زيارة ماكرون الجزائرية: الاقتصاد في مواجهة التاريخ العصيّ

زيارة ماكرون الجزائرية: الاقتصاد في مواجهة التاريخ العصيّ

05 ديسمبر 2017
زار ماكرون الجزائر قبل انتخابه رئيساً (Getty)
+ الخط -

يحلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، غداً الأربعاء، في الجزائر، في زيارة هي الأولى له كرئيس لفرنسا. وإذا كان ماكرون يحاول، وفقاً للاجتماعات التمهيدية التي سبقت الزيارة، أن يصبغها بطابع اقتصادي وسياسي وأمني بامتياز، فإن الثابت أن إخفاقات زيارات سابقة لنظرائه الفرنسيين، تؤكد أن ثمة عقدة لم تتمكن العلاقات الفرنسية الجزائرية، بعد أكثر من ستة عقود، من التحرر منها، هي عقدة التاريخ والذاكرة والظلم الاستعماري.

يأخذ بعض المعلقين في الجزائر على ماكرون تأخره في زيارة الجزائر، وإعطاءه الأولوية في العلاقة الفرنسية مع جنوب المتوسط لدول أخرى كالمغرب ومالي وبوركينا فاسو وساحل العاج. لكن ماكرون الذي كان قد زار الجزائر في عز حملته الانتخابية، طلباً لدعم الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا في تلك الانتخابات، يدرك أن أي زيارة إلى الجزائر، وتحت أي ظرف، لا يمكن أن تبرأ من ملف الذاكرة، على الرغم من الجهود والمساعي التي قامت بها المؤسسة الرسمية في الجزائر وفرنسا لصالح إعطاء أولوية البُعد السياسي والاقتصادي والأمني في العلاقات بين البلدين، وتكريس مستوى من الشراكة الاقتصادية والاستثمارات الصناعية، وتحضير سلسلة من الاتفاقيات في مجالات الصناعة والطاقة والتجارة والجامعات والأمن وغيرها.

لكن التراكم التاريخي وملفات الذاكرة العالقة بين البلدين، ما زالت عصية على أن تتجاوزها كل محاولات التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين، على الرغم من محاولات وجرأة السلطات الجزائرية في تجاهل ملف الذاكرة بشكل رسمي، في مقابل الجرأة غير المسبوقة التي أبداها ماكرون عندما أقر أن الاحتلال الذي تعرضت له الجزائر كان ظلماً وجريمة استعمارية.
ويظل ملف الذاكرة الدامية بين البلدين، المؤشر الرئيسي الذي يحكم توجهات الرأي العام والمواقف بشأن العلاقات الجزائرية الفرنسية. وتبقى أبرز الملفات التاريخية العالقة، هي التفجيرات النووية التي أجرتها فرنسا في منطقة رقان وحمودية في ولاية أدرار جنوبي الجزائر، مع إحصاء ما يزيد عن 42 ألف ضحية لهذه التجارب من المرضى المصابين بأمراض قاتلة أهمها السرطان، فيما لا يزال ملف الضحايا عالقاً، بسبب مماطلة السلطات الفرنسية في إقرار حقوقهم.

كما يبرز ملف المجازر الدموية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الجزائريين، في الثامن من مايو/أيار 1945، عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، وترفض باريس تقديم اعتراف رسمي بهذه الجرائم وتعويض عائلات ضحايا هذه الجرائم. كذلك ما زالت السلطات الجزائرية تطالب باستعادة أرشيفها التاريخي من فرنسا، الذي نقلته الأخيرة من الجزائر خلال فترة الاستعمار التي امتدت من 1830 حتى عام 1962. وقال وزير قدماء المحاربين في الجزائر، الطيب زيتوني، إن "الجزائر لم تستعد كل أرشيفها، وما استرجعناه لا يمثل جزءاً يستحق التكلم عليه، لأنه يعتبر شيئاً يسيراً". واعتبر أنه ما لم تعترف فرنسا بجرائمها الاستعمارية في الجزائر فلن تكون هناك علاقات طبيعية بين البلدين.

ورأى الباحث والكاتب رابح لونيسي أن عامل الذاكرة رئيسي في تحديد العلاقات بين الدول، "وهو ما ينطبق على العلاقات الجزائرية-الفرنسية، والدليل وقوف هذا العامل كحاجز أمام محاولة توقيع معاهدة صداقة بين الجزائر وفرنسا في عهد جاك شيراك، خصوصاً بعد صدور قانون 23 فبراير 2005 الممجد للاستعمار في فرنسا تحت ضغط لوبيات الأقدام السوداء".

