تونس: خلافات الأحزاب تهدد الائتلاف الحكومي

تونس: خلافات الأحزاب تهدد الائتلاف الحكومي

21 مايو 2017
يدرك السبسي أن حكم حزبين غير ممكن(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

بدت الحكومة التونسية برئاسة يوسف الشاهد منذ تشكيلها هجينة سياسياً وفكرياً، بحكم اختلاف مكوّناتها الجذري والعميق، إذ تأسست أحزابها بناء على مشاريع سياسية وخيارات متناقضة تقريباً. لكن هذه الحكومة ظلت صامدة "تقنياً" بحكم الحاجة المشتركة والتقاء المصالح الظرفية لمكوّناتها، على الرغم من تباعد أهداف الأحزاب من المشاركة في الحكم وإدارة الشأن العام.

غير أن الاختبارات المتتالية بدأت تُظهر عمق الخلافات بين هذه الأحزاب، التي يفرّق بينها أكثر مما يجمعها، وهو ما أعاد طرح السؤال حول قدرتها على الصمود ضمن هذا التحالف الأعرج، ودفع أيضاً إلى طرح السؤال المخفي منذ انتخابات 2014، هل يتغيّر الائتلاف من جديد، وهل توجد الشجاعة السياسية التي تُمكّن من اتخاذ قرار في هذا الشأن؟
وجاء اختبار المصالحة الوطنية ليكشف بوضوح عن اختلاف خيارات الأحزاب المشكّلة لحكومة الوحدة الوطنية، ويؤكد أن المشهد السياسي في تونس منقسم إلى كانتونات صغيرة تتحرك بين المعارضة والموالاة بحسب الظروف، ولكنها تكشف في الوقت ذاته عن خلاف داخل الحزب الواحد، بين قياداته وقواعده.
وبقطع النظر عن الخلاف الذي استجد بين الحزب الجمهوري وحركة "نداء تونس"، بسبب مشاركة "الجمهوري" القوية في معارضة قانون المصالحة، طفت على السطح خلافات أخرى تبيّن حجم الهوة بين خيارات الأحزاب. وعلى الرغم من أن "الجمهوري" متناسق في موقفه من المصالحة، إذ كان يرفضها حتى قبل أن يشارك في حكومة الوحدة الوطنية، فإنه وضع وزيره، إيّاد الدهماني، في موقف محرج سياسياً، ما قد يدفعه إلى التفكير في حل سياسي يكون متناغماً مع خيارات حزبه أو مع مشاركته في الحكومة.

ولا يمكن أن يكون الفصل الوهمي بين الرئاسة التي طرحت القانون، والحكومة، سبباً معقولاً يبرر هذا الانقسام الحاد أو التناقض السياسي المكشوف، إذ يُطرح سؤال على قيادات الحزب الجمهوري، حول ما الذي يدفعها إلى المشاركة في "نظام حكم" وليس حكومة تختلف معها في المنشأ والأهداف؟
وخرج عدد من قيادات "نداء تونس" لدعوة الدهماني إلى الاستقالة من حزبه أو من الحكومة، متناسين أن الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية جاءت من رحم حزبهم، أو من قائده ومؤسسه الرئيس الباجي قائد السبسي، وأنها كانت غطاء سياسياً أنقذهم من لحظة سقوط مدوية ومن نكسة شعبية كبيرة تضاف إلى بقية نكسات الانقسام التي يشهدها الحزب منذ تأسيسه، ولم تكن أبدا مِنّة على حزبي "الجمهوري" أو "المسار"، اللذين أضفيا شرعية سياسية على وضع متشظّ.


