أستانة كمقر للمحادثات السورية: المعاني والرسائل من الحديقة الروسية

أستانة كمقر للمحادثات السورية: المعاني والرسائل من الحديقة الروسية

23 يناير 2017
أستانة معروفة بأبراجها وأصبحت العاصمة عام 1997(كيريل كودريافتسيف/فرانس برس)
+ الخط -

أغلب الظن ألا يكون اختيار عاصمة دولة كازاخستان، أستانة، من قبل القطبين الروسي والتركي، لاستضافة المحادثات السورية، التي تبدأ اليوم الإثنين، مجرد قرار وقع بالصدفة، ذلك أنه يختزل مجموعة من المعاني الضمنية والمباشرة والرموز التي تجسد الظروف الدولية ــ الإقليمية التي تجري في ظلها الاجتماعات، وذلك لمجموعة من الأسباب التي يمكن اختصارها بالتالي: يترجم اختيار أستانة نقل مركز الثقل في التأثير على الملف السوري على الأقل، من الغرب الأوروبي (جنيف وفيينا...) إلى منطقة النفوذ الروسية ــ التركية، نظراً لأن كازاخستان دولة سوفياتية سابقاً، حيث لا يزال النفوذ الروسي قوياً للغاية، وهي دولة تجمعها علاقات ممتازة مع عرابي اجتماعات أستانة، أي روسيا وتركيا، لا بل أنها أدت دوراً في المصالحة بين موسكو وأنقرة بعد إسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود السورية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2015. هذا في المعنى المباشر. أما في ما يتعلق بالعناصر الأخرى المتصلة بعاصمة المحادثات السورية، فإن أستانة قريبة جغرافياً من تركيا ومن الشرق الأوسط، لكنها تدور سياسياً في الفلك الروسي، وهي مدينة ترغب، منذ أصبحت عاصمة لكازاخستان بدل ألما آتا عام 1997، بأن تقدم نفسها للعالم على أنها مقر حوار الحضارات والمكونات القومية والثقافية، نظراً إلى أنها مدينة تعيش فيها عشرات القوميات والإثنيات والأديان.

وبالفعل، نجحت كازاخستان في تحقيق نموذج مقبول للتعايش السلمي بين أكثر من مئة قومية، خلافاً لما عليه الحال في باقي الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي، ولم يقتل أي شخص في كازاخستان خلال سنوات الاستقلال نتيجة لصراعات عرقية. ومنذ تأسيسها، استضافت المدينة اجتماعات دولية عدة تهدف إلى نشر السلام والأمن في العالم منها مؤتمر "من أجل عالم خال من السلاح النووي" ومؤتمر زعماء الأديان العالمية والتقليدية الذي يعقد منذ عام 2003، ما جعلها تستحوذ على لقب "مدينة السلام" الذي منحته لها منظمة اليونيسكو. وباتت تعرف اليوم على الخريطة العالمية بوصفها مركزاً للحوار بين الديانات المختلفة.

غير أنه يحلو لكثيرين الإضاءة على جزئية سياسية أخرى تتعلق بكازاخستان ومفارقة استضافتها للمحادثات السورية، وهي خاصة بطبيعة نظامها السياسي الشبيه، نسبياً، بالنظام السوري، بما أن الرجل القوي في كازاخستان، الرئيس نورسلطان نزارباييف، الساعي إلى توريث ابنته السلطة، يُعتبر آخر الحكام من العهد السوفييتي، (يحكم منذ 1989 مفوضاً عن الحزب الشيوعي). ونزارباييف نفسه يشبه حكام آل الأسد بما أنه فائز في آخر دورة انتخابية بـ91 في المئة من الأصوات. كما يعتبر نظامه أحد أكثر الأنظمة غير الديمقراطية وتصنف بلاده في ذيل لوائح احترام حقوق الإنسان والفساد. وفي مؤشر إلى طبيعة نظرة روسيا إلى جارتها كازاخستان، يتساءل الرئيس فلاديمير بوتين عام 2014، عن "شرعية" جمهورية كازاخستان، داعياً الكازاخ للتصرف "بشكل حسن" في ما يتعلق بالمصالح الروسية. وقال في ذلك التصريح: "لم يكن هناك أبداً بلد يُدعى كازاخستان، فتلك الجمهورية هي منتج صافٍ للرئيس نزارباييف".

