الحكم النهائي البات للمحكمة الأخيرة صراحة إلى أن السبب الرئيسي لهذه القرارات كان الاستجابة لطلب الأمير السعودي لإقامة مركز سياحي متكامل على مساحة 100 ألف متر.


بالتوازي مع تعثّر المحاولات الحكومية لاستغلال الجزر سياحياً، كانت وزارة الدفاع تحاول هي الأخرى تحقيق أكبر استفادة من هذه الجزر، ففي عامي 2009 و2010 تم إرسال قوات رمزية من الشرطة العسكرية لشغل بعض الجزر النيلية باعتبارها "مناطق عسكرية ذات أهمية استراتيجية" بحجة تطبيق قرار رئيس الجمهورية 152 لسنة 2001، بشأن تحديد المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية العسكرية، وذلك على الرغم من أن هذا القرار كان مقتصراً على الأراضي الصحراوية فقط، بحسب ما نصت مادته الأولى.
وبالفعل استغل الجيش بعض الجزر الصغيرة القريبة من ساحل المعادي غرب القاهرة خلال الشهور الأولى لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في إنشاء وتوسعة أندية ودور ترفيه تابعة له بالقرب من مستشفى المعادي العسكري لاستغلالها اقتصادياً. أما المشاريع الاستثمارية الأخرى، التي كانت تتبناها حكومة نظيف، فتوقفت بحجة الالتزام بالحكم القضائي.

ويوضح المصدر الحكومي أن الفترة بين عامي 2010 و2012 شهدت صراعاً خفياً على الاستفادة من هذه الجزر، بين الجيش من جهة، وبين رجال أعمال نافذين وقريبين من نظام مبارك من جهة أخرى. فسعى الجيش بكل قوة للسيطرة على الجزر المميزة، وعلى رأسها جزيرة القرصاية، مستغلاً فترة الانشغال الحكومي بأمور أخرى وضعف سطوة رجال الأعمال عقب اندلاع الثورة، فشن حملة للسيطرة على جزيرة القرصاية في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 تصدى لها الأهالي وانتهت بمحاكمتهم وإدانة بعضهم من قبل القضاء العسكري، لكن التعاطف الإعلامي الواسع مع الأهالي عرقل خطة إخلاء الجزيرة.

ويؤكد المصدر أن الخطة الجديدة، التي يتبناها السيسي، تسعى لإرضاء الجيش ورجال الأعمال معاً، وذلك بإدخال الجيش كعنصر رئيسي في إدارة وتأجير أراضي الجزر التي سيتم إخلاؤها، وفي الوقت نفسه استهداف تأجيرها (وليس بيعها) لرجال الأعمال لمصلحة الجيش أو وزارتي الري والإسكان، وذلك حسب الاتفاق بين الجهات الثلاث على تقسيم الأراضي بينها، علماً بأن هذه الجزر كلها تُعتبر محميات طبيعية وتوجد اشتراطات معينة للبناء فيها حالياً، لكن سيتم تغييرها بمجرد تلقي عروض جادة لاستثمارها.
ويضيف المصدر، الذي أشرف على ملف إحدى الجزر المستهدفة لسنوات في وزارة الري، أن المحليات في الجيزة والقاهرة تعمدت تخفيف قيود البناء واستغلال المرافق على أهالي الجزر المذكورة خلال العامين الماضيين، مما أدى إلى زيادة نسبة المخالفات بمختلف أنواعها، خصوصاً البناء على الأرض الزراعية وتجاوز الحد الأقصى للارتفاعات واشتراطات البناء، وهو ما ستأخذه الدولة حجة لتنفيذ خطتها بإخلاء الأراضي كجزء من حملة السيسي لاسترداد أراضي الدولة والتصدي لمخالفات المحليات.

لكن المصدر نفسه يشدد على وجود فوارق شاسعة بين المعتدين على أراضي الدولة والمواطنين المقيمين في هذه الجزر، حتى وإن كانوا مخالفين، "فالنسبة الأكبر من الفئة الأخيرة وُلدت لتجد نفسها على هذه الأرض، ولا تعرف وطناً سواها، ولا تتقن إلا المهن المرتبطة بطبيعة هذه الجزر، كزراعة الأنواع البسيطة والرخيصة من الخضروات أو الصيد النهري"، مشيراً إلى عدم وجود خطة واضحة لكيفية إعادة تسكين من سيتم إخلاؤهم.
ويتوقع المصدر الحكومي أن تبدأ الدولة في تغيير معالم هذه الجزر وتخفيف القيود التشريعية على البناء فيها، قبل نهاية العام الحالي، على أن يبدأ إخلاء الأهالي العام المقبل، مما يرجح نشوب صراع قضائي طويل الأمد بين الدولة والمواطنين المتضررين.