مشاهدات سويسرية من صرح عصبة الأمم: تشبيح وفانتازيا وسياسة

مشاهدات سويسرية من صرح عصبة الأمم: تشبيح وفانتازيا وسياسة

03 مارس 2017
جنيف في أولى ساعات الليل (باسم دباغ)
+ الخط -
أسبوع مرّ على بدء محادثات جنيف 4، بلا اختراقات على المستوى السياسي. الأمور غائمة وضبابية كما في بداية أي محادثات سلام. أداء المعارضة جيد حتى الآن، والنظام "عالق". هكذا يمكن تلخيص كل ما جرى. زيارات متتالية من وفد النظام ووفد المعارضة إلى مبنى الأمم المتحدة. الموفدون والمبعوثون ملأوا أروقة فندق "كراون بلازا" حيث يقيم وفد الهيئة العليا للمفاوضات، وكذلك في مبنى الأمم المتحدة. همسات هنا وأصوات منخفضة هناك وأحاديث لا تنتهي، لا يجمعها إلا القرف من النظام وفقدان الأمل من إمكانية استجابته لأي محاولة لبناء السلام في البلاد التي دمرها. في فندق المعارضة، يتناقص عدد المعارضين، إذ بدأ أولئك الذين لا عمل لهم من أعضاء اللجان الاستشارية بالمغادرة، وهي لجان كان ستيفان دي ميستورا أول من اخترعها.

يقول أحد المعارضين المشاركين في وفد الهيئة العليا للمفاوضات، لـ"العربي الجديد"، بعد إشارته إلى مجموعة معارضين في بهو الفندق، إن "كل هؤلاء لزوم ما لا يلزم، لكن كان لا بد من دعوتهم في إطار اللجان الاستشارية التي لا داعي لوجودها هي الأخرى في هذه المرحلة من المفاوضات، ولربما لا داعي لوجودها على الإطلاق، وذلك لمواجهة دي ميستورا في حال حاول تفخيخ الوفد كالعادة".

"باليه دي ناسيون" أي "قصر الأمم"، هو اسم مبنى الأمم المتحدة في المدينة، وهو ثاني أكبر مقر للأمم المتحدة بعد مقرها الرئيس في مدينة نيويورك. وقد بني المبنى ليكون مقراً لعصبة الأمم على نمط العمارة النيوكلاسيكية، بروح هندسية إيطالية. في صالات الاستراحة السقوف عالية للغاية، المقاعد جلدية، ولوحات كبيرة معلّقة على الجدران كتلك التي تزين كنائس روما. بطبيعة الحال لا شيء يدعو للتفاؤل في تاريخ هذا المبنى، الذي ضمّ عصبة الأمم (1920 ـ 1946) التي لم تستطع الحفاظ على السلم الدولي لأكثر من عشرة أعوام قبيل انسحاب دول المحور في الحرب العالمية الثانية.

في مقهى بقرب المحطة الرئيسية للقطارات، يتجمّع سوريون وفلسطينيون شرّدتهم الحرب من بلادهم. يتحدث أحدهم عن والده (73 عاماً) الذي "هُجّر في حياته خمس مرات، ولا يزال يحلم من منزله الجديد في مدينة مالمو السويدية بالعودة، ولكن ليس إلى فلسطين، بل إلى منزله في شارع صفد في مخيم اليرموك في دمشق، أي المخيم الذي تعرف فيه على العالم".



صحافي آخر يتحدث عن رحلة الفرار من سورية. صحافي آخر يخبرنا ضاحكاً كيف أن والده الستيني لا يزال يأمل بالعودة إلى منزله خلال ستة أشهر منذ أن هجرته الحرب إلى إسطنبول قبل 3 سنوات. أصوات ضحكات، الجميع قلق ومسكون بالأرق، ووحدها عقولهم عالقة في الحرب هناك.

ولو قُيّض للمصلح البروتستانتي الفرنسي المثير للجدل، جون كالفن، الخروج  من "لا سيمتيار دي روا" أي مقبرة الملوك في جنيف، لأخبرنا عن رأيه في مدينته الآن: مركز المدينة أي حي "باكي" مكتظّ بالعرب. أشوري عراقي يبيع اللحم الحلال إلى جانب الخمور. بائعات هوى من كل الجنسيات ينتظرن عشاقاً جدداً. بائعو الحشيش في كل مكان. 

أحد الزوار، سامي، كتب اسمه على صدر تمثال نسائي مستوحى من الآثار الفرعونية في قلب المدينة. وعلى الجدار تحت الجسر قرب محطة القطارات كتب "آبوجي" (تسمية أنصار عبدالله أوجلان شديدي النفوذ في أوروبا): "أردوغان قاتل"، فيعلّق أحد الأكراد ضاحكاً: "العمال الكردستاني باق ويتمدد"، محاكياً شعار "داعش" الشهير. وحدهم المهاجرون اللبنانيون يدعون معرفة ماذا يحصل داخل "بالية دي ناسيون". في المقهى على إحدى طاولات الرصيف تعلو أصواتنا، أحدهم يشتم الديكتاتور بكل ما أوتي من قوة والآخر يتحدث عن تشبيح الصحافيين الموالين للنظام في كل بقعة في مبنى عصبة الأمم، وثالث يبدي تذمّره من أداء المعارضة. جارنا اللبناني، الجالس على طاولة بقربنا، خبير في التشبيح، يشغّل مقطعاً مصوراً في مديح حزب الله على "فيسبوك". يرفع الصوت، فنخفض أصواتنا للحظات خوفاً، كما لو كنا في بيروت، قبل معاودة الصراخ بعد أن نتذكر أنها سويسرا وليست الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية، ولا سورية زمن آل الأسد.