إسقاط فيتو "جاستا"... مخاوف من ارتدادات انتهاك "الحصانة السيادية"

إسقاط فيتو "جاستا"... مخاوف من ارتدادات انتهاك "الحصانة السيادية"

30 سبتمبر 2016
لوّح الجبير بسحب السعودية استثماراتها من أميركا (Getty)
+ الخط -

يصعب في الوقت الحالي، التنبؤ الدقيق بتداعيات تحدّي الكونغرس الأميركي لـ"فيتو" الرئيس، باراك أوباما، ضد قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" أو "جاستا"، فما زالت تطبيقات القانون القضائية أميركياً، وعلاقة القضاء المحلي بالفيدرالي، غامضة بعض الشيء، بحسب مراقبين. لكن ما يبدو جلياً، هو أن القانون يمسّ بمبدأ "الحصانة السيادية" للدول، الذي يعني أن لإقرار "جاستا" تداعيات مؤكدة على العلاقات الدولية.

يقوم قانون الحصانة السيادية الأميركي، الذي أُقرّ أميركياً في عام 1976، على مبدأ "المعاملة بالمثل"، ويرتبط بإحدى الخصائص الأساسية للدول، أي أنها "ذات سيادة"، وبالتي لا يحقّ للجهاز القضائي في أي دولة أن يقوم بمحاكمة دولة أخرى. وإذا حدث هذا، فسيؤدي إلى أمرين: الطعن في سيادة الدولة التي تتم محاكمتها، ما يعني فتح المجال أمام مشكلات دبلوماسية وسياسية معقدة. والأمر الآخر هو أن تقوم الدولة التي بادرت بإجراء المحاكمات، بإعطاء مبرر للدول المتضررة بأن تقوم باتخاذ خطوات قانونية مماثلة ضدها.

وهذه النقطة الأخيرة، هي التي ركّز عليها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في الصفحات الثلاث التي قدمها إلى الكونغرس الأميركي، ليبرر استخدامه حق النقض "فيتو" ضد قانون "جاستا". إذ أكد على تأثيراته السلبية على القانون الدولي، وتعريضه المصالح الأميركية للخطر، علاوة على تأثيراته على علاقة الولايات المتحدة بحلفائها. الأمر نفسه الذي أكده مراره، رئيس الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه"، جون برينان، وآخرها في التأكيد على إضرار القانون بالمصالح الأميركية، بعد تصويت مجلس الشيوخ لتجاوز "فيتو" أوباما، يوم الأربعاء.

ويمكن تحديد المخاوف الأميركية في إطارين: عسكري واقتصادي. فالولايات المتحدة، التي تنتشر قواعدها العسكرية وجنودها في حوالي 130 دولة حول العالم، تضع حصانة هؤلاء على المحك، في حال كانت هي المبادرة إلى تجاوز قانون الحصانة الدولي. أما السياق الثاني، الاقتصادي، فيتمثل بانتشار الشركات الأميركية حول العالم، التي قد تتعرض لصعوبات قانونية، جراء انتهاك الولايات المتحدة لمبدأ الحصانة السيادية.

اعتبر المشرّعون الأميركيون، الداعمون للقانون، أنهم أمام معضلة تتمثل في وضع مبدأ الحصانة السيادية، الذي يعد العمود الفقري للعلاقات الدولية، في مواجهة تحقيق العدالة لضحايا الإرهاب. لذلك جاء قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" أو "جاستا"، ليضحي بمبدأ الحصانة السيادية للدول، لصالح تمكين ضحايا الإرهاب من محاكمة الدول المشتبه بدعمها هجمات على الأراضي الأميركية، أو استهداف أميركيين.



وتكتسب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، مركزيتها هنا، فضغوط عائلات الضحايا هي العامل الأساسي إلى دفع المشرعين الأميركيين لتمرير القانون، بالإضافة إلى الأجواء الانتخابية التي تشهدها الولايات المتحدة، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. فممثلو الحزبين لا يريدون أن يظهروا بمظهر المتخاذل عن "تحقيق العدالة" لضحايا هجمات سبتمبر.

