جان بيار شوفنمان: نريد النهوض بـ"إسلام فرنسي المَوْطِن"

جان بيار شوفنمان: نريد النهوض بـ"إسلام فرنسي المَوْطِن"

26 أكتوبر 2017
العلمانية لدينا ليست موجهة ضد الأديان إطلاقاً (إريك فوجير/Getty)
+ الخط -
بالنسبة لرئيس "مؤسسة إسلام فرنسا"، جان بيار شوفنمان، فإن التكامل بين ما يسميه فرنسية الدولة، وفرنسية المسلمين فيها، ضرورية للمصالحة الذاتية بين المجتمع الفرنسي ومختلف مكوّناته الدينية والإثنية، وهو ما أظهره في مقابلة مع "أوريان 21"، التي تنشرها بالتزامن مع "العربي الجديد".

* بعد حوالي العام على إنشاء مؤسسة "إسلام فرنسا"، ما زال البعض يخلط بينها وبين المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. ما هو الفرق بين الاثنين؟

هناك فارق أساسي. فالمجلس هيئة تمثل الديانة كما تدل التسمية، وأنشئ عام 2003 على شكل جمعية خاضعة لقانون 1901، وذلك نتيجة مشاورات بين المسلمين في فرنسا، وكنت أول من دعا إليها عام 1999 بصفتي وزيراً للداخلية وشؤون الطوائف. غير أن الأمور اتخذت مساراً لم أكن أتوقعه، ما دفع بوزير الداخلية آنذاك نيكولا ساركوزي (رئيس فرنسا بين عامي 2007 و2012)، للتدخل في مسار الأمور، لأن الانتخابات التي تمت عام 2003 لم تسفر عن انتخاب رئيس يتفق عليه الجميع، بسبب التيارات المتنافسة. وسعياً منه للخروج من المأزق، قام الوزير ساركوزي الى حدٍّ ما بفرض عميد مسجد باريس دليل بوبكر، كأول رئيس للمجلس الناشئ. بعد ذلك، أدت الانتخابات التالية إلى منح الأغلبية لمرشح مغربي هو محمد موسوي، ما دفع ممثلي مسجد باريس إلى الانسحاب من الهيئة، وحذا حذوهم "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا". بالتالي فإن المجلس الذي كان يُؤمل منه أن يمثل الطائفة بأكملها لم يجد في حقيقة الأمر توازنه.

كما جرت الانتخابات الأخيرة عام 2012، وأسفرت عن وضع رئاسة دورية بين مندوبي الاتحادات الثلاثة الأساسية التي تمثل "بلدان المنشأ"، أي الجزائر، عبر مسجد باريس الكبير، والمغرب، عبر "الاتحاد الوطني لمسلمي فرنسا" (بيد أن هناك اتحاداً آخر يمثل المغرب أيضاً رغم كونه أقل نفوذاً وهو "تجمع مسلمي فرنسا")، والبلد الثالث تركيا، عبر "لجنة التنسيق بين المسلمين الأتراك في فرنسا" التابعة مباشرة لوزارة الشؤون الدينية في أنقرة. وبموجب هذه الرئاسة الدورية، تناوب على هذا المنصب كل من بوبكر مجدداً بين 2012 و2015، ثم أنور كبيباش بين 2015 و2017، والآن أحمد أوغراس. هذا في ما يتعلق بتمثيل الديانة الإسلامية، فوجود المجلس بحد ذاته يعتبر خطوة إلى الامام، أما تقييم إنجازاته فأمر لا يعود إليّ.

أما بالنسبة لـ"مؤسسة إسلام فرنسا"، فهي من أهم الأسس في البناء الذي صممه وزير الداخلية الفرنسي بين عامي 2014 و2016، برنار كازنوف، للنهوض بفكرة إسلام فرنسي المَوْطِن، طبقاً لمبدأ العلمانية الفاصل بين الشأن الديني والدنيوي. ولهذا السبب ارتأى الوزير أن يعهد إليّ بترؤس هذه المؤسسة، فهي مؤسسة دنيوية ليست لها رسالة دينية. والمؤسسة ليست إلا جزءاً من المشروع الكامل، لأن الركن الآخر، وهو الأهم، متمثل في تشكيل جمعية دينية تحت قانون 1905، الذي منحها إعفاءات ضريبية. وهذه الجمعية مُكلّفة بجمع الأموال وتنظيم طقوس الذبح الحلال، بموافقة السلطات الروحية وبمساعدة الدولة، على أن تكون هذه المهمة مقتصرة على هذه الجمعية الدينية دون سواها، وليس كما هي الحال عليه اليوم بعد أن باتت عملية الذبح الحلال في عهدة ثلاثة مساجد هي مسجد باريس الكبير ومسجد ليون ومسجد إيفري. ومن المرتقب أن يتمّ الاتفاق على صيغة بين هيئات الطائفة والدولة الفرنسية، على اعتبار أن الأخيرة مسؤولة عن الأمن والتوافق الوطني والصحة العامة.