لكن هجانة هذا الائتلاف لا تتوقف عند "الجمهوري" أو حزب "المسار" فقط، وإنما تتعداها أيضاً إلى حزب "آفاق تونس" الليبيرالي، الذي شكّل باستمرار شوكة في حلق هذا الائتلاف منذ الانتخابات، فقد عارض بشدة عدداً من القوانين التي طرحتها الحكومة السابقة برئاسة الحبيب الصيد، وكان أقرب منه للمعارضة من الائتلاف الذي شارك فيه بقوة، ولا يزال على الموقف نفسه حتى اليوم. وخرج رئيسه، ياسين إبراهيم، ليعلن عبر قناة تلفزيونية أنه قال ليوسف الشاهد "إنه لا مجال لسحب القوانين المتعلّقة برياض الأطفال والعنف المسلّط على المرأة، وسحب هذه المشاريع يعني انسحابنا من الحكومة"، ويؤكد أيضاً اختلاف الخيارات المجتمعية مع عدد من الأحزاب، وهو يقصد حركة "النهضة" التي يعرف الجميع خلافاتهما منذ سنوات. كما شدد إبراهيم أيضاً على أنه يعارض أجزاء من قانون المصالحة، خصوصاً ما يتعلق برجال الأعمال، ولا يقبل إلا بالجزء المرتبط بالإدارة، أي أنه يضع نظرياً ساقاً مع الائتلاف وأخرى مع المعارضة، على الرغم من أنه حزب ليبيرالي معروف، وقد يدفع ثمن هذا الخيار عاجلاً أم آجلاً. ويبقى السؤال ما الذي يدفع "آفاق" إلى التحالف مع حركة يختلف معها فكرياً، ويعارضها وهو داخل الحكومة، وما الذي يبقيه في السلطة وهو أقرب في أحيان كثيرة إلى المعارضة؟
ولم تتوقف الخلافات عند ذلك، بل برزت بشكل واضح في الحزبين الأساسيين، "النداء" و"النهضة"، ورفض مجلس شورى الأخيرة قانون المصالحة، ما دفع بالسبسي إلى التأكيد أن ائتلافه مع الحركة يقوم على اتفاق باريس (الاجتماع الشهير مع راشد الغنوشي). وهو بيّن من جهة أنه لا يعوّل إلا على تيار الغنوشي، ولكنه أظهر من جهة أخرى أن جزءاً من "النهضة" غير متحمس لهذا الائتلاف، أو لعله يعارضه أصلاً، وهو أمر برز منذ انتخابات 2014 عندما صوّت عدد كبير من النهضويين للرئيس السابق منصف المرزوقي، الذي يعتبرونه إلى اليوم أقرب لهم من السبسي.
وعلى الرغم من هذه الانقسامات القاعدية داخل الحزبين، إذ تنادي فئة من الندائيين أيضاً بقطع هذا الرابط مع "النهضة"، فإن قيادات الحزبين المؤمنة بأن هناك أرضية تاريخية وفكرية تجمع بينهما، أصبحت تتحدث في الخفاء عن ضرورة التفكير في تشكيل حكومة تقتصر على "النهضة" و"النداء"، وتبحث عن شجاعة سياسية لطرح الموضوع في العلن. ولكن يبدو أن السبسي هو أكبر المعارضين لذلك، فكما تستفيد أحزاب "الجمهوري" و"المسار" و"آفاق" من وجودها في الحكومة، يحاول السبسي الاستفادة أيضاً من ذلك. وهو يحتاج في الظاهر إلى أرضية سياسية واسعة لحكومته، ولكنه يُحرج هذه الأحزاب في الوقت ذاته مع كل اختبار جديد، ويعزل "الجبهة الشعبية" اليسارية والأحزاب المناصرة لخصمه المرزوقي. كما أن السبسي يدرك أن المرحلة الراهنة لا يتوفر فيها النضج السياسي الذي يُمكّن حزبين اثنين من الحكم بمفردهما، أمام أحزاب معارضة مستنفَرة ومستعدة باستمرار، وفي حملة انتخابية دائمة، بحكم اقتراب موعد الانتخابات البلدية من جهة، والسعي المستمر لضرب نظام الحكم الحالي من جهة أخرى، في انتظار موعد 2019.