من هنا تحديداً، جاء اعتبار قانون "جاستا"، ضد السعودية، ذلك لأن 15 متورطاً من أصل 19 في أحداث سبتمبر، يحملون الجنسية السعودية، كما أن زعيم تنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، كان حاملاً للجنسية السعودية، قبل إسقاطها عنه، منتصف التسعينيات. كما أن هناك تاريخ من المعارك القضائية بين السعودية وعائلات ضحايا هجمات سبتمبر، أمام المحاكم الأميركية، كانت تنتهي دائماً لصالح السعودية، استناداً إلى معطيات عدة، أساسها قانون الحصانة السيادية للدول، الذي جاء قانون "جاستا" لإبطاله.

بالتالي إن كل سياق "جاستا" يتعلق بالاتهامات التي يوجهها أهالي ضحايا أحداث سبتمبر إلى السعودية، بتقديم دعم غير مباشر للإرهابيين. من هنا كانت محاججة أستاذ القانون في جامعة هارفرد، جاك غولدسميث، وأستاذ القانون في جامعة تكساس، ستيفن فولديك، اللذين دعما "فيتو" الرئيس الأميركي ضد "جاستا"، باعتباره يخل بالقانون الدولي، في الوقت الذي لا يمنح فيه المحاكم الأميركية، وبالتالي عائلات ضحايا أحداث سبتمبر، إمكانيات حقيقية لتحقيق "العدالة".

اعتمد كل من غولدسميث وفولديك في محاججتهما على التغييرات التي تم إدخالها على نصّ قانون "جاستا"، والتي يرونها أثرت في فاعلية القانون، في الوقت يتسبب فيها بأضرار كبيرة على القانون الدولي. ورأى الكاتبان، في المقال الذي نشره موقع قناة "سي ان ان"، أن "منح عائلات ضحايا سبتمبر العدالة لا يبرر المشاكل الدبلوماسية والأضرار التي ستمس العلاقات الدولية التي سينتجها القانون". وأضافا "ليكن واضحاً للجميع، إن مشروع القرار الذي مرره الكونغرس، لا يمنح أي فائدة تبرر الأضرار التي سيتسبب بها". واعتبر الكاتبان أن السيناتور جون كورنين قام بإدخال تعديلات جوهرية على القانون، في اللحظات الأخيرة قبل أن يتم التصويت عليه في الكونغرس، تسببت في إفراغه من فاعليته.

إن النسخة الأولى من قانون "جاستا" كانت تعدل مجموعة من القوانين الفيدرالية، من أجل السماح للمحاكم الأميركية بالنظر في "مجمل المزاعم التي تتعلق بالسلوكيات غير المشروعة خارج الحدود الأميركية، ضد أولئك المتورطين بشكل غير مباشر في الإرهاب، عندما يكون قانون الحصانة السيادية يشملهم".

أما النسخة النهائية، التي قام السيناتور كورنين بتعديلها، وفقاً لغولدسميث وفولديك، فإن القانون أصبح "شبيهاً بالمتاهة"، لأن تعديلات كورنين "مسّت مضمون مسودة القانون بصورة جوهرية، ووضعت معوقات أمام ادّعاءات عائلات ضحايا أحداث سبتمبر". كما أن "جوهر تعديلات كورنين يلغي حق المحاكم الأميركية بالنظر في الدعاوى ضد الأفراد، وشركات القطاع الخاص السعودية المتهمة بالتورط في الإرهاب"، بالإضافة إلى منعه المحاكم الأميركية من "النظر في ادّعاءات التورط غير المباشر"، بالإضافة إلى عدم إعطاء المحاكم الأميركية إمكانية "فرض التعويضات الناتجة عن الأضرار المترتبة على أحداث سبتمبر".



كما تمنح تعديلات كورنين الحق للحكومة الفيدرالية بإمكانية "التعطيل الدائم" للمحاكمات، ما دامت "وزارة الخارجية الأميركية تشهد بأنها منخرطة في محادثات حسنة النية مع الدولة الأجنبية المدعى عليها حول مزاعم تورطها في الإرهاب".

