السودان بعد إلغاء العقوبات: تحالفات جديدة وتطبيع مع إسرائيل؟

السودان بعد إلغاء العقوبات: تحالفات جديدة وتطبيع مع إسرائيل؟

11 أكتوبر 2017
تظاهرة تضامنية مع غزة بالخرطوم عام 2014(أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -
للمرة الأولى في تاريخ النظام الحالي في السودان، يتعانق العلمان الوطني والأميركي في سماء الخرطوم، وذلك ليلة إعلان قرار رفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد المفروضة منذ أكثر من عشرين عاماً. جاءت الخطوة الأميركية تتويجاً لعملية حوار سرية بين البلدين امتدت لأكثر من عام ونصف العام اتفقا خلالها على خمسة مسارات وفق ما هو معلن، تتصل بإيصال المساعدات الإنسانية لمناطق النزاع في السودان، وإحداث تسوية سياسية داخلية وإنهاء الحرب، فضلاً عن التزام الخرطوم بالإسهام في استقرار دولتي ليبيا وجنوب السودان والكف عن دعم الأطراف المتنازعة فيهما، فضلاً عن مكافحة الإرهاب وتجارة البشر وطرد "جيش الرب" من الأراضي السودانية.

لكن مراقبين يرون أن ثمة مسارات سرية أخرى شكلت أساس القرار الأميركي لرفع العقوبات لم يفصح عنها الجانبان، تتصل بدور استخباراتي عسكري للسودان فيما يتصل بمكافحة الإرهاب، لا سيما في ظل التعاون الاستخباراتي اللامحدود الذي قدمته الخرطوم لواشنطن خلال الفترة الماضية فيما يتصل بتنظيمات "داعش" والقاعدة" وغيرها من التنظيمات الإرهابية. ويذكر البعض عناصر أخرى مرتبطة بالقرار الأميركي مثل تعيين قنصل عسكري أميركي وآخر سوداني في البلدين، إلى جانب مشاركة الخرطوم ضمن فعاليات مؤتمر "الأفريكوم" لأول مرة، وما يثار عن اتجاه أميركي لإنشاء قواعد عسكرية في السودان لمحاربة الإرهاب. ويأتي رفع العقوبات كخطوة أولى ينتظر أن يتبعها خطوات أخرى وصولاً لسحب اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب. لكن وزير الخارجية إبراهيم غندور، نفى وجود صفقات أو إملاءات خارجية وراء رفع العقوبات، وأكد أن ما تم محصور في حدود المسارات الخمسة التي جرى التفاوض عليها.

وقالت مصادر لـ"العربي الجديد" إن هناك اتفاقاً سودانياً-أميركياً للبدء فوراً في تنفيذ خارطة طريق جديدة تحكم وتضبط التعاون بين البلدين وتمثل انطلاقة لحوار حول رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب. وأكدت المصادر أن الخارطة المذكورة تشتمل على بنود صعبة، تلزم الخرطوم بوضع المصالح الأميركية وأولوياتها في الاعتبار، فضلاً عن اشتمالها لمطالب داخلية تتصل بسجل حقوق الإنسان ووقف الحرب في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور وإطلاق الحريات عامة لا سيما الصحافية والدينية منها.

لم يأت القرار الأميركي برفع العقوبات الاقتصادية، خالياً من الرقابة والتقييم والتهديد، إذ حمل محاذير للحكومة السودانية جعلت الباب موارباً للعودة لنقطة العقوبات، فضلاً عن ممارسة مزيد من الضغط في حال تراجعت الخرطوم عما أحرزته من تقدم في المسارات المتفق عليها، أو في حال سجلت انتهاكات في ملف حقوق الإنسان والحريات.


