إمبراطورية الجيش المصري... افتعال الأزمات لضمان السيطرة

إمبراطورية الجيش المصري... افتعال الأزمات لضمان السيطرة

08 سبتمبر 2016
نظام السيسي يمنح الجيش امتيازات غير مسبوقة(مؤمن فابز/Getty)
+ الخط -
كشف تدخل الجيش المصري في أزمة ألبان الأطفال قبل بضعة أيام، عن كيفية سيطرة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد، اعتماداً على افتعال أزمات "وهمية"، وليس التدخل لحل المشكلات. وحصلت المؤسسة العسكرية على امتيازات كبيرة عقب وصول رئيس النظام الحالي، عبدالفتاح السيسي، إلى الحكم قبل ما يزيد عن عامين، عقب انقلاب عسكري على الرئيس المعزول، محمد مرسي، في 3 يوليو/ تموز 2013.

وأتاح السيسي من خلال سلسلة من القرارات للجيش المصري بالهيمنة على النشاط الاقتصادي تماماً من خلال امتيازات تنفيذ أو الإشراف على مشاريع كبرى، على رأسها مشروع توسيع قناة السويس. وخلافاً لما كان يردده مؤيدو النظام الحالي، أن تدخل المؤسسة العسكرية ليس للسيطرة على الوضع الاقتصادي بقدر ما هي محاولات لحل الأزمات المتلاحقة، لكن أزمة ألبان الأطفال تمثل حالة يمكن القياس عليها في كيفية افتعال الأزمات لتسهيل سيطرة الجيش على الاقتصاد، بحسب مراقبين.

افتعال أزمات
وتعتبر أزمة ألبان الأطفال، من المؤشرات على خطة المؤسسة العسكرية للسيطرة على مختلف الأنشطة الاقتصادية، لا سيما في ظل الصلاحيات والامتيازات التي تحصل عليها. وهناك مؤشرات تؤكد وجود نية مبيّتة لدى الجيش لاستيراد لبن الأطفال، وكان هناك تمهيد لها منذ العام الماضي.

بداية الأزمة "المفتعلة" كانت قبل عام تقريباً، حين نشرت الشركة المصرية لتجارة الأدوية (مملوكة من الدولة)، استغاثة إلى السيسي عبر إحدى الصحف الورقية، في 20 سبتمبر/ أيلول 2015، وناشدت التدخل بعد سحب وزارة الصحة استيراد وتوزيع الألبان منها وإسناده إلى جهة سيادية. ولم تتحفّظ الشركة بشكل واضح على هذا الأمر، لكنها اعتبرت أن الخطورة تكمن في تولي شركات القطاع الخاص عملية التوزيع، لا سيما أن ذلك سيؤدي إلى أزمة في الشركة التي يعمل بها نحو 5 آلاف عامل.

في 27 يوليو/ تموز الماضي، عبّرت المؤسسة العسكرية بشكل واضح وصريح خلال لقاء عدد من النواب، عن تدخلها على خط استيراد لبن الأطفال. وقال عضو لجنة الدفاع والأمن القومي، النائب أحمد العوضي، إن القوات المسلحة قررت استيراد كميات كبيرة من زيت الطعام ولبن الأطفال، لتوفير المتطلبات والسلع الأساسية للمواطن المصري، إسهاماً منها في تخفيف الأعباء عن الحكومة ومحاربة الغلاء. وأضاف أن القوات المسلحة تسعى لبناء مصانع إنتاج السلع الاستراتيجية مثل الإسمنت، واستكمال مشاريع الأمن الغذائي، وبيع منتجات اللحوم والدواجن للمواطنين بأسعار مخفضة.

حديث العوضي يؤكد وجود نية سابقة بل وإجراءات للسيطرة على سوق ألبان الأطفال في مصر. وبعد ساعات قليلة من الأزمة التي ضربت هذه المادة الاستهلاكية الأساسية، والتي دفعت العديد من الأسر والأمهات للتظاهر أمام الشركة المصرية لتوزيع الألبان المدعّمة، أعلن وزير الصحة الدكتور أحمد عماد، عن ضخّ المؤسسة العسكرية 30 مليون عبوة لبن أطفال على الصيدليات، ولكن بسعر 30 جنيهاً للعبوة بدلا من 60 جنيهاً، وهو ما نفاه المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة.


