الإمارات في جنوب اليمن: استنساخ أدوات الاحتلال البريطاني

الإمارات في جنوب اليمن: استنساخ أدوات الاحتلال البريطاني

23 نوفمبر 2017
تقوم أبوظبي اليوم بدعم تمدّد المجلس الانتقالي الجنوبي(فرانس برس)
+ الخط -
أنشأت دولة الإمارات الحزام الأمني في كل من عدن وأبين ولحج، جنوبي اليمن، وهو يتكوّن من فصائل عدة بقيادات محلية على مستوى المديريات، بحيث لا يمكن أن تشكّل خطورة كقوة كبيرة مجتمعة، لعدم وجود تنسيق أفقي بينها. ويظلّ القائد الميداني لهذه الفصائل نبيل المشوشي بعيداً عن الأضواء بعكس هاني بن بريك الذي يظهر في الصورة كحليف الإمارات النافذ في عدن والمشرف على قوات الحزام الأمني، وهي سياسة متبعة لوجود أكثر من وجه للملف نفسه، بحيث لا يفكّر وجه بالتمرّد لوجود البديل الجاهز له، كما هو حال رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي ومدير أمن عدن شلال شائع في جانب آخر.

قامت أبوظبي أيضاً بتدريب وتسليح جيوش محلية في أكثر من محافظة، كالنخبة الحضرمية في حضرموت والنخبة الشبوانية في شبوة، وأخيراً النخبة المهرية التي ما زالت غير قادرة على السيطرة في المهرة بسبب مواقف القوى المحلية منها. فلماذا لم تفكر الإمارات مثلاً بتشكيل جيش وطني يمني حتى على مستوى التابعة لنفوذها وليس كل اليمن كما تفعل السعودية في مأرب، وهما الدولتان الأبرز في التحالف العسكري الذي تدخّل في اليمن منذ مارس/آذار 2015؟

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وضع الجنرال الإنكليزي جاكوب خطة لتشكيل قوات يمنية محلية، لتخفيف العبء عن القوات البريطانية في جنوب اليمن في مواجهة الدولة الوليدة في الشمال بعد انسحاب الأتراك منها. وقد راهن جاكوب على عدم ظهور نزعة قوية للقومية اليمنية تؤدي لتعصب الجنوبيين مع الشماليين أو العكس. أسّس أول فرقة عسكرية من اليمنيين في الجنوب عام 1918. وعند قيام دولة الإمام يحيى في الشمال باستعادة مناطق الساحل الغربي التي سيطرت عليها بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى ثمّ سلمتها لحليفها مصطفى الإدريسي المعادي للإمام يحيى، حاول الإنكليز مواجهة توسّع إمام الشمال بقوات يمنية تمركزت في جزيرتي ميون (باب المندب) وكمران في البحر الأحمر. إلاّ أنّ تلك القوات رفضت قتال اليمنيين المناهضين لبريطانيا وقامت بقتل قائدها في ميون (الجنرال لورانس) والفرار إلى منطقة الشيخ سعيد الواقعة تحت سيطرة قوات الإمام يحيى، ما أدى إلى تسريح ما تبقّى من هذه القوات عام 1925، لتشكيلها خطراً على الإنكليز بدلاً عن كونها أداة لهم، وسقطت بذلك نظرية جاكوب عن ضعف النزعة القومية اليمنية التي راهن عليها.

ولأن حاجة الإنكليز لوجود قوات محلية تتحمّل أعباء الأمن وإخضاع التمرّدات القبلية ومواجهة المناوشات على حدود الشطرين (وفق الاتفاقية التركية البريطانية لترسيمها في 1914)، فقد قامت بريطانيا بإنشاء قوات جديدة ابتداءً من عام 1928، لكنها أخذت بعين الاعتبار تجربتها الأولى، وأسست قوى عسكرية عدة منفصلة عن بعضها (جيش عدن أو "جيش الليوي"، الحرس الحكومي، الحرس القبلي، جيش البادية الحضرمية، الجيش اللحجي، جيش المكلا النظامي، الجندرمة القعيطية والكثيرية)، وذلك لتتمكّن من توظيف كل قوة ضد الأخرى. وفي الوقت نفسه، اختارت المجنّدين على أساس مناطقي (فصيل العوالق والعواذل، فصيل يافع وعزان، فصيل الحسني والميسري) بحيث يمكن لجيوش كل قبيلة إخضاع الأخرى من دون أن تثنيها عن ذلك عوامل القرابة والولاءات القبلية، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن تشكّل هذه القوات المقسّمة تكتلاً عسكرياً كبيراً يمثّل خطراً على الإنكليز لاحقاً.

