سورية بعد "داعش": أبرز بؤر التصادم بين النظام و"قسد"

سورية بعد "داعش": أبرز بؤر التصادم بين النظام و"قسد"

14 نوفمبر 2017
الرقة أبرز الساحات المرشحة لحصول التصادم (بولنت كيليس/فرانس برس)
+ الخط -
مع تواصل المعارك بين قوات النظام السوري وتنظيم "داعش" في مدينة البوكمال في محافظة دير الزور على الحدود العراقية، وهي آخر المدن الرئيسية التي يسيطر عليها "داعش" في سورية، كانت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، التي تهيمن عليها المليشيات الكردية، تعلن السيطرة على بلدة مركدة آخر معاقل التنظيم في ريف الحسكة الجنوبي، في خضم سباق محموم بين الطرفين للاستيلاء على أكبر ما يمكن من تركة التنظيم المتقهقر، والذي تخرج يومياً مناطق جديدة عن سيطرته، وبات عناصره يتوزعون على قرى متباعدة في أرياف بعض المحافظات.

وتمكنت قوات النظام من تحقيق سبق على المليشيات الكردية في الوصول أولاً إلى البوكمال، والالتقاء مع القوات العراقية على الطرف الآخر من الحدود. وتعتبر البوكمال ثاني أكبر مركز إداري في المحافظة بعد مدينة دير الزور نفسها. وفي الوقت ذاته، أعلنت "قوات سورية الديمقراطية"، فجر الخميس الماضي، سيطرتها على كامل بلدة مركدة، آخر معاقل "داعش" في ريف الحسكة الجنوبي، تزامناً مع غارات لطيران التحالف الدولي على مواقع التنظيم في البلدة، ضمن عملية "عاصفة الجزيرة"، التي أطلقتها "قسد" في التاسع من سبتمبر/أيلول الماضي، والتي تهدف إلى السيطرة على مناطق شمال شرق دير الزور وجنوب الحسكة. ومع هذا التطور بات طريق الشدادي – الصبحة مفتوحاً أمام المليشيات الكردية التي دخلت قرية البصيرة في شرق دير الزور، وطردت التنظيم منها. وكانت تلك المليشيات سيطرت على عدة قرى وجبل استراتيجي مطل على بلدة البصيرة الخاضعة لتنظيم "داعش" شرق مدينة دير الزور، ما يعني السيطرة نارياً على الطريق الواصل بين مدينة دير الزور وحقل العمر النفطي.

وإذا كان نهر الفرات ما زال يمثل بشكل عام خطاً فاصلاً بين قوات الطرفين بموجب تفاهمات روسية – أميركية غير معلنة، بحيث تتحرك قوات النظام ضد "داعش" غرب النهر و"قسد" شرقه، فإن هذا الخط تم اختراقه مرات عدة من الجانبين، ولو بشكل محدود حتى الآن. ومع مواصلة قوات النظام محاولاتها للسيطرة على البوكمال، فإن "بنك" الأهداف، التي تقع تحت سيطرة "داعش"، يكاد ينضب بالنسبة لقوات النظام، ما يعني أنها قد تتوجه إلى المناطق التي سيطرت "قسد" عليها، خصوصاً تلك التي استولت عليها في الفترات القليلة الماضية، بما في ذلك مدينة الرقة التي أعلن أكثر من مسؤول في النظام، وعلى رأسهم رئيسه بشار الأسد، أنهم يعتبرونها مدينة محتلة طالما لم تخضع لسيطرة قوات النظام.

وأبرز الساحات المرشحة لحصول تصادم بين الجانبين مدينة الرقة، التي كانت المليشيات الكردية استولت عليها الشهر الماضي، بعد معارك مع تنظيم "داعش" دامت أكثر من أربعة أشهر. وقبل تصريحات الأسد الأخيرة، كانت هناك تصريحات مماثلة وأكثر وضوحا لمستشارته بثينة شعبان، التي دعت أكراد سورية للاتعاظ مما جرى لأكراد العراق. كما أعلن مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، في تصريحات من بيروت، أن قوات النظام السوري ستتقدّم قريباً لانتزاع مدينة الرقة من "قوات سورية الديمقراطية"، بينما ذكرت القناة المركزية لقاعدة حميميم العسكرية الروسية أن "الحل العسكري هو الخيار الوحيد للتعامل مع المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد" في سورية.