مع العلم أن مؤسسة إسلام فرنسا أُنشئت في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2016، وانتخبت رئيساً لها من قِبل مجلس إدارتها، وأنا العضو الوحيد غير المسلم بين الشخصيات المؤهلة فيه. كما أن هناك مجلس إرشاد مؤلفاً من 30 شخصية مرموقة من الرجال والسيدات، من باحثين وأساتذة وقانونيين وناشطين في الميدان. هذا هو النظام المعتمد. والهدف من المؤسسة هو دنيوي، فنحن جمعية نفع عام، ذات رسالة ثقافية تربوية اجتماعية، وليست دينية.

* البعض يتصور أن المؤسسة تعنى بتأهيل أئمة المساجد في الدين والعقيدة أو بإعادة تفسير القرآن؟
أبداً. التأهيل الذي تتيحه المؤسسة لهؤلاء الأئمة هو تأهيل مدني بالشهادات الجامعية في مبادئ القانون ومقومات الجمهورية وما تعنيه العلمانية فعلاً، فالعلمانية لدينا ليست موجهة ضد الأديان إطلاقاً. والمؤسسة تقدم منحاً دراسية وتحاول الارتقاء بالمستوى الأكاديمي في فرنسا لما يسمى بالإسلامولوجيا (أي دراسات جامعية حول التاريخ والفكر الإسلامي والشرع والمجتمعات الإسلامية). لقد كان جاك بيرك، الذي غادرنا عام 1995 للأسف الشديد، معلماً وصديقاً مقرّباً لي، وكان شعلة متقدة، وهو من هداني إلى فكرة إسلام فرنسي المَوْطِن، يُدخل الطمأنينة إلى نفوس المسلمين الذين يعيشون في فرنسا وغالبيتهم من الفرنسيين. إسلام يتطور في سياق فرنسي غير متأثر بسياقات بلدان المنشأ. وبطبيعة الحال إن هذه البلدان صديقة وحليفة ولا بد أن يتم التفاوض معها في مناخ من الاحترام المتبادل في ما يتعلق بتكوين الأئمة ودفع أجورهم. لكن البناء المتكامل الذي صمّمه الوزير كازنوف ما زال مختل التوازن، فالجمعية الدينية التي كان من المفترض بها أن تمثل الركن الثاني لا بد أن تكون من اختصاص المسلمين وحدهم.


أما بما يتعلق بمؤسسة إسلام فرنسا فنظراً إلى تقدمي في السنّ فلن أخلّد في منصب الرئاسة طبعاً، وكل ما أطمح إليه هو وضعها على السكة فقط. وسيخْلفني في المنصب شخص آخر، علماً أن المؤسسة ستبقى علمانية ولن تكون طائفية. وستستمر بالعمل على إشاعة روح المودة المدنية عبر التعارف ما بين المواطنين المسلمين وغير المسلمين.

* هل يمكن القول إن هذه المؤسسة تتوجه إلى الفرنسيين جميعاً، وتعمل أيضاً على إبراز ما قدمته الحضارة العربية الإسلامية للغرب، ليشعر جميع الفرنسيين بالانتماء للرواية الوطنية نفسها؟
تماماً. إن هدف المؤسسة هو شرح كيفية تكوّن الحضارة الأوروبية، لا سيما الفرنسية بتفاعلها مع العالم الإسلامي. وهي عملية اتسمت أحياناً بالصراع ولكنها كذلك تميزت بالتبادل الكثيف على نحو يفوق تصوّر الجمهور، سواء في مجال اللغة أو التقاليد الاجتماعية أو العلوم أو الفنون أو الفلسفة أو المعارف كافة. فتاريخنا متشابك إلى حد بعيد. وإنني أتبنى تماماً مقولة جاك بيرك القائلة: "لا أريد أن أنظر إلى العربي نظرة المُستعمر التي تُصوّره بائساً. أريد أن أنظر إليه كما ينظر هو إلى نفسه، سيّد عريق، أمير فاتح، حتى لو دارت عليه الأيام، فما زال يحمل ذكرى حضاراته البراقة".