إن التجربة الإماراتية اليوم تكرر السيناريو نفسه بالنسبة لتركيبة الجيوش وقوى الأمن الموزعة على أسس مناطقية، ويمكن لأي عابر يمرّ في الطريق الرابطة بين عدن غرباً والمهرة شرقاً، ملاحظة تركيبة عشرات النقاط الأمنية القائمة على الطريق الطويل، وهي تعرف لدى المواطنين باسم المنطقة التي ينتمي إليها أفرادها (نقطة يافع، نقطة ردفان، نقطة الضالع إلخ). إلا أن أبوظبي اختلفت عن لندن في اختيار المناطق التي تجنّد منها، فقد اعتمدت الأولى بوضوح على شبوة وأبين (العوالق والميسري والحسني وعشال)، لكن أبين وشبوة اللتين اعتمدت عليهما لندن في تجنيدها أصبحتا أكثر تقارباً مع مناطق شمال اليمن، خصوصاً بعد أحداث يناير/كانون الثاني 1986 التي أقصت هاتين المنطقتين من الجيش بعد أحداث دموية أجبرتهم على الفرار نحو الشمال يومها، ومنهم الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي المنحدر من محافظة أبين، والذي لا تربطه علاقات جيدة بالإمارات في الحرب الراهنة.

وقد اختارت أبوظبي مجنّديها في الأغلب من مناطق يافع والضالع وردفان، وهي المناطق التي هيمنت على الجيش الجنوبي بعد أحداث يناير/كانون الثاني 1986، وبالتالي لا تربطها علاقات ودية مع هادي ولا مع الشمال على خلفية تلك الأحداث، وعلى خلفية حرب صيف 1994 التي وقف فيها هادي إلى جانب صنعاء، وعيّن وزيراً للدفاع ثمّ نائباً للرئيس حتى فبراير/شباط 2012، بينما كان قادتها على الطرف الآخر من هذه المناطق تحديداً (يافع والضالع وردفان).

وفي إطار إضعاف الهوية القومية اليمنية الجامعة، فقد أعادت الإمارات عبر القوى الموالية لها استخدام مسميات بريطانيا لجنوب اليمن بالجنوب العربي، وهي التسمية التي يعتمدها المجلس الانتقالي الجنوبي برئاسة عيدروس الزبيدي الموالي للإمارات، كمجلس معارض للرئيس هادي من جهة، ولاستمرار الوحدة مع الشمال من جهة أخرى. ويستخدم في إطار ذلك تسمية الجنوب العربي لجنوب اليمن وهي التسمية التي اعتمدتها بريطانيا بين 1959 و1967 مع تأسيس "اتحاد إمارات الجنوب العربي"، قبل أن تضم إليها عدن وتعدل التسمية إلى "اتحاد الجنوب العربي".

وبينما حرص الجنرالان الإنكليزيان جاكوب وهاملتون على استثناء أبناء المناطق الشمالية من التجنيد في القوات الموالية للندن، رغم تشكيلهم كتلة سكانية كبيرة في عدن، خوفاً من ميلهم للشمال، باعتبار أن جزءاً من مهامهم العسكرية موجهة ضده وواقعة في مناطق الحدود الشطرية. وقامت سلطات الاحتلال الإنكليزي عام 1955 في أول انتخابات جزئية للمجلس التشريعي بعدن باستثناء أبناء الشمال من الترشح والتصويت والسماح لغيرهم من الباكستانيين والهنود والصوماليين المقيمين في عدن بذلك.

كرّرت الإمارات عبر قوات الحزام الأمني السياسة نفسها، إذ إن سياسة التجنيد لا تشمل الجنوب كله، إنما مناطق محددة فيه، ووظفت تلك القوات لاحقاً لطرد أبناء الشمال من المدن الجنوبية وبشكل رئيسي عدن، وهو ما يذكّر بسياسة "عدن للعدنيين" التي ارتفع صوتها في خمسينيات القرن الماضي بمباركة بريطانية واضحة.

