3 سنوات على دستور تونس: تنفيذ دون المأمول

3 سنوات على دستور تونس: تنفيذ دون المأمول

26 يناير 2017
حرب المصالح أبقت قانون الانتخابات البلدية رهينة البرلمان(ياسين جعيدي/الأناضول)
+ الخط -

مرت ثلاث سنوات على إصدار دستور الجمهورية التونسية الثانية، غير أن غالبية بنوده لم تجد طريقها بعد إلى التنفيذ، بل إن ما يناهز نصف بنوده مهجورة والنصف الآخر من أحكامه ما زالت حبراً على ورق، لم تر النور بعد. ورفض مكتب البرلمان التونسي تنظيم احتفالية في 27 يناير/كانون الثاني الحالي لمناسبة مرور 3 سنوات على إصدار الدستور، ما أثار جدلاً كبيراً بين نواب حركة "النهضة"، المتمسكين بإجراء حفل يليق بهذا المنجز، ونواب "نداء تونس" و"الوطني الحر" و"آفاق تونس" وأحزاب أخرى ترى أن الأمر لا يستدعي الاحتفال في ظل تأزم الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وحالات الاحتقان التي تعيشها البلاد.

واتهم عضو مكتب البرلمان القيادي في حركة "النهضة"، الصحبي عتيق، في تصريح لـ"العربي الجديد"، من سماهم أطرافاً سياسية لا ترغب في إعطاء الاعتبار للدستور الجديد بالوقوف وراء إلغاء هذا الاحتفال، في محاولة لتقزيم هذا الحدث التاريخي، مشيراً إلى غياب الإرادة السياسية لهذه الأطراف للاحتفاء بالدستور. ويعكس هذا الخلاف علاقة جماعية متوترة بالدستور أدت إلى تعطيل مضامينه، وعدم توفير آليات ليتم تطبيقه. وللتذكير، فقد صاغ المجلس الوطني التأسيسي، وهو أول برلمان إثر الثورة، دستوراً جديداً، تمت المصادقة عليه وختمه بصفة رسمية في 27 يناير 2014، في لحظات فارقة من تاريخ البلاد. ويُحسب لتونس نجاح الانتقال السلمي للحكم، عقب الأزمة الحادة التي عاشتها في 2013، بفضل حوار وطني جمع غالبية الطيف السياسي في انتخابات حرة ونزيهة أفرزت برلماناً جديداً انبثقت عنه حكومة الحبيب الصيد. كما انتخب الشعب بصفة مباشرة الباجي قائد السبسي أول رئيس للجمهورية الثانية. وأثنى العالم على تونس، وتوّج هذه التجربة في العام 2015 بجائزة نوبل للسلام، في اعتراف أممي بنجاح النموذج التونسي. ويعد الدستور الجديد ميزة هذا النجاح وعصب الحياة في النظام الديمقراطي، والعقد الذي يربط الشعب بالسلطة والحكام الجدد.

وهلّل التونسيون لدستورهم الجديد الذي نص على مبادئ القطع مع الاستبداد وحماية الحقوق والحريات والكرامة الوطنية، وعلى ترسيخ نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية، السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات وتكريس التوازن بينها. وبعيداً عن التباهي بهذا الإنجاز، يؤكد خبراء القانون أن جل بنود الدستور التونسي بقيت حبراً على ورق، وما زالت أحكامه حبيسة لم تطبق على أرض الواقع بعد، وسط مشهد سياسي مرتبك ووضع اجتماعي متأزم يخفي صراع الصلاحيات بين السلطات المؤسسة لنظام الحكم الجديد وشرخاً عميقاً بين الحساسيات الحزبية والأطراف الاجتماعية.

وأرجع أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيد، في تصريح لـ"العربي الجديد"، تعطل تفعيل الدستور إلى ما يعرفه المشهد الوطني من تجاذبات، تستبطن، بأشكال مختلفة، سعي قوى نافذة، سياسياً ومدنياً، إلى حيازة أكبر تمثيل ممكن لها في الهيئات وعلى مستوى السلطات والمسؤوليات. ويرى أن الإرادة السياسية، التي تم التعبير عنها على مستوى الخطاب السياسي في أكثر من مناسبة، لا تتبعها إرادة سياسية حقيقية على مستوى التفعيل.
ويتحمل البرلمان نصيب الأسد في ضياع حلقات الدستور، وتشاركه فيها السلطة التنفيذية برأسيها، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فيما يمكن تلخيص المطبات في ستة محاور، هي "الكرامة المنشودة"، و"اللامركزية المفقودة"، و"العدالة الاجتماعية المعدومة"، و"الحقوق والحريات المهدورة"، و"الهيئات الدستورية المعلقة"، و"الهيئات القضائية المعطلة".