وتستفيد المؤسسة العسكرية من استيراد الألبان، لعدم تحملها أي رسوم أو جمارك على أي سلع تستوردها، بما يحقق مكاسب كبيرة للغاية في استيراد لبن الأطفال، بحسب مراقبين. ويقول الخبير السياسي، محمد عز، إن أزمة لبن الأطفال تكشف وجود مخططات للمؤسسة العسكرية، بافتعال أزمات لضمان التدخل في أي نشاط اقتصادي تريده. ويضيف عز، لـ"العربي الجديد"، أن هذه الأزمة كشفت عن سياسات الجيش الاقتصادية، مشيراً إلى أنه في وقائع سابقة لم يكن يعلم أحد كيف تدار الأزمة في الخفاء والتمهيد لها، مشدداً على أن هذا الأمر يحصل بالتأكيد بالتنسيق الكامل مع المؤسسات أو الوزارة المسؤولة. ويلفت إلى أن أي مؤسسة أو وزارة لا تستطيع الاعتراض على أي شيء يخص الجيش، باعتباره السلطة الأعلى والأكبر في البلاد حالياً. ويحذر من زيادة توغل الجيش والسيطرة على الوضع الاقتصادي في مصر، لأنه ليس مؤسسة اقتصادية بالأساس، وبالتالي يفتح مجالاً واسعاً من الانتقادات والنيل من المؤسسة بشكل عام وليس مجرد أشخاص، بما يقلل من قيمة ومكانة الجيش لدى الشارع المصري، وفق قول عز.

ويشدد المتحدث المصري على أن أسوأ ما في الأمر يتمثل في أن الاتفاق الذي تم مع وزارة الصحة من أجل افتعال أزمة أدت لنقص الألبان في السوق وهددت الأمن الغذائي للرضّع، وصولاً إلى الغاية النهائية المتمثلة بعقد صفقة اقتصادية. وحاول بيان المتحدث العسكري العميد محمد سمير، امتصاص حالة الغضب، ونفى ضخ 30 مليون عبوة لبن أطفال، ولكنه لم ينفِ التدخل في الاستثمار في هذا القطاع. إذ أكد استيراد عبوات بالتنسيق مع وزارة الصحة بدءاً من 15 سبتمبر/ أيلول الجاري. ويؤكد بيان المتحدث العسكري ما ذكره وزير الدفاع، صدقي صبحي، خلال لقائه مع عدد من النواب في شهر يوليو/ تموز الماضي.

"إسقاط" الجيش؟
وسادت حالة من الغضب لدى قطاعات واسعة من الشعب المصري ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، عقب تدخل الجيش على خط الأزمة، وسط اتهامات له بافتعال الأزمة لتحقيق صفقة اقتصادية. هذا الهجوم استدعى تدخل وزير الصحة، أحمد عماد، للتأكيد على أن الهجوم على الجيش حول أزمة لبن الأطفال، هدفه إسقاط المؤسسة العسكرية. وقال عماد، في مداخلة متلفزة، إن القطاع الخاص يحق له استيراد ألبان الأطفال وبيعها بالسعر الرسمي، موضحاً أن القوات المسلحة قررت استيراد الألبان لتخفيض الأسعار.

تصريحات وزير الصحة، تثير تساؤلات كثيرة، إذ إن العبوات التي طرحها الجيش تزيد عن السعر المحدد من قبل الوزارة، وهي زادت بمقدار الضعف تقريباً. ويؤكد حديث عماد وجود اتفاق مسبق بين الوزارة والمؤسسة العسكرية، حول استيراد ألبان الأطفال، أي كانت هناك نية مبيتة انعكست من خلال إجراءات الوزارة السابقة بمنع مناقصة استيراد وتوزيع الألبان، تمهيداً لتكليف الجيش بهذا الملف.