بالتالي، أعتقد أنه لا بد من إعادة الثقة إلى نفوس المواطنين المسلمين وسائر الفرنسيين، الذين يشعرون أحياناً بأن بلدهم يخرج من التاريخ. علينا أن نبعث الاعتزاز بالنفس على أساس المعرفة الحقيقية، ونعيد تقييم تاريخنا بشكل صحيح، بما يحويه من ثروات وآيات من الحضارة ندين لها بحاضرنا.


* ألا تعتقد أن عدم التطرق إلى تاريخ الحرب الجزائرية في الخطاب الفرنسي وإبقاءها دفينة اللاوعي يساهم في تعقيد العلاقة بالإسلام؟

ممكن، فالتاريخ يختزن ضروب المهانة والمعاناة التي يعيشها الطرفان، من حرب الغزو إلى حرب الاستقلال عاش الشعب الجزائري حالةً من العنف الشديد لا مثيل لها في تاريخ الإمبراطورية الفرنسية الغابرة. ففي المغرب كان الماريشال هوبير ليوتي قد راعى الملكية الشريفية والمجتمع المغربي، كما أن نظام الباي في تونس لم يُمسّ. أما في الجزائر فكانت هناك محاولة تحويل الجزائريين إلى فرنسيين، وهو أمر لا فائدة منه، فالشعب الجزائري واقع لا جدال فيه، بل واقع ساهمنا في تكوينه. الجزائر كما هي عليه اليوم، البلد الشاسع ذو الأوجه المختلفة، نتيجة لفترة الاستعمار. فقبل ذلك كان هنالك "داي" في الجزائر العاصمة، و"باي" في وهران، و"باي" في ولاية معسكر، وكانت أراضي الجنوب شبه مستقلة ذاتياً، كما كانت جبال الهُقار بعيدة كل البعد عن الجزائر العاصمة. وعَبْر نضاله من أجل الاستقلال رسّخ الشعب الجزائري وجوده.

ومن ناحية أخرى، فإن الفرنسيين الذين أقاموا في الجزائر لفترة قرن من الزمن شعروا أيضاً بالمعاناة، فبدا لهم أنهم فقدوا موطنهم. لا شك أننا أضعنا فرصة تشييد "أندلس جديدة"، حسب عبارة قد تليق بجاك بيرك. وما زلت أذكر كلمة أسقف وهران المؤثرة، المعبِّرة: "الصداقة بين فرنسا والجزائر صداقة جريحة، إلا أن الجروح التي ألحقناها ببعضنا البعض ليست جروحاً عادية. فهي من الجروح التي يستطيع الأصدقاء وحدهم أن يكبّدوها بعضهم بعضاً".

* هل لك أن تحدثنا عن ذكرياتك الشخصية عن الجزائر؟
استُدعيت للتجنيد الإجباري وكان عمري 22 عاماً، وكنت قد نجحت في امتحان دخول المدرسة الوطنية العليا لشؤون الإدارة دون تحضير، وبالتالي كانت فترة تدريبي العسكري أطول من فترة زملائي، وامتدت من يناير/ كانون الثاني 1961 إلى ديسمبر/ كانون الأول 1962. وبعد المدرسة الحربية، اخترت الشؤون الجزائرية، أي ما كان يسمى بـ"الأقسام الإدارية المتخصصة" وهي وريثة "المكاتب العربية" في الزمن الغابر، وكان مبرر اختياري هو التعايش مع السكان المسلمين. ولقد تم حل هذه الأقسام في نهاية شهر مارس/ آذار 1962، بعد اتفاقيات إيفيان التي مثّلت خاتمة الحرب في الجزائر. وطلبت حينها الالتحاق بالحاكم الإداري لمدينة وهران، وكنت مكلفاً بالعلاقة مع الجيش الفرنسي وكذلك مع جيش التحرير الوطني الجزائري. وكنت على قناعة تامة بضرورة استقلال الجزائر ومن المؤيدين لسياسة الجنرال شارل ديغول.