وبالنسبة "للكرامة المنشودة"، التي ثار التونسيون من أجلها وأسقطوا الديكتاتورية في سبيل استعادتها، خصص الدستور آليات وبنود تكريسها، لكنها لم تفعّل، في خرق فاضح للدستور الجديد. غير أن أم الخروق، هي التنصيص الواضح في بند صريح على إدراج كلمة "الكرامة" التي تمسك بإدراجها النواب المؤسسون في شعار الجمهورية التونسية، ليصبح من 4 كلمات رمزية، هي "حرية، كرامة، عدالة، نظام". غير أن الشعار المعتمد في الوزارات وجميع مؤسسات الدولة لا يزال نفس الشعار السابق الذي انطلق العمل به زمن الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة في ستينات القرن الماضي، وهو مستلهم من روح دستور العام 1959. وعن "اللامركزية المفقودة"، فقد فشلت الدولة التونسية، بجميع مؤسساتها، فشلاً ذريعاً بعد ثلاث سنوات من التأسيس لمبادئ المركزية في الدستور، إذ تم تخصيص باب كامل يشرع للحكم المحلي ويكسر حواجز السلطة المركزية. زد عليه حرب المصالح التي أبقت قانون الانتخابات البلدية رهينة تحت قبة البرلمان لأشهر عدة، ما سيؤخر إجراء هذه الانتخابات إلى العام المقبل في أحسن الأحوال، وهو ما سيعود بالوبال على مصالح المواطن، خصوصاً في المناطق غير الحضرية التي تعيش تحت عتبة الفقر والتهميش.

وبالنسبة إلى "العدالة الاجتماعية" فهي، وعلى الرغم من مرور 3 سنوات على دسترتها وتعد من بين أهم مطالب الثائرين على نظام الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، بل ربما هي السبب الأول لاندلاع شرارة الثورة، ما زالت إلى اليوم مجرد شعارات يرفعها السياسيون في الحملات الانتخابية، فيذكّرون بدور الدولة في ضمان العدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات، وحق المناطق المهمشة في التمييز الإيجابي، وضرورة ترشيد استغلال الثروات وحق الجهات الفقيرة في أن يكون لها نصيب منها. وبرغم أن الدستور خص "الحقوق والحريات المهدورة" بعشرات البنود، فإن الاعتداءات والانتهاكات تتواصل من دون حسيب، رغم وجود الرقيب وهو الشعب والإعلام والمجتمع المدني، الذين يردون على ذلك برفع بنود الدستور مع الشعارات. وما يزيد الطين بلة أن هناك تشريعات غير مطابقة لهذه القيم والمبادئ المنصوص عليها في الدستور، في حين أن الأطراف الثلاثة المسؤولة عن تنقيح هذه التشريعات وتعديلها بما يلائم الوضع الدستوري الجديد تتحرك ببطء شديد.

وعن "الهيئات القضائية المعطلة"، يمكن اختزال الأمر بأزمة المجلس الأعلى للقضاء، الذي من المفترض أن يسهر على استقلال القضاء ويكرس نزاهته ويضمن إقامة العدل، وسيادة القانون وإعلاء الدستور. وباحتدام أزمته تعطل إرساء المحكمة الدستورية أيضاً، لارتباط أحدهما بالآخر. ويختص المجلس والمحكمة الدستورية بتكريس مفهوم دولة القانون، ومنع تدخل السلطة التنفيذية في القضاء، والقطع مع تطويع مبادئ الدستور لمصالح شخصية وحزبية ضيقة. لكن، وبسبب تواصل الأزمة، تبقى العدالة من دون حراس ويبقى النص الدستوري سجين المصالح الضيقة. وعن "الهيئات الدستورية المعلقة"، نذكر ما خصه الدستور الجديد في جزء هام منه، إذ نص على إحداث خمس هيئات دستورية مستقلة، هي الهيئة العليا للانتخابات، وهيئة الاتصال السمعي البصري، وهيئة حقوق الإنسان، وهيئة التنمية المستدامة والأجيال المقبلة، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد. لكن الواقع أنه لا يوجد حالياً سوى هيئة الانتخابات، والبقية تنتظر. ويرى مراقبون أن تأخر تفعيل بنود الدستور، مرده إلى التجاذبات السياسية والحزبية من جهة وتنازع الصلاحيات بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، خصوصاً وأن النظام البرلماني المعدل ما زال حديث العهد، فيما مكونات المجتمع ما تزال تعيش على وقع النظام الرئاسي الذي يسيطر على الخيال المجتمعي، الأمر الذي دفع عديد الأصوات لتنادي بتعديل الدستور وإعطاء رئاسة الدولة صلاحيات أكبر. ويرى آخرون أن تنوع تركيبة البرلمان والاختلافات الفكرية والسياسية داخله (يضم نحو 20 حزباً)، تقف وراء تعطل المصادقة على التشريعات المطابقة للدستور.

المساهمون