ولم تتوقف مزاعم مؤيدي النظام الحالي وبعض النواب والإعلاميين حول وجود مخططات لإسقاط المؤسسة العسكرية، بعد حملة سخرية واسعة من قيادات الجيش التي تركت المهام الأساسية وهي حماية الحدود والاهتمام بالتسليح إلى السيطرة على الاقتصاد المصري. وانطلقت "كتائب" الدفاع عن النظام الحالي من شخصيات سياسية وبعض الإعلاميين المقربين من أطراف بمؤسسة الرئاسة، في الدفاع عن الجيش وتدخله في الحياة العامة والسيطرة على الاقتصاد. ولم تتطرق تلك "الكتائب" إلى الأزمة المفتعلة في ذاتها، ولكنها ذهبت إلى الهجوم على كل من انتقد ضخ الجيش لـ30 مليون عبوة ألبان أطفال، وحملة السخرية من هذه السياسة المتبعة.


وذهب فريق من المقربين من النظام الحالي إلى الحديث عن إنتاج الجيش الأميركي لبعض المنتجات الغذائية. لكن سرعان ما أتى رد المعترضين بسرعة عبر التساؤل: "هل يسمح بمراجعة ميزانية الجيش المصري مثل نظيره الأميركي؟ وهل يراقب مجلس النواب المصري تلك الميزانية مثلما يفعل الكونغرس الأميركي؟"، في إشارة إلى غياب الشفافية واحتمال وجود عمليات فساد وهدر للمال العام في مصر، في ظل تعطيل آليات المراقبة والمحاسبة.

ويشدد خبير في مركز "الأهرام" على أن أحاديث "مخططات إسقاط الجيش" باتت ادعاءات مستهلكة لم تعد تجدي نفعاً، مع معرفة الشعب نوايا هذا النظام. ويقول الخبير لـ"العربي الجديد"، إن ربط رفض سياسات الجيش بالسعي لإسقاط المؤسسة العسكرية، محاولة ترهيب فاشلة، لأن رقعة الغضب اتسعت لتشمل قطاعاً واسعاً، فلا يمكن هنا الحديث عن وجود فئة تحاول إسقاط الجيش، وإلا فإن هناك رغبة جماعية في الأمر، بحسب تعبيره. ويذهب إلى أن هناك تعمداً لتحميل الحكومة الفشل لتحويل كل شيء باتجاه المؤسسة العسكرية لإدارة الملف الاقتصادي بأكمله، متسائلاً: "لو الحكومة فاشلة والكل يعرف ذلك، لماذا لا يتم تغييرها؟". ويضيف أن الذي سيتسبب في إسقاط المؤسسة العسكرية هم القيادات الحالية والرئيس السيسي، من خلال إدخال الجيش في الشأن العام والتدخل في الأزمات، وهو أمر سيزيد من الانتقادات له ويجعله يحتك بالمواطن العادي. ويشير إلى أن العمل العام يترتب عليه الثناء على النجاحات وانتقاد الإخفاقات، وهو ما سيتعرض له الجيش وبشكل متزايد خلال الفترة المقبلة، لا سيما أنه يتصدر المشهد، لافتاً إلى أنه إذا لم يتم حل الأزمات سيكون الجيش المسؤول الأول، وهو أمر في غاية الخطورة، وفق وصفه.

مبارك والسيسي
ويتابع الخبير في مركز الأهرام، أن هناك فارقاً كبيراً بين وضع المؤسسة العسكرية بين عهدي حسني مبارك والسيسي، مؤكداً أن الأخير توسع في توغل الجيش في الحياة العامة والاقتصادية. ويوضح أن مبارك كان يمنح امتيازات للمؤسسة العسكرية، مثل منح الجيش لأراضي ومزارع وإنشاء مصانع وغيرها من المشاريع. أما السيسي فأسهم في سيطرة الجيش على الاقتصاد ومنحه امتيازات غير مسبوقة، بحسب الخبير نفسه. ويؤكد أن الجيش بدأ يدخل في استثمارات بالمليارات ولا أحد يعلم أين تذهب تلك الأموال، في ظل عدم وجود رقابة حقيقية على ميزانية وزارة الدفاع، كما أن تلك الامتيازات تكشف اعتماد السيسي على أهل الثقة، لأنه من خلفية عسكرية، على حد قوله.