ويرسم مراقبون صورة قاتمة للخطوة الأميركية الخاصة برفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد، ورأوا أنها تحصيل حاصل ولن تقود لأي تغيير في الوضع الاقتصادي العام، كما أنها لن تنعكس إيجاباً أو سلباً على المواطن السوداني، بالنظر لبقاء البلاد في لائحة الإرهاب، لناحية ثلاثة قوانين: قانون إدارة الصادرات، وقانون تصدير الأسلحة وقانون المساعدات الخارجية، باعتبارها تحد من قروض البنك الدولي وتمنع إعفاء السلع المصدرة من الدول المصنفة إرهابية من الرسوم الجمركية، فضلاً عن سلطة منع أي مواطن أميركي من القيام بمعاملة مالية مع حكومة مدرجة في القائمة الإرهابية من دون ترخيص مسبق من وزارة الخزانة الأميركية. ويدرك السودانيون أن هذه القيود ستحرم البلاد من أية ميزات في ما يتصل بالمساعدات الخارجية وإعفاء الديون وعمليات التصدير والاستثمار في مجال النفط بالذات، إلى جانب تقييد حركة الأموال من الولايات المتحدة وإليها بسبب القوانين الخاصة بلائحة الإرهاب.

غير أن آخرين رسموا صورة وردية على اعتبار أن الخطوة من شأنها أن تنعش اقتصاد السودان وتفتح الباب للاستثمارات وتدعم الجنيه السوداني مقابل العملات الصعبة وتسهم في دمج اقتصاد البلاد في الاقتصاد الدولي. وكان الدولار الأميركي قد تراجع قبيل إعلان قرار رفع العقوبات من 21.5 إلى نحو 18 جنيهاً، لكنه سرعان ما عادت قيمته وصعدت خلال يومين فقط، ليصل إلى 19.5 جنيهاً للدولار الواحد.

ويعتقد محللون أن خطوة رفع العقوبات والحوار السوداني-الأميركي من شأنهما أن يقودا لتغييرات في سياسة البلاد الداخلية والخارجية، وأن تولد عنهما تحالفات جديدة بالنسبة للخرطوم. ويرى هؤلاء أن تغييرات كبيرة ستتم على المستوى الداخلي يتنازل عبرها النظام عن كثير من الشعارات التي ظل يرفعها منذ وصوله الحكم عام 1989، في ظل توقعات بأن يكون الإسلاميون داخل وخارج البلاد هم من سيدفع الثمن لهذه التحالفات السودانية الجديدة في الداخل والخارج. ويرجح محللون أن تذهب الخرطوم خطوات في ما يتصل بالتطبيع مع إسرائيل، وإنْ كان بشكل غير مباشر، بدليل إثارة ملف التطبيع خلال الفترة الماضية بصورة مكثفة كـ"بالون اختبار".

عملياً، منعت السلطات في الخرطوم أخيراً، تنظيمات إسلامية بينها أحزاب مشاركة في الحكومة من إقامة صلاة الغائب على روح المرشد الأسبق لـ"الإخوان المسلمين" في مصر، مهدي عاكف. واحتج حزب "المؤتمر الشعبي" أخيراً، على التنازلات التي قدمها النظام لواشنطن مقابل رفع الحصار، وأبدى تخوفه من أن يكون ثمنها إبعاد الإسلاميين عن السلطة والمشهد السياسي عموماً.

وتشير تصريحات لقيادات في الحزب الحاكم بوضوح، إلى تغيير في خطاب الحزب ليتخذ صيغة تصالحية ويتناغم مع دعوات المجتمع الدولي في محاربة الإرهاب والاتجار بالبشر، فضلاً عن ابتعاده تماماً عن النبرة الدينية والأيديولوجية والتركيز في التعاطي مع المجتمع الدولي، في ظل اعتراف قيادات حزبية بتعميم أوامر على أعضاء الحزب الحاكم لإيقاف استخدام الشعارات المعادية لواشنطن. كما لم تبد بعض تلك القيادات في تصريحات علنية تناقلتها وسائل إعلام سودانية، مانعاً في التعاطي مع إسرائيل "وفقاً لمصالح البلاد". وقال نائب الأمانة العدلية الشيخ النزير الطيب، في تصريح نقلته صحيفة "الجريدة" السودانية، إنه "في السابق كانت المبادئ تتحكم فينا، لكن الآن نتحدث عكس ذلك". وأضاف أنه "في إطار التعامل التجاري، إذا كنت مضطراً، فلا مانع من أن تبحث عن مصلحتك"، وفق تعبيره. وعلى الرغم من أنه شدد على عدم وجود اتجاه للتطبيع مع إسرائيل باعتبارها "محتلة لدولة مسلمة"، عاد ليعتبر في حديثه أن "التيار الشيعي هو الأخطر وليس إسرائيل"، على حد قوله.