 
ولعل تلميحات بوتين هذه التي تشير إلى أطماع روسية بإعادة ضم كازاخستان، هي الهاجس الأكبر الذي يتحكم بعلاقات نزارباييف الخارجية، وهو ما دفعه للانضمام إلى "الاتحاد الأوراسي"، مع روسيا وبيلاروسيا عام 2014، أثناء خروج أوكرانيا من عباءة الكرملين. ومع ذلك، أكد في خطاب وجّهه لمواطنيه، المتظاهرين في أستانة وآلما آتا، ضد النفوذ الروسي المتصاعد: "استقلالنا هو الكنز الأثمن الذي قاتل أجدادنا للحصول عليه. وقبل كل شيء، لن نسلمه لأحد، وثانياً سنفعل ما في وسعنا لحمايته".

وسبقت كلامَ بوتين حملةٌ منظمةٌ في روسيا، تطالب بأجزاء من كازاخستان، خصوصاً الحدودية الشمالية، كأراضٍ روسية. وتعيش غالبية روسية، في تلك التخوم الحدودية الصناعية، ما دفع إلى تعليق لوحات عملاقة تحمل اسم كازاخستان، لتذكير الجالية الروسية، التي تشكل خُمس سكان البلاد، بأنهم لا يعيشون في روسيا. ويدرك نزارباييف أنه إذا كان الغرب دعم نوعاً ما أوكرانيا ودول البلطيق، في مواجهة المد الروسي، فإن ذلك لا ينطبق على كازاخستان التي ينظر إليها الغرب كنظام ديكتاتوري، لا يراعي حقوق الإنسان وتغيب عنه المؤسسات الديمقراطية، ولعلها بهذا المعنى، المكان الأقرب لطبيعة الصراع في سورية، وطبيعة المتصارعين.

وتعتبر كازاخستان تاسع أكبر دولة في العالم من حيث المساحة التي تصل إلى 2.7 مليون كيلومتر مربع، بعدد سكان لا يتجاوز 17 مليون نسمة، ينحدرون من نحو 100 قومية، ويتحدثون بشكل أساسي اللغتين الكازاخية والروسية، ونحو 70 بالمائة من سكان البلاد مسلمون. أما العاصمة أستانة، فهي أحد مراكز حوار الأديان في العالم. ويعيش فيها أكثر من 10 قوميات على رأسها الكازاخ ثم الروس والأوكران والألمان والأوزبك. تقع أستانة وسط البلاد على نهر إيشيم الذي يجري في السهول الشمالية الوسطى من البلاد، في منطقة السهوب شبه القاحلة التي تغطي معظم أرجاء البلاد. وتبلغ مساحتها 722 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها أقل من مليون، وهي من بين أكثر العواصم برودة في العالم، ومعروفة بأبراجها المرتفعة.

بدأت أستانة عام 1810 كقاعدة عسكرية للجيش الروسي، وسرعان ما ازدهرت وأصبحت مدينة، وعرفت باسم أكمولنسك. وفي خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت كازاخستان إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي، اختارت الحكومة المنطقة التي تقع فيها أكمولنسك لإقامة مشروع الأراضي العذراء، وهو مشروع للتنمية الزراعية. وفي عام 1961، أطلق عليها اسم "تسلينوغراد" الذي يعني مدينة الأراضي العذراء. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، أصبحت كازاخستان دولة مستقلة، واتخذت المدينة اسمها الكزخي أكمولا. وفي سنة 1997، تم نقل العاصمة من ألمآتا إلى أكمولا. وفي 1998، أطلق على أكمولا اسم أستانة، وتعني العاصمة في اللغة الكازاخية.