وتعتبر الرقة مدينة حيوية لكلا الجانبين، إذ يعتبر النظام استعادتها جزءاً مهماً من مشروعه المعلن لفرض سيطرته على كامل التراب السوري، فضلاً عما تحتويه المحافظة من ثروات باطنية ومن منشآت مهمة، مثل سد الفرات. كما أن الأكراد يطمحون لضم المدينة إلى مشروعهم الخاص بـ"الإدارة الذاتية" للاستفادة من ثروات المحافظة، مستفيدين من السعي الأميركي للحفاظ على مناطق نفوذ لهم في شرقي البلاد، إذ تعتبر المليشيات الكردية الذراع الرئيسية للأميركيين على الأرض. وأعلنت "قسد" أنها ستسلم إدارة المدينة وريفها إلى "مجلس الرقة المدني" الذي تهيمن عليه، على أن تتولى قوى الأمن توفير الأمن الداخلي، بينما ستتولى هي حمايتها من أي "اعتداء خارجي"، في إشارة إلى قوات النظام السوري. كما يمتد التنافس بين الجانبين إلى محافظة دير الزور، إذ تمكنت المليشيات الكردية، بإسناد من طيران التحالف، من السيطرة على مساحات واسعة من المحافظة شرق النهر، خصوصاً آبار النفط، بينما سيطرت قوات النظام على معظم ما كان بحوزة تنظيم "داعش" غرب النهر.

غير أن المحلل السياسي، غازي دحمان، رأى أن التهديدات التي يطلقها الإيرانيون ونظام الأسد بخصوص استعادة الرقة "ليست أكثر من محاولة لاستعراض أوراق القوة أمام أميركا في هذه المرحلة، بهدف الضغط على القوات الأميركية حتى لا توسع دوائر الاستهداف ضد إيران وتغض الطرف عن سيطرتها على البوكمال، وتدشين الخط البري من إيران إلى المتوسط، بالإضافة إلى تقدير إيران أن هناك مخططاً لضرب حزب الله في لبنان، وبالتالي تسعى إيران لاستعراض البدائل المتاحة أمامها لإزعاج أميركا في المنطقة". وأضاف أن ثمة أسبابا كثيرة تكشف هذه الحقيقة: أولها أن قراراً من هذا الحجم لا تملكه إيران، وهو بيد روسيا "لأنها هي من ستتورط في هذه الحرب، وموسكو غير مستعدة للمواجهة مع أميركا في هذه المرحلة". كما أن التقسيم الحالي لمناطق النفوذ هو نتيجة توافق روسي-أميركي، ميداني وسياسي، ولا تستطيع موسكو الإخلال به، وهذا التوافق سيظل على الأرجح ساري المفعول. ورأى دحمان أن الإيرانيين يريدون توريط الروس في المجابهة مع أميركا ووضعهم في موضع المدافع عن مشاريعهم بشكل صريح وعلني، وهو ما ترفضه موسكو، ذلك أن انخراطهم في الحرب على "قسد"، في هذه الظروف، سيكون له تفسير واحد وهو حماية الطريق البري لإيران، وبمعنى آخر الانحياز نهائياً للمشروع الإيراني في مواجهة السنّة في المنطقة. واعتبر أن موسكو التي تدير لعبة توازنات دقيقة في سورية، "معنية بالحفاظ على قسد والمكون الكردي لحسابات تتعلق بالعلاقات مع الاكراد في منطقة الشرق الأوسط كلها، إذ تراهن موسكو على علاقات جيدة مع الأكراد تساهم في زيادة أوراق قوتها الإقليمية". وكانت "قوات سورية الديمقراطية" تعرضت في 25 سبتمبر/أيلول الماضي لقصف من الطيران الروسي، استهدف مواقعها في معمل غاز "كونيكو" شرقي دير الزور، وأدى إلى مقتل وجرح عدد من عناصرها. كما تم تسجيل حالات قصف متبادل مع قوات النظام السوري في مناطق عدة، خصوصاً على أطراف بلدة خشام فوقاني بالريف الشرقي، وفي حقل الجفرة النفطي.