ويرى المحلل السياسي ماهر أبو الجوخ، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن رفع العقوبات يشير إلى "تحول السودان الكامل من معسكر الممانعة الذي كان يمثل أحد أقطابه إلى جانب إيران وسورية، وانتقاله للمعسكر الآخر، بما يرتب تغيرات في السياسة الداخلية وفي المواقف الإقليمية والدولية". وأوضح أنه "قبل التحول، كان السودان يؤدي دور المشاغب، فدعم المجموعات المناهضة لأنظمة عربية، وكان لديه اتصال وتنسيق مع إيران وحركة حماس وحزب الله، ومع التحول الجديد سيتوقف عن دعم وتبني تلك المجموعات، خاصةً أن تمسكه بها في أوقات سابقة كان للضغط والمراوغة لإيفاء واشنطن بالتزاماتها تجاهه"، على حد قول المحلل.

وفي ما يتعلق بإسرائيل، يرى أبو الجوخ أن كل ما ترغب فيه تل أبيب من الخرطوم حصلت عليه بقطع علاقاتها مع طهران والحد من إيصال السلاح لحركة حماس. وأشار إلى أن "إسرائيل ما تطلبه من الخرطوم هو ألا تتخذ موقفاً عدائياً تجاهها"، وهو ما فعلته الخرطوم وزادت عليه بتصريحات وزير خارجيتها ووزراء آخرين حول عدم وجود مانع في تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال.

بدوره، يرى رئيس "حركة الإصلاح الآن"، غازي صلاح الدين، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن قرار رفع العقوبات يحتاج لقرارات أخرى ليصبح مؤثراً على الحالة الاقتصادية في السودان، بينها سحب اسم هذا البلد من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ويرجّح أن يدفع الحوار الأميركي-السوداني بقائمة جديدة تحكم وتضبط التعاون بينهما، تتطلب الالتفات إلى الداخل وتعزيز الوحدة الداخلية وإحالة الحوار الوطني الذي تم أخيراً في البلاد، إلى مشروع سياسي ملموس بما في ذلك تكثيف الاتصالات مع القوى المختلفة لوقف الحرب. ويستبعد أن يهدد التقارب السوداني-الأميركي، تيار الإسلاميين، كما يستبعد تماماً أن تتجه الحكومة للتطبيع مع إسرائيل، بحسب قوله.

ويعترف وزير المالية السوداني، محمد عثمان الركابي، بأن انفراج الأوضاع الاقتصادية في السودان يتطلب إجراءات عديدة لإعادة التعاون مع المجتمع الدولي، لافتاً إلى أن خطوة رفع العقوبات لن يظهر أثرها سريعاً على الناس. بدوره، يذكّر الخبير السياسي، الطيب زين العابدين، بأن رفع العقوبات كان سارياً فعلياً بالنظر لتجميدها لتسعة أشهر لكن "أوضاع الاقتصاد السوداني لم تسمح بالاستفادة من ذلك لأن المشكلة الأكبر تكمن في السياسة الاقتصادية للبلاد". كما اتفق مع الرأي القائل بأن بقاء وجود السودان في قائمة الإرهاب الأميركية سيمنع عنه الاستثمار الأميركي في مجال النفط، باعتباره محظوراً بموجب قانون سلام دارفور ومحاسبة السودان.

المساهمون