قبل أسابيع، ظهرت قيادات السلطات المحلية في عدن في اجتماع يترأسه قائد القوات الإماراتية، وهو مشهد يستدعي مشاهد مماثلة كان بطلها المندوب السامي البريطاني في عدن قبل الاستقلال (نوفمبر/تشرين الثاني 1967)، إذ كان يدير شؤون المستعمرة كلها مع مستشارين لكل سلاطين وأمراء المحميات الغربية والشرقية يومها. ويتكرر الأمر عبر هيمنة قادة القوات الإماراتية في كل من عدن وسقطرى والمخا والمكلا وشبوة.

ورغم أن الإمارات لا تدعي أية سلطات تظهرها كقوات احتلال في جنوب اليمن وساحلها الغربي، إلا أن قائداً عسكريا يمنياً قال لصحافي أجنبي بعد دخول القوات الإماراتية عدن في يوليو/تموز 2015، "إننا سنحتاج للإماراتيين لفترة طويلة هنا، فكل شيء مدمر، وسنة أو سنتان مدة غير كافية".

قد يكون هذا القول غير كاف لوصف ممارسات الإمارات كممارسات احتلالية، لكن القوة التي يستند عليها التحالف العربي بقيادة السعودية في تدخله العسكري في اليمن هي طلب السلطات الشرعية ممثلة بالرئيس هادي، وهذا يستدعي على أقل تقدير التنسيق مع سلطات هذا الرئيس على الأرض. لكن القوات الموالية للإمارات منعت هذا الرئيس ذاته من الهبوط في مطار عدن في فبراير/شباط 2017، ورفض محافظ عدن السابق (عيدروس الزبيدي) أبرز رجالها في عدن، تسليم مبنى المحافظة لخلفه المعيّن من قبل هادي، عبدالعزيز المفلحي، منذ مايو/أيار الماضي حتى تقديم الرجل، غير المرضي عنه إماراتياً، استقالته منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وهو السياسي الوحيد الذي جاهر برفضه للسياسات الإماراتية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها وأبرزها العاصمة المؤقتة (عدن).

ومَن يتتبع خريطة الحضور الإماراتي في جنوب اليمن حالياً ومنذ يوليو/تموز 2015، فإنه لن يجد فارقاً كبيراً بين مناطق التمركز المباشر لها، وبين المناطق التي تمركزت فيها بريطانيا إبان احتلالها جنوب اليمن. فبينما كانت عدن هي الخطوة الأولى للدولتين، كانت جزيرة ميون في باب المندب هي الخطوة الثانية إضافة إلى سقطرى. وكانت المناطق المحاذية للساحل الجنوبي والمحيطة بمضيق باب المندب هي أبرز المناطق التي حرصت الدولتان على السيطرة المباشرة عليهما، مع شن حملات تأديبية ضد تمرّدات المناطق الداخلية والتي شنتها بريطانيا بدعوى موالاة الشمال أو عدم تنفيذ توصيات مستشارها المقيم، كما حدث في لحج والضالع وردفان، وشنتها الإمارات لإضفاء شرعية لها كقوة مكافحة للإرهاب في شبوة وحضرموت وأبين.

رفضت الإمارات السماح لمحافظ تعز، علي المعمري، بزيارة ميناء المخا، على البحر الأحمر، الواقع تحت سيطرتها العسكرية المباشرة. كما رفضت تسليم مطار عدن لقوات الحماية الرئاسية الموالية لهادي وخاضت معها اشتباكات مسلحة بمشاركة الطيران. وسرى ذلك الأمر على ميناء الزيت في عدن أيضاً. كما احتكرت بريطانيا الهيمنة المباشرة على مصفاة عدن ومينائها من قبل.

ودخلت بريطانيا عدن للمرة الأولى عن طريق شركة الهند الشرقية الإنكليزية، عبر اتفاق امتيازات خاصة لها في الميناء مع سلطان لحج عام 1802، في حين دخلت الإمارات عدن للمرة الأولى عن طريق اتفاق امتياز استثماري لشركة دبي العالمية للموانئ عام 2008، بعد عام على اعتبار اتحاد النقل الدولي لعدن كحلقة وصل أمثل لخطوط النقل البحري، لموقعها المتوسط بين سنغافورة وموانئ أوروبا، وهو أمر يعيد اعتبار لندن لكل من سنغافورة وعدن ثالث المناطق الاستراتيجية لها بعد بريطانيا ذاتها. وبناء عليه سحبت مركز قيادتها للشرق الأوسط من قبرص إلى عدن منتصف الخمسينيات. وبعد خسارتها مناطق نفوذها على الساحل الأفريقي لصالح إيطاليا، كان آخر أمر حرصت عليه لندن قبل مغادرة أراضي جنوب اليمن هو الإبقاء على قواعد عسكرية في عدن وسقطرى لولا رفض الجبهة القومية حينها.