مع أنه لم يكن هناك إجماع لدى سائر الضباط الفرنسيين حول هذا الرأي. كان ذلك زمن منظمة الجيش السري المنشق، إلا أن الجيش الفرنسي في غالبيته بقي موالياً للجنرال ديغول. وبحكم عملي، كنت أول فرنسي (مع قنصل فرنسي آتٍ من يوكوهاما اليابانية) يلتقي بالزعيمين أحمد بن بيلا وهواري بومدين في تلمسان في 10 يوليو/ تموز 1962. وبقيت في الجزائر حتى نهاية عام 1962، عائداً إلى فرنسا. وفي عام 1963 رجعت إلى الجزائر في إطار التدريب الدولي الذي يخضع له كل الطلاب في المدرسة الوطنية العليا لشؤون الإدارة. وقد كانت هذه الفترة إلى حد بعيد أساسية في تكوين شخصيتي. كنت أشعر بتعاطف كبير مع الشعب الجزائري، ومع كفاحه العادل في نظري. إلا أنني كنت أعتقد، شأني شأن ديغول، وأسوةً بديغول طبعاً، أنه من الأفضل أن يتم استقلال الجزائر بالتعاون مع فرنسا وليس ضدها. وبالتالي كنت متواجداً في الفترة الأخيرة من "الجزائر الفرنسية"، في مواجهة منظمة الجيش السري، كي أساعد الجزائر على إنجاز الاستقلال.

* هناك تقرير صدر في أواخر شهر أغسطس/ آب، عن معهد برتيلسمان ستيفتونغ الألماني، حول التقدم الحاصل في اندماج المواطنين المسلمين في المجتمعات الأوروبية عموماً مع استمرار بعض حالات التمييز ضدهم في التوظيف، كما في فرنسا. ما رأيك؟
أعتقد أن سبل الاندماج تختلف بين ألمانيا وفرنسا. في ألمانيا، يتم هذا الاندماج عبر سوق العمل، والتدريب الحرفي. مع العلم أن معدلات البطالة أقل في ألمانيا، ثم أن النظام المدرسي يوجه الفتيان والفتيات باكراً، منذ سن الـ11، نحو مدارس "ريال شولن" التكميلية، ثم المدارس المهنية والتدريب المتناوب. وهو نظام أثبت فعاليته في الحقيقة في مجال التشغيل، بيد أنه من الصعب تطبيقه في فرنسا لاختلاف التقاليد بين البلدين. ففي فرنسا يتم توجيه التلاميذ في سن لاحقة (15 عاماً)، لأن طموح المدرسة هو تكوين المواطن. والمدرسة هي أفضل أداة للاندماج في المجتمع في بلدنا.


كما أنها تحقق نتائج لا بأس بها. وغالباً ما جرى التركيز على الإخفاق المدرسي ولكن هناك العديد من النجاحات، لا سيما في صفوف المواطنين المتحدرين من المهاجرين. أؤيد ما قامت به وزارة التربية من مضاعفة عدد الصفوف الدراسية في المناطق الحساسة، لأن نسبة الإخفاق مرتفعة، لاحتوائها عدداً أقلّ من التلاميذ. وهذه خطوة جيدة على طريق الحدّ من أوجه انعدام المساواة في المراحل الأولى. وهناك طبعاً مشكلة التشغيل، وهي متصلة بسياستنا الاقتصادية. ثمة بوادر انتعاش اقتصادي حالياً، راجياً نجاح السياسة التي بدأها الرئيس إيمانويل ماكرون على صعيد فرص العمل. إلى جانب ذلك، لا بدّ في اعتقادي من انتهاج سياسة متسمة بالعزم على التوظيف، بما يتناسب و"الصورة الحقيقية لكل أطياف المجتمع"، كما فعلت بنفسي عام 1999، عبر إنشاء "اللجان المحلية لتحقيق المواطنة".

