يوميات صنعاء زمن الحرب: مواجهة الجهل تسابق محاربة الموت

يوميات صنعاء زمن الحرب: مواجهة الجهل تسابق محاربة الموت

18 أكتوبر 2017
الحياة في صنعاء باتت صعبة (محمد حويس/فرانس برس)
+ الخط -


لطالما تعايشت صنعاء مع أزماتها، إلا أن طول أمد الحرب الحالية من دون آفاق واضحة للسلام، جعل الأمر مختلفاً وبالغ الصعوبة؛ فالمدينة ليست ذات طابع عسكري، إذ إنها محمية بسلسلة جبلية من جميع الجهات، ومن يسيطر على تلك الجبال تصبح المدينة في قبضته عملياً. بالتالي فإن الطوق القبلي لها قد يكون ساحة لأية معركة بشأنها وليست المدينة ذاتها، وهذا ما جعلها أكثر اهتماماً بتفاصيل الحياة اليومية أكثر من ترقب معركة عسكرية.

في هذا السياق، شهدت صنعاء اشتباكات محدودة في الأحياء الشمالية الغربية عند دخول الحوثيين إليها (سبتمبر/ أيلول 2014)، وسبقتها اشتباكات محدودة أيضاً عام 2011 بين الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح ومناهضيه من أسرة الأحمر في حي الحصبة. كما تعرضت لقصف صاروخي في حرب صيف 1994، وربما كان آخر صراع شهدته هو ما عرف بأحداث أغسطس/ آب 1968 بين جناحي الجمهوريين يومها، ولكنه استمر فقط لمدة يومين في مؤسسات عسكرية أكثر من الشوارع. ومثّل الحصار المعروف بحصار السبعين يوماً من أواخر عام 1967 حتى فبراير/ شباط 1968، واحداً من أقسى تجاربها، بعد الاجتياح القبلي والنهب الموسع الذي شهدته عند إباحتها من قبل الإمام أحمد حميد الدين لمقاتليه من القبائل، في عام 1948.

هذا العهد البعيد للمدينة بالحرب المباشرة وتنوّع سكانها المتحدرين من كل مناطق اليمن، جعلها أكثر ميلاً للسلام والتعايش. ورغم موجة إعادة الفرز والتصنيف والاستقطاب التي شهدها اليمن في الحرب الراهنة على أسس مناطقية وطائفية ومذهبية، فقد استطاعت صنعاء أكثر من غيرها التحكم في هذه الموجة من اللاتعايش. ولأنها لم تتحول إلى جبهة قتال مباشر، فإنها احتفظت بنجاح بأكبر قدر من السلم الاجتماعي، خصوصاً بعد أن برهنت أطروحات أطراف الصراع على أنها غير منطقية غالباً في إطار تصنيف المجتمع (مع وضد)، بل إنها أداة لتحقيق أهداف سياسية بأغلفة مختلفة. وقد مثّل هذا الوضع تطوراً ملحوظاً في وعي سكانها عن أغسطس 1968، التي شهدت فرزاً عنصرياً مناطقياً مثّل شرخاً في نسيج مجتمع شمالي اليمن حينها، وانجرّ وراءه السكان من دون وعي عندما تصارعت أجنحة النظام بين القوميين الأقرب لمصر والتقليديين الموالين للسعودية.



صنعاء التي لم تعد تقابل فيها أي وجه أجنبي، ومطارها مغلق منذ أغسطس 2016، وشهدت كغيرها من المناطق انتشار وباء الكوليرا بما شكّله من رعب لسكانها، لا زالت قادرة على التأقلم وابتلاع أي طارئ على ثقافتها قدر الإمكان. فعلى عكس الشائع عنها بأنها مركز للمناطق القبلية والمسلحة، فإن محيطها القبلي، وإن فرض عليها بعض سلوكياته، لم ينجح في جرها إلى طريقته في الحياة.