وأضاف أن ماكرون حاول، خلال زيارته إلى الجزائر عشية انتخابه رئيساً، تقديم وجهة نظر مغايرة لسابقيه، وتقديم جرعة إضافية على صعيد الإقرار بالظلم الاستعماري واسترضاء الذاكرة الجزائرية المتعطشة لهذا الإقرار الرسمي، فأعلن تجريم الاستعمار صراحة. وفسر لونيسي ذلك الإقرار بكون ماكرون "من جيل الشباب الذي لم تكن له أي علاقة بالماضي الاستعماري، عكس الرؤساء السابقين، لكن لم يكن ماكرون يعي مدى تأثير لوبيات الأقدام السوداء في فرنسا، وتعرّض لحملة شرسة آنذاك لم تكن في حسابه، فوقع تحت ضغوط لوبيات الأقدام السوداء، وهم جيل من الفرنسيين وُلد في الجزائر خلال فترة الاستعمار ولهم علاقة خاصة بالجزائر"، مضيفاً: "فهِم ماكرون لاحقاً الخطوط الحمراء لسياسة فرنسا الرسمية تجاه ماضيها الاستعماري، وهو عدم الاعتراف بجرائمها، لأن ذلك يمس إيديولوجيتها، بحكم أن الفرنسيين يرون أنفسهم مصدراً لحقوق الإنسان بحكم الثورة الفرنسية".
ولفت لونيسي إلى أن "ماكرون وقع اليوم بين الرغبة في خدمة مصالح فرنسا الاقتصادية من جهة، ومطالب شعوبنا، ومنها الشعب الجزائري بالاعتراف بالجرائم الاستعمارية الفرنسية، ولذلك هو يعمل جاهداً من أجل تجاوز هذا العامل التاريخي الذي أصبح يعيقه في تحقيق مكاسب اقتصادية لفرنسا التي يريد التركيز عليها".


بعض التراجع والأسلوب الجديد الذي اعتمده ماكرون في التعامل مع ملف الذاكرة والاستعمار من خلال تصريحه الأخير في المؤتمر الأفريقي-الأوروبي الذي عُقد الأسبوع الماضي في ساحل العاج، بأنه من جيل جديد ولم تكن له أي علاقة بالماضي الاستعماري، يكشف عن محاولة "ذكية "من فرنسا الرسمية للتملّص من هذا الملف المعقد. بينما يرى محللون أن زيارة الرئيس الفرنسي إلى الجزائر ستكشف عن الوجه الحقيقي للخيارات الفرنسية تجاه الجزائر مستقبلاً على صعيدين، الأول يرتبط بملف الذاكرة، فيما يتعلق الثاني بالملف الاقتصادي، خصوصاً أن زيارة ماكرون هذه هي أول زيارة له إلى الجزائر بعد انتخابه رئيساً.

واعتبر الاقتصادي الجزائري سليمان ناصر، أن ماكرون يقع "في هذه الزيارة تحت مسؤولية أخلاقية لتأكيد وعوده التي أعلنها في زيارته الأخيرة قبيل انتخابه، حين أبدى استعداداً للاستجابة لمطلب الاعتذار التاريخي للجزائر، على الرغم من المعارضة الشديدة للعديد من اللوبيات في فرنسا". ورجح ناصر أن يحاول الرئيس الفرنسي "الالتفاف قدر الإمكان على هذا الجانب وإعطاء الأولوية للاقتصاد، فهي تأتي بعد وضع مصنع "بيجو " للسيارات قيد الخدمة بعد عراقيل كثيرة، إضافة إلى أن الجزائر تعتبر شريكاً اقتصادياً مهماً لفرنسا، فالجزائر تستورد منها ما قيمته 4.7 مليارات دولار، وتُصدّر إليها ما قيمته 3.2 مليارات دولار، ومعظمها محروقات (إحصائيات 2016)، أي بفائض لصالح فرنسا بقيمة 1.5 مليار دولار". وأشار إلى أن ماكرون سيحاول الخروج من هذه الزيارة بمكاسب اقتصادية، و"سيضغط باتجاه رفع القيود عن بعض صادرات بلده إلى الجزائر، خصوصاً بعد فرض الأخيرة رخص الاستيراد ومنع العديد من المنتوجات، والتي تضررت منها الزراعة الفرنسية مثل الحمضيات والتفاح".
أما الباحث رابح لونيسي، فأكد ضرورة استغلال الجانب الجزائري لأزمة الاقتصاد الفرنسي في المفاوضات السياسية، موضحاً أن "فرنسا تعاني من أزمة اقتصادية حادة جداً بفعل الأزمة الدورية للرأسمالية العالمية، وإفلاس الكثير من شركاتها، وهو ما يجب أن نستغله كعامل ضغط على فرنسا للاعتراف بجرائمها".