* هل تؤيد تعليم تاريخ الأديان في المدارس الحكومية؟
هذا اقتراح أحد أصدقائي المقربين، ريجيس دوبريه، ولقد تم إدخال هذه المادة فعلاً في البرامج عام 2000. ولكن لا بدّ من الاعتراف بأن المُدرسين في فرنسا غير مُهيئين لتدريسها. بدا وكأن المسألة الدينية بحد ذاتها مستعصية على إدراكهم، بغضّ النظر عن التاريخ، فمن حق الإنسان أن يدين بعقيدة أو لا يدين، ولكن على المدرسة أن تكون قادرة على شرح أهمية وجود الدين بحد ذاته، وكذلك الروابط بين الديانات الثلاث الأساسية (اليهودية، والمسيحية، والإسلام) حتى لو كانت البوذية حالياً في طور نمو متعاظم في بلادنا. هذه الديانات التوحيدية التي رأت النور في الرقعة نفسها من الكون: فلسطين، ومصر، والحجاز. مع العلم أن الموروث الإغريقي كانت له أيضاً أهمية بالغة. ومن الملفت للنظر أن نرى منبع هذه الديانات الكبرى في شرق البحر الأبيض المتوسط. ولذلك من الأهمية بمكان حصول التعارف المتبادل بين أتباعها. كما أعتبر من الأهمية بمكان الفهم الصحيح للعلمانية، التي لا بد من تدريسها في وظيفتها التنويرية، فالعلمانية لا تُختصر بالـ"تسامح". قال الكونت دي ميرابو (أحد أعلام الثورة الفرنسية) يوماً، إن "السلطة التي تتسامح قادرة أيضاً على عدم التسامح"، إذاً فكلمة التسامح غير مفيدة المعنى. وليس محض صدفة أَن تكون كلمة "علمانية" واردة فقط في القوانين المتعلقة بالمدارس، وهي غير موجودة بتاتاً في قانون 1905 (قانون فصل الدين عن الدولة في فرنسا)، لأن وظيفة المدرسة هي في صنع المواطن، أي الرجل أو المرأة، القادران على إعمال الفكر المستقل، والمشاركة في تحديد النفع العام. ولا بد من تبديد سوء الفهم حول هذا الموضوع، لا سيما في أذهان الشعوب المسلمة، التي تخلط ما بينه وبين الإلحاد، ولا علاقة إطلاقاً بين هذا وذاك.


* وهو مفهوم لا يفسّر بشكله الصحيح في فرنسا أيضاً؟

علينا أن نفسره لكل الفرنسيين. والمؤسسة عاكفة على وضع موقع إنترنت سوف يصبح مجالاً رقمياً يقدم المعرفة حول شتى الثقافات والحضارات في الإسلام من ناحية، ومن ناحية أخرى حول العلمانية وكونها ليست موجهة ضد الأديان إطلاقاً. كل ما تعنيه العلمانية أن هناك مجالاً مشتركاً ما بين كل المواطنين، بغضّ النظر عن عقيدة كل منهم، فيمكنهم الاتفاق بشأن المصلحة العامة، وذلك عبر منطق العقل، وبرهان الفكر، فالفكر العقلاني مشترك بين البشر. كما علينا النهوض بمستوى المدرسة في فرنسا. إنني أضع ثقتي في وزارة التربية.

* هل تعتقد أن التزمّت الديني يكفي لتعليل ظاهرة الإرهاب؟
كلا. ولكن لا بد من التذكير بأن الإرهاب في صيغته التكفيرية يصيب المسلمين أنفسهم ملحِقاً بهم أكبر عدد من الضحايا، من جزائريين وعراقيين وأفغان وسوريين. فهم الذين يدفعون أعلى ضريبة لهذه الظاهرة. وفي أوروبا، طبعاً، هناك عوامل أخرى تتدخل في الموضوع، كحالات التمييز التي أشرت إليها آنفاً، وهناك الشعور المبالغ به أحياناً بالاضطهاد، ما يغذي حالة الإحباط التي تحفّز الإقدام على الفعل الإرهابي. من هنا أهمية المساعي لتحقيق العدالة الاجتماعية في بلدنا. ولكن علينا الاعتراف أيضاً بوجود أصولية دينية منذ زمن بعيد، فلا يغيب عن أذهاننا الفكر الحنبلي منذ القرن الميلادي التاسع، والوهابية منذ القرن الثامن عشر، وجماعة الإخوان المسلمين التي نشأت عام 1928 غداة سقوط الخلافة العثمانية. هذه حركات تأخذ بالتفسير الحرفي للدين، وترعرعت في المنطقة بصوت خافت في البداية. بالتالي فإن اجتياح أفغانستان على يد السوفييت (1979 ـ 1989) هو الذي استولد الجهاد الأفغاني، الذي سلّحته وساندته الولايات المتحدة آنذاك. إلا أن هذا الجهاد لم يكن فقط جهاداً مشروعاً ضد المعتدي الخارجي، إنما كان أيضاً عبارة عن تطرف ظلامي حول قضايا المجتمع في أفغانستان، تصارعت بشأنها قوى مُنفتحة على العصر وقوى متشبثة بالماضي.