ورغم سيطرة الحوثيين عليها منذ سبتمبر/ أيلول 2014، فإنها لم تتحول إلى مركز مثالي لهيمنتهم المجتمعية رغم سيطرتهم الرسمية على السلطة. وشهدت "مجالس القات الصنعاني" جدلاً سياسياً مرتفعاً شمل مختلف الانتماءات، فشخصيات حوثية ومؤتمرية رفيعة قادرة على تبادل الانتقادات اللاذعة مع شخصيات من حزب الإصلاح في أي فعالية مدنية. وعلى الرغم من حدوث موجات من الاعتقالات ضد مناهضي الجماعة، لكنه أيضاً لم يمنع إضراب المعلمين المطالبين برواتبهم في أكتوبر/ تشرين الأول الحالي الذي كان يفترض أن يشهد عودة الطلاب إلى المدارس، لولا الإضراب الشامل بعد توقف المرتبات منذ عام كامل.

صحيح أن كل الخدمات العامة الأساسية شبه متوقفة أو متوقفة كلياً منذ بداية الحرب، إلا أن البدائل التي لجأ إليها السكان أو من استطاع منهم، حافظت على قدر معين من الاستقرار، كاللجوء إلى الطاقة الشمسية لتوفير التيار الكهربائي، وإلى سيارات المياه لتزويد المنازل بالمياه، لكن الأمر لم يكن سهلاً بالنسبة لتوفير فرص التعليم في مجتمع فقير لا يستطيع إلا القلة من أبنائه الحصول على فرصة تعليم أهلي.

إن الخطر الأكبر بالنسبة لسكان صنعاء حالياً ليس التحالف العربي ولا السعودية ولا شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، التي أثبتت فشلها في مناطق سيطرتها جنوباً، بشكل أدى إلى تراجع كبير في شعبيتها، فنشوب صراع بين طرفي التحالف المسيطر عليها (الحوثي وصالح) هو الخطر الأساسي بالنسبة للسكان، فيراقبون طبيعة علاقة الحليفين بدقة وبشكل مستمر.

قبل عامين فقط، كانت صنعاء مدينة طاردة لسكانها نزح منها الآلاف مع اشتداد قصف التحالف العربي بقيادة السعودية على كثير من أحيائها بما فيها المناطق والمنازل السكنية. أما اليوم فقد انعكست وجهة النزوح، ومع عودة من نزح من صنعاء إلى حياتهم فيها، اشتعلت المعارك في مناطق أخرى ما جعلها منطقة مثالية للسكن ووجهة للنازحين من مختلف مناطق اليمن.



بدوره، كشف مسؤول رفيع المستوى من حزب المؤتمر الشعبي العام، لـ"العربي الجديد"، أن "سكان صنعاء قد تضاعفوا خلال العامين الأخيرين. ورغم عدم وجود إحصائيات بهذا الشأن، إلا أن البحث عن منازل وشقق للإيجار في صنعاء يمنحك مؤشرات قوية بارتفاع عدد السكان الذين قدموا إليها من خارجها، فبعد أن كان المؤجرون يبحثون عن سكان لمنازلهم الفارغة بنصف الإيجار المعلوم بداية الحرب، أصبحوا الآن يشددون شروطهم على المستأجر بشكل غير مسبوق".

ومثال على ذلك، فقد طلب محمد سعد (مالك عقار سكني)، من خالد (الباحث عن شقة ليسكن مع أسرته)، ضمانة تجارية لسداد أية متأخرات محتملة من الإيجارات الشهرية، إضافة إلى إيجار شهر كامل كتأمين على سلامة الشقة، فتعهّد خالد بدفع الإيجار مطلع كل شهر من دون تأخير. هذه الشروط الصعبة لم يكن أحد يسمعها من قبل إلا في الأحياء الراقية والعمارات السكنية الفخمة، ومن دون ضمانة وتعهّد بل كان يُكتفى بطلب التأمين بمبلغ مالي معين. لكن منذ انقطاع الرواتب عن الموظفين الحكوميين قبل عام كامل ونشوب خلافات مستمرة بين المستأجرين منهم والمؤجرين (المُلّاك) أصبح الموظف الحكومي يعيش على الدوام هم الإيجار إلى جانب نفقات أسرته المعيشية.

كانت السلطات الحاكمة في صنعاء قد اتخذت إجراءات قوية لضمان عدم طرد الموظفين بسبب تأخرهم في دفع الإيجارات. لكن القبضة تراخت أخيراً بعد طول مدة انقطاع الرواتب من دون حلول، ولم تُبذل جهود ملموسة للحل سواء من قبلها أو من قبل سلطات الرئيس هادي، التي تكتفي بدفع رواتب الموظفين في مناطق سيطرتها وبشكل غير منتظم.