وفي هذا السياق، يطرح سليمان ناصر فكرة استغلال الجزائر الورقة الاقتصادية للضغط على الجانب الفرنسي في ملف الذاكرة، قائلاً "في هذه الحالة قد تلجأ الجزائر إلى المقايضة في المواقف، بتخفيف القيود على الصادرات الفرنسية إليها مقابل انتزاع اعتراف تاريخي من فرنسا بجرائمها الاستعمارية، أو الطلب من فرنسا الضغط على الاتحاد الأوروبي لمراعاة ظروفها في اتفاق الشراكة مع الاتحاد والذي تشتكي الجزائر من عدم الاستفادة منه نظراً لعدم تكافؤ الفرص بين البلدين، والذي تقرر إعادة النظر في 13 مجالاً للشراكة من قِبل لجنة مشتركة ستعقد اجتماعها هذا الأربعاء".

مجموعة أخرى من المراقبين والمحللين تعتقد أن قضية الذاكرة الدامية بين الجزائر وفرنسا لا يمكن أن تعيق تطور العلاقات الاقتصادية، ليس بسبب أولوية ذلك أو خيارات السلطة في الجزائر، ولكن بفعل ضعفها في مواجهة الطرح الفرنسي لأسباب أوضحها الكاتب والمؤرخ محمد ارزفي قراد، بالقول: "في الواقع يفترض ألا يمكن بناء علاقات طبيعية إلا بعد تجريم الاستعمار من قِبل الدولة الجزائرية، لكن هذه الحالة مستبعدة، لأن النظام الجزائري غير شرعي، يقتات من العلاقة مع فرنسا، وقضية الذاكرة لا تقلق فرنسا على الإطلاق، لأن حكامها يدركون أن رموز النظام السياسي الجزائري هم لصوص لهم أملاك وحسابات في فرنسا، ومن ثم لا يجرؤون على المبادرة بتجريم الاستعمار". وأضاف أن "فرنسا تعرف جيداً طبيعة الحكم في الجزائر، لذلك فإنها اختارت المغرب الأقصى كحليف دائم على حساب العلاقة مع الجزائر".

ملف آخر يبرز في العلاقات الفرنسية الجزائرية، يتعلق بمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل، وهو ملف تتداخل فيه المواقف بين البلدين، خصوصاً أنه يأخذ سياقاً جغرافياً تكون فيه الجزائر طرفاً رئيسياً، بسبب النشاط المستمر للمجموعات الإرهابية المتحالفة مع شبكات تهريب المخدرات والبشر والجريمة المنظمة في منطقة شمال مالي الحدودية مع الجزائر وفي مجمل منطقة الساحل، وصولاً إلى منطقة جنوب ليبيا التي تعرف انتشاراً رهيباً للسلاح وتهريب البشر. وتشير بعض التقارير التي تم تداولها إلى أن باريس ما زالت تحاول الضغط على الجزائر للقيام بدور عسكري أكبر في المنطقة، والمشاركة في عمليات عسكرية مباشرة في شمال مالي. لكن الجزائر تتمنّع لأسباب دستورية، إذ يمنع الدستور الجزائري أي عمل عسكري للجيش خارج الحدود، وهي تكتفي بدور لا يقل أهمية، من خلال تأمين الحدود، ومنع الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة من التحرك على التخوم الحدودية أو اتخاذها قاعدة خلفية لها، ناهيك عن قطع طرق المواصلات والتموين عن هذه الشبكات، إضافة إلى تقديم دعم لوجيستي لدول الساحل لمكافحة الإرهاب، حيث أعلن رئيس الحكومة أحمد أويحيى قبل يومين أن الجزائر قدّمت 100 مليون دولار لصالح دول الساحل موجّهة لمكافحة الإرهاب.

وفي السياق نفسه، لا تغيب فرنسا عن الأفق السياسي الغامض في الجزائر، إذ تبدي فرنسا اهتماماً بالغاً بالتقاطعات السياسية الحاصلة في الجزائر، وترصد الدوائر الفرنسية التطورات الراهنة قبل فترة سياسية قصيرة من الانتخابات الرئاسية المقررة في الجزائر في ربيع عام 2019، خصوصاً في ظل غموض الموقف السياسي بشأن إمكانية ترشح الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة من عدمه لولاية رئاسية خامسة في هذه الانتخابات. زيارة ماكرون الذي لن يحظى بمرافقة الرئيس بوتفليقة له إلى الأماكن والمنشآت المدرجة في أجندة الزيارة بسبب مرض الرئيس الجزائري، يرجح مراقبون أن تمكّن الطرف الفرنسي من تشكيل تصور واضح عن الأفق السياسي في الجزائر، وعن مآلات المشهد الجزائري الذي استعصى على الفهم في الداخل.