ومن جهته، رأى المحلل الاستراتيجي، العميد أحمد رحال، أن التهديدات الإيرانية لا تتطابق مع الإجراءات على أرض الواقع، مشيراً إلى أن رئيس "مكتب الأمن الوطني" لدى النظام، علي مملوك، زار القامشلي في محافظة الحسكة ثلاث مرات الشهر الماضي، حيث اجتمع مع مسؤولي "حزب الاتحاد الديمقراطي" الذي يهيمن على القوات الكردية، وقدم لهم العديد من الإغراءات للتعاون بين الجانبين في المرحلة المقبلة. واعتبر أن التصريحات "النارية" من جانب مسؤولي النظام وإيران تأتي في إطار محاولة استيعاب الضغوط التي تمارسها واشنطن على نظام الأسد بالمحاسبة بشأن الكيميائي أو جرائم القتل، والتهديدات الأميركية لإيران بشأن الصاروخ الحوثي على السعودية. ورأى أن إيران تحاول توسيع دائرة المواجهة مع أميركا وتوسيع الجبهات بغية تحقيق مكاسب معينة، معرباً عن اعتقاده بأن إيران ونظام الاسد ليس لديهما القدرة على خوض معركة في الشرق، بينما هما يتلقيان الضربات في ريف حماة وأطراف دير الزور، وما كان باستطاعتهما الوصول إلى البوكمال لولا المساعدة التي تلقياها من "الحشد الشعبي" العراقي. واعتبر أن هذه التصريحات إعلامية ولها توظيف سياسي أكثر مما لها مدلول عسكري، لكن، من جهة أخرى، يمكن للأميركيين السماح بتقاسم السلطة بين الجانبين كما يحدث في الحسكة.

من جهتها، تسعى المليشيات الكردية إلى تقوية الوجود الأميركي في مناطقها، كي توفر لنفسها المزيد من الحماية في وجه المخاطر المحتملة خلال المرحلة المقبلة. وأعلنت، في هذا السياق، أن الولايات المتحدة بدأت إنشاء قاعدة عسكرية جديدة في مدينة الرقة، وذلك بعد استكمال قاعدتها العسكرية في مدينة الطبقة غرب الرقة في يونيو/حزيران الماضي. وقال مصدر في "قوات سورية الديمقراطية" إن الولايات المتحدة باتت تمتلك 10 قواعد عسكرية في المناطق التي تسيطر عليها تلك القوات شمال شرق سورية. ويرى مراقبون أن التصريحات الأخيرة لمسؤولي النظام تشير إلى أن النظام، الذي أعطى منذ البداية هامشاً كبيراً لمليشيات "حزب الاتحاد الديمقراطي" للتحرك والسيطرة على بعض المناطق، بينما كان هو مشغول بمحاربة فصائل المعارضة السورية، يعتقد اليوم أنه ما زال قادراً على التحكم بقواعد اللعبة وسحب ما أعطاه لتلك المليشيات في الوقت الذي يريد. غير أن المليشيات الكردية، خصوصاً بعد معركة كوباني (عين العرب)، بدأت بنسج علاقات أقوى مع الولايات المتحدة وروسيا، وبدأت تنظر إلى نفسها كلاعب مستقل، ليس من السهولة إخضاعه لمشيئة النظام، وهو ما يرجح حدوث مواجهات بين الجانبين في المرحلة المقبلة، قد تبقى منضبطة طالما هناك تفاهمات روسية – أميركية سارية المفعول.