وكانت أولى نقاط الخلاف مع هادي قيام أوّل حكومة في عهده بإلغاء عقد موانئ دبي العالمية لاستغلال ميناء عدن الموقع في 2008، إذ تم إلغاؤه في 2012 من قبل حكومة محمد سالم باسندوة السابقة. وإضافة إلى امتلاكها قواعد عسكرية في كل من إرتيريا وأرض الصومال في الساحل الأفريقي، تقوم الإمارات عملياً ببناء قاعدة لها في ميون لاستكمال سيطرتها على مضيق باب المندب حسب تقارير عدة، والعمل المباشر في جزيرة سقطرى على صعيد التجنيد والتسليح والاستثمار والتجنيس أيضاً. وقد اتفقت مع رئيس الحكومة المقال (خالد بحاح) على منحها حق الاستثمار في الجزيرة، لولا قرار سلطات هادي عدم توقيع اتفاقات من هذا النوع في الفترة الراهنة، وقيام الأخير بإقالة بحاح، ما تسبب في كسر عصا علاقته مع الإمارات إلى الآن.

إن تصورات تقسيم اليمن إلى ثلاث دول، التي يقوم بنشرها نائب رئيس شرطة دبي، ضاحي خلفان، على حسابه على موقع "تويتر" (شمال ووسط وجنوب)، وتصنيفات أنور قرقاش للقوى اليمنية كصاحب سلطة وليس كصاحب رأي، تستدعي اقتراحات المندوب السامي في عدن في خمسينيات القرن الماضي وهو يرسم خريطة وقوانين اتحاد إمارات الجنوب العربي، وعملية تقسيم الجنوب إلى المحميات الغربية والشرقية في الثلاثينيات.

قامت لندن أيضاً بدعم قوى جنوبية موالية لها من السلاطين و"عدن للعدنيين" للقيام بالتفاوض حول الجنوب بدلاً عن القوى الوطنية المناهضة لها خصوصاً الجبهة القومية. وتقوم الإمارات اليوم بدعم تمدّد المجلس الانتقالي الجنوبي الذي أصبح يتحدّث عن كونه الممثل للقضية الجنوبية، في ظلّ إعلان قوى جنوبية أخرى تعتبر قيادات تاريخية في الحراك الجنوبي، كحسن أحمد باعوم، رفضها للمجلس الانتقالي. كما أنّ القمع البريطاني للجبهة القومية حين رفعت راية الكفاح المسلح ضد الاحتلال تمارسها اليوم الإمارات ضد حزب الإصلاح الذي يرفض سياساتها على خلفية العداء الصريح بين الإمارات والإخوان المسلمين، كما كان سابقاً بين بريطانيا والقوميين العرب، الذين مثّلتهم الجبهة القومية (مع فارق المعطيات والخلفية). 

إن ورقة الضغط بالقوى المحلية العسكرية والمدنية الموالية لأبوظبي عبر الحزام الأمني وقوات النخبة في أكثر من محافظة، وعبر الشخصيات السياسية المتضررة من سياسات هادي، ورقة استخدمتها لندن قديماً، بإنشاء كيانات مماثلة كما أشرنا سابقاً، وكان إيجاد مصالح قوية لتلك القوى (الموالية لها) تجعلها دافعاً ذاتياً للعمل ضدّ القوى الوطنية الأخرى، وللتمسك بوجودها (لندن وأبوظبي) لحمايتهم كحلفاء.

تشكل الاعتمادات المالية وترك حرية استخدام النفوذ على الأرض لتحقيق مكاسب مباشرة أبرز تلك المصالح، لكن الإمارات كما أبلغني صديق صحافي في عدن لا تستمر في عطائها بانتظام. ورغم حصوله على دعم مالي سخي منها لأشهر، فإن الدعم انقطع فجأة وعاد فجأة بحكم تذبذب العلاقة. وهي تحرص أيضاً على عدم الربط بين كيانات حليفة لها، لتشكل قوة أكبر من اللازم لتظل كل قوة بحاجة مباشرة إلى دعمها باستمرار وهذه أيضاً سياسة بريطانية مشهورة في عدن باعتماد ألقاب شرفية ومعونات شهرية لحلفائها تتغيّر إن تغيّرت الولاءات.