من الأسئلة المطروحة من قبل المالك، من دون أي مقدمات أخرى: هل أنت موظف حكومي؟ فإذا كانت إجابتك بنعم، فإن حصولك على شقة للسكن أمر غير وارد. أما إن كانت إجابتك بالنفي، فإن السؤال التالي يكون: من أين أنت؟ وهذا السؤال الوقائي من المالك ناتج عن استقواء بعض أبناء المناطق القبلية المشهورة بحمل السلاح، أو المنتمين إلى جماعات مسلحة ذات نفوذ على المستأجرين في حال تراكم الإيجارات الشهرية عليهم من دون سداد، ليضطر كثير من الملّاك إلى إعفائهم من متأخرات الإيجارات في مقابل إخلاء الشقة المؤجرة.

وعندما أصبحت العاصمة صنعاء بؤرة استقطاب للنازحين من مناطق أخرى تعد جبهات قتال مشتعلة وغير آمنة للمدنيين، وجد الملّاك فرصتهم لفرض شروطهم نتيجة توفر المستأجرين البدلاء للموظفين في القطاع العام وهم أغلب المستأجرين، باعتبارهم من ذوي الدخل المنخفض. ورغم تسامح بعضهم وصبرهم على المستأجرين لعام كامل، إلا أن بعضهم استخدم العنف المباشر ضد المستأجرين لإرغامهم على الدفع أو الحصول على بعض ممتلكاتهم الثمينة بدلاً من النقود.

وقد أدى ذلك إلى إشكالات، حين قام مالك إحدى العمارات بسحب سلاحه في وجه أحد المستأجرين طالباً منه تسليم الإيجار في تلك اللحظة بلا تأخير، فقامت والدة المستأجر بإعطائه قرطيها الذهبيين لتفرج عن ولدها. مع العلم أن ثمن القرطين أكثر مرتين من المبلغ المستحق، فقد رفض المالك إعادتهما لاحقاً لبيعهما وتسديده، وادعى أنه قام ببيعهما بنفسه، ولأن الأسرة الفقيرة غير قادرة على مقاضاته لاسترداد ثروتها الوحيدة (القرطين) ولا على مجابهته المباشرة، فقد فرض الرجل إرادته عليها من دون عواقب.

وكما أن النازحين شكّلوا حلاً للملاك، ومثلّوا ضيفاً غير مرغوب فيه بالنسبة للمستأجرين لما تسببوا به من رفع معدلات الإيجارات الشهرية وطريقة الحصول على سكن، فإن عملية الإنشاءات والبناء في صنعاء شهدت طفرة جديدة خاصة في مناطق الأطراف، بعد توقفها منذ بداية الحرب بشكل شبه كلي. وساعدت على هذه الطفرة تجارة السوق السوداء والإثراء السريع والفساد، وتزايد الطلب على المساكن بتزايد النازحين إلى المدينة.

من جانب آخر، ومع توقف المرتبات وإضراب المعلمين عن العمل نتيجة ذلك، فقد أصبح تدبير مدرسة لأبنائك مسألة بالغة الصعوبة. وبينما توجه آلاف الطلاب إلى مدارس التعليم الأهلي (الخاص) مطلع أكتوبر/ تشرين الأول، فإن نحو 4.5 ملايين طالب في التعليم العام في المناطق التي تقع تحت سيطرة الحوثيين – صالح، ينتظرون نتيجة المفاوضات بين سلطات صنعاء ونقابة المهن التعليمية التي أعلنت الإضراب الشامل حتى تسليم رواتب المعلمين، ليس في صنعاء وحدها وإنما في كل المحافظات التي تقع تحت سيطرة صنعاء، وهي الأكثر كثافة سكانية من المناطق الواقعة تحت سلطة هادي وحكومته، ويسكنها قرابة 80% من سكان اليمن.

كما أن توقف الرواتب عن موظفي القطاع العام قد دفع بالكثير من منتسبيه لممارسة أعمال يدوية قاسية، فإن الجزء الأهم من المشهد هو حرمان ملايين التلاميذ من التعليم رغم كل الجدل الدائر حول العملية التعليمية ذاتها، وهذه القضية هي الهم الأول لصنعاء وسكانها اليوم، فمواجهة الجهل في الغرف المدرسية لا تقل أهمية عن مواجهة الموت وجهاً لوجه في الحرب الراهنة.