وإنني حريص على إصدار حكم متوازن دقيق على هذا الموضوع، فلقد كان سبباً في ظهور القاعدة والظاهرة الجهادية الكونية التي أعلنها أسامة بن لادن بعد حرب الخليج الأولى (1990 ـ 1991)، تلك الحرب التي قال عنها صامويل هنتنغتون إنها الحرب الحضارية الأولى، وهو الأمر الذي أدركته شخصياً حينذاك، وبنيت موقفي عليه وتحمّلت مسؤولياتي. ولا أعتقد أن العديد من السياسيين كانوا على هذا الخط وقتها. وبعد ذلك واجهنا ظاهرة القاعدة ثم داعش إثر حرب الخليج الثانية في 2003 وتدمير الدولة العراقية من قبل الأميركيين. أما حركات العصيان التي شهدتها الولايات الغربية في العراق لصالح القاعدة، فقد كانت ضريبة التعامل مع هذه الولايات ليس من قبل الأميركيين فحسب بل من قبل حكومة بغداد، التي تمادت في السلوك الطائفي الفئوي، والإعدامات الجماعية. لا بد للفرنسيين أن يفهموا بشكل أفضل ما يحصل في الشرق الأوسط.

* إذاً التدخل الخارجي عامل زعزعة للاستقرار يساهم في ظهور الإرهاب؟
هذا أمر مؤكد. كان يمكن تفادي حرب الخليج الأولى. كان أمراً في متناول اليد تماماً. في أكتوبر/ تشرين الأول 1990، كان صدام حسين مستعداً للانسحاب من الكويت، لو حلت مكان القوات العراقية قوات عربية مشتركة. إلا أن الأميركيين كانوا عازمين منذ اليوم الأول، أي في 2 أغسطس/ آب من العام عينه، على المواجهة المسلحة مع العراق، وذلك لأنهم كانوا يريدون الاستغناء عن الشرطي المحلي الذي كانوا يعتمدون عليه في الماضي، مثل حلف بغداد أو الملكية الهاشمية العراقيّة، أو شاه إيران وبعد ذلك صدام حسين، إلا أنهم اعتبروا من الصعب التعويل عليه. فسعوا لتوطين قواتهم في المنطقة، ولا سيما في السعودية، وهي فكرة غير مُوفّقة صراحةً، فقد دفعت بشكل كبير باتجاه قيام تنظيم القاعدة على يد أسامة بن لادن. كما أرست أميركا في قطر مقراً لقواتها العسكرية. مما لا شك فيه أن التدخل الأميركي أدى دوراً فعلياً في نمو الإرهاب الذي يُزعم أنه "جهادي". ولكن هناك أيضاً عوامل لا يمكن التقليل من شأنها. لا يمكن إلقاء المسؤولية كاملة على الأميركيين أو الغربيين. فالنزعة التكفيرية لها جذور قديمة في المنطقة، ولقد جرى إحياؤها من جديد.



* خلال إحدى مقابلاتك الصحافية أشرتَ إلى "استراتيجية الهيمنة" عبر "سياسة الفوضى"، وذكرت مثالاً على ذلك حرب 1967؟
لقد حرمت حرب 1967 الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير، بما يعني إنشاء دولة، لو قرروا ذلك. ولقد كنت أول من أدخل عام 1972 إلى برنامج الحزب الاشتراكي الفرنسي فكرة حق الفلسطينيين في تقرير المصير وبالتالي حقهم بإقامة دولتهم. ولقد كان هذا موقف فرنسا الرسمي الثابت منذ عام 1967 أساساً. ينتقد البعض فرنسا باستمرار. إلا أن فرنسا هي البلد الوحيد الذي حافظ على سياسة عادلة منذ 1967. فالجميع يذكر موقف الجنرال ديغول الشديد عام 1967، والذي عاد على فرنسا بالكثير من العداوات. ثم حافظ على السياسة نفسها كل رؤساء الجمهورية من بعده. فمن إعلان البندقية في عهد فاليري جيسكار ديستان، إلى خطاب فرنسوا ميتران أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 (الذي أشار فيه إلى حق الفلسطينيين بدولة)، إلى مساعدة فرنسا على إخراج ياسر عرفات من مدينة طرابلس اللبنانية، ثم استقباله في باريس والانتقادات اللاذعة التي لحقت بميتران وألقت بظلالها الثقيلة على بقية عهده. أعتقد أن هذا الخط ما زال حاضراً، ولو بشكل ضعيف أكثر من اللازم في نظري، فلا يمكن تشييد حل سلمي على "ازدواجية المعايير".