يختصر كل من غولدسميث وفولديك، نتائج التعديلات على قانون "جاستا"، بأنها جعلت القانون "لا يفضي إلى أي شيء بالنسبة لأسر ضحايا أحداث سبتمبر"، إذ "تستطيع الحكومة تعطيل المحاكمات بشكل دائم، وإذا فشلت فعلى المدعي أن يظهر أن السعودية متورطة بشكل مباشر في أحداث سبتمبر، وإذا تمكنوا من هذا، فلا توجد آليات لإجبار السعودية على دفع تعويضات للمتضررين".

وبالتالي، فتأثيرات القانون، على السعودية، غير حتمية، بحسب الكاتبين المتخصصين في القانون. كما أن عقبة أخرى قد تظهر أمام محاولات مقاضاة السعودية في مزاعم التورط بأحداث سبتمبر، وهي نفي الأوراق الـ28، والتي تتحدث عن التورط الأجنبي في الأحداث، خُتمت بالتأكيد على عدم وجود دلائل على أي تورط سعودي في الهجمات. ما يطرح فرضية أخرى، مفادها أن حالة الهلع من القانون، وتأثيراته على السعودية، أمر غير مبرر.

في السياق عينه، من المستبعد نجاح أي خطوة باتجاه سحب الاستثمارات السعودية من الولايات المتحدة، بعد إقرار قانون "جاستا". وعلى الرغم من تلويح وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، قبل أشهر، بأن السعودية ستسحب استثماراتها، المقدّرة بـ750 مليار دولار، حال إقرار القانون، إلا أنه عاد ليوضح أن الخطوة ستكون ضرورية خشية تجميد الأموال السعودية، لا كرد فعل عقابي للولايات المتحدة.

من جهتهم، رأى مراقبون أن السعودية ستكون الخاسر الأهم في حال قررت سحب استثماراتها من السوق الأميركية بعد إقرار القانون، فمن الصعب تصفية استثمارات بقيمة 750 مليار دولار بين ليلة وضحاها. وعلاوة على صعوبة الخطوة، فإن الخسائر لا يمكن التنبؤ بها.

سحب استثمارات بهذه القيمة، ممكن، دون خسائر، خلال سنوات. أما اليوم، وبعد إقرار "جاستا"، فستبدو الخطوة متأخرة جداً، وصعبة، وغير مجدية. فهناك عقبة تصفية الاستثمارات، وعقبة أخرى تتعلق بإيجاد سوق مستقرة، كالسوق الأميركية، للاستثمار بها.

وتتعرض الأموال السعودية في الولايات المتحدة إلى مخاطر أخرى، تتعلق بالحجز على الاحتياطي النقدي السعودي في المصارف الأميركية، وإن كان القانون لا يوضح إن كان هذا ممكن دون تدخل الإدارة الأميركية. ففي حالات سابقة، كان الحجز على أموال دول، كإيران، وليبيا، يتمّ بقرار من الإدارة الأميركية.

من ناحية أخرى، إن العقبات أمام سحب السعودية لاحتياطها النقدي، أقل منها في حالة الاستثمارات السعودية في الشركات والمصارف الأميركية. تستطيع السعودية نظرياً، تصفية الاحتياطي النقدي خلال فترة قد لا تتجاوز الأشهر، في الوقت الذي يصعب فعل الأمر ذاته مع الاستثمارات.

لكن بعيداً عن تداعيات القانون الاقتصادية وأثره على إمكانيات مقاضاة السعودية في ما يتعلق بهجمات سبتمبر، فمن المستبعد، بحسب مراقبين، أن يمر القانون دون رد فعل سعودي، قد يتسبب بالضرر على الولايات المتحدة في ما يتعلق بمحاربة الإرهاب. فالرياض التي تعاونت مطولاً مع واشنطن لمواجهة التنظيمات الإرهابية، قد تستخدم هذه الورقة، كحل أخير، للضغط على الإدارة الأميركية لتعطيل القضايا التي من المتوقع أن ترفع ضدها مستقبلاً، في مقابل استمرار هذه العلاقة، التي لا يبدو أن الولايات المتحدة في وارد الاستغناء عنها، وفق المعطيات الحالية على الأقل.


المساهمون