وكانت مصادر من داخل المؤسسة العسكرية قد أبدت ضيقاً شديداً من تكليف السيسي للجيش بالتدخل في كل الأزمات ومحاولة حلها، بما يشكل عبئاً عليه. وتكشف المصادر ذاتها، في حديث سابق لـ"العربي الجديد"، عن وجود حالة من التململ داخل المؤسسة العسكرية جراء إقحام الجيش في أزمات وأوضاع لا دخل له فيها.

وفي السياق ذاته، تسببت رغبة السيسي في هيمنة الجيش على الاقتصاد، في وجود أزمة مكتومة بينه وبين رجال الأعمال، الذين يرفضون هذه السطوة من المؤسسة العسكرية. وكانت جهات سيادية طلبت من رجال الأعمال ضخ مزيد من الاستثمارات في البلاد، اعتماداً على أموالهم بالدولار في مصارف خارج مصر، إلا أنهم رفضوا الأمر، مطالبين بوقف سيطرة الجيش على الاقتصاد.

امتيازات غير مسبوقة
وقبل أيام من أزمة ألبان الأطفال، التي شكلت ذريعة لدخول المؤسسة العسكرية على خط استيراد هذه الألبان، حصل الجيش على حق الإشراف على مطاعم المدن الجامعية لجامعة القاهرة. ومنح السيسي عبر قرارات عديدة وضعاً خاصاً للمؤسسة العسكرية. فأوكل إلى الهيئة الهندسية الإشراف على حفر تفريعة قناة السويس قبل ما يزيد عن عام. وفي 9 يونيو/ حزيران الماضي، أصدر السيسي قراراً بتخصيص الأراضي الصحراوية بعمق كيلومترين على جانبي 21 طريقاً جديداً، يتم إنشاؤها وإصلاحها حالياً، لصالح وزارة الدفاع، على أن تعتبر مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية لا يجوز تملّكها. ولا ينفصل هذا القرار عن احتكار الجيش لإنشاء الطرق الجديدة، ومن ثم فرض رسوم إضافية على السيارات، فضلاً عن أزمات تتعلق بعدم إعطاء المقاولين، الذين يعملون في تلك المشاريع أموالهم، على الرغم من الوعود المتكررة بهذا الشأن.

ويعتبر قرار السيسي الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 2015 حول إمكانية تأسيس الجيش شركات برأسمال وطني أو بالشراكة مع رأس مال أجنبي، حجر الأساس في هيمنة المؤسسة العسكرية والتدخل في الاستثمار في كل القطاعات على اختلافها. وفي فبراير/ شباط الماضي، خصص السيسي أراضي جنوب طريق القاهرة ــ السويس لصالح جهاز أراضي القوات المسلحة، لإقامة العاصمة الإدارية الجديدة. وفي يوليو/ تموز 2015، أصدر السيسي قراراً يجيز للجيش المصري والشرطة تأسيس شركات حراسة خاصة، فضلاً عن الموافقة على تأسيس أول مدرسة للغات في السويس، وهي "بدر الدولية"، والتابعة للمؤسسة العسكرية في 2013.

وصدر قرار من المجلس اﻷعلى للجامعات بوقف جميع المناقصات العامة والمزايدات على الأدوية والمستلزمات الطبية، لشرائها من إدارة الخدمات الطبية التابعة للقوات المسلحة. وتوسّع الجيش المصري في بيع المنتجات الغذائية بشكل كبير من خلال سيارات تابعة له في الشوارع، في إطار ما أعلن عنه السيسي لتدخل القوات المسلحة لضبط الأسعار، وإن كانت ليست مسؤوليته.