كما تطورت ظاهرة "سياسة الفوضى" مع حرب العراق. إن الشرق الأوسط منطقة بالغة التعقيد: ثمة دول نشأت في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، اكتسبت واقعاً ملموساً طورته مثلاً من موروث عاصمتي الأمويين والعباسيين العريق كسورية والعراق. وما أسميه سياسة الفوضى، هو إرادة تحطيم هذه الدول، وتفتيتها إلى كيانات صغرى، عرقية أو طائفية إن أمكن. على سبيل المثال هناك من ينادي باستقلال كردستان العراق، ولكن هؤلاء لا يدركون أن المشكلة الكردية قد تسمم المنطقة لثلاثين سنةً مقبلة من الحروب، فبلدان مثل تركيا لن تقبل بتقطيع أوصالها، وسورية سوف تقاوم المشروع، وإيران ليست مستعدة للموافقة على قيام كردستان إيرانية. وبالتالي فإن السلام الدولي يقضي بالحفاظ على التوازن الذي بُني عليه العراق. فهذا البلد يتضمن أكثريةً شيعية ضيقة نسبياً، وأقليتين كبيرتين نسبياً، عربية وسنية. فلا بد من صون التوازن القائم. أنا لست ضد الاستقلال الذاتي الداخلي لكردستان، بل أؤيده، ضمن فيديرالية تسمح بإعادة توزيع الثروات النفطية بين الفرقاء الثلاثة الذين كوّنوا العراق. والأمر نفسه ينسحب على سورية. والفرنسيون أدرى القوم بذلك بما أنهم مارسوا انتداباً على سورية، فكيف يُعقل تقسيمها إلى كيانات صغرى، من أكراد، ودروز، وعلويين، وأين يوضع المسيحيون، هل يوضعون حول دمشق، وعددهم لا بأس به فهم يشكلون 10 في المائة من السكان؟ ثم هناك السنّة وهم الأغلبية، ولا أحد يمكنه إنكار ذلك، وقد يتحالفون مع سنّة العراق. وهذا بالضبط ما كان يسعى إليه داعش. وها أن البعض، من أشباه المستشرقين، الأقزام مقارنةً بالعملاق جاك بيرك، يسعون اليوم باسم انتقادهم لاتفاقيات سايكس بيكو، إلى تحطيم هذه الدول ذات الجذور القديمة. هذا ما أسميه استراتيجية الهيمنة عبر الفوضى. ويتعيّن على فرنسا بالأحرى أن تدافع دوماً عن مبدأ المواطنة الذي يرقى فوق الاختلافات العرقية والدينية.


* ما هي الرسالة التي توجهونها اليوم للشباب الفرنسي المسلم؟

رسالة بسيطة جداً: لهم الحق في ممارسة دينهم، لهم الحق تماماً في أن يكونوا مسلمين، لهم الحق في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا، فالجمهورية الفرنسية تضع حرية المعتقد فوق كل اعتبار، في سلّم القيم. هؤلاء الشباب مواطنون فرنسيون. مستقبلهم في فرنسا. ولا بد لكل الناس ذوي النوايا الحسنة والاستعدادات الطيبة، وهم أولهم، أن يضعوا يداً في يد، ويصنعوا فرنسا المستقبل، التي يمكن أن يكونوا نخبة لامعة فيها، إن أرادوا ذلك فعلاً وإن أحسنّا توجيههم. علينا أن نجعل فرنسا تلحق بركب القرن الحادي والعشرين، وذلك بالتعاون الوثيق مع البلدان الصديقة والحليفة، بلدان المغرب والمشرق وأفريقيا، التي نبني معها علاقات جديدة على أساس المساواة والاحترام المتبادل، ومشروع حضارة مشتركة بيننا.

يُنشر الحوار بالتعاون مع مجلة أوريان 21 http://orientxxi.info



دلالات

المساهمون