طمس الحدود العراقية السورية: تركة "داعش" الثقيلة

طمس الحدود العراقية السورية: تركة "داعش" الثقيلة

20 سبتمبر 2016
اندمج سكان البلدين بعدما فتح "داعش" الحدود(دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
لم يتبق من الحدود العراقية السورية البالغ طولها نحو 617 كيلومتراً سوى أجزاء بسيطة حافظت على إرث يمتد لنحو مائة عام منذ أن رُسمت هذه الحدود المصطنعة بين العراق وبلاد الشام، فقد أزال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومنذ اجتياحه العراق قبل نحو ثلاث سنوات، غالبية معالمها الفاصلة بين البلدين. وتشكل تلك الحدود الصناعية نحو 90 في المائة من الحدود، كالمخافر، ونقاط المراقبة، والأسلاك الشائكة، والعلامات الحدودية، والسواتر الترابية، والكتل الخرسانية، وذلك من خلال عمليات التجريف التي يرى التنظيم أن إزالتها واجب شرعي لهدم حدود اتفاقية سايكس بيكو عام 1916. 

وباتت غالبية الحدود العراقية مدمجة مع سورية، يتجول سكان القرى والمدن في كلا البلدين في ما بينها بحرية، ويختارون السكن والانتقال إلى أي من البلدات الأكثر هدوءاً وأقلها قصفاً، منذ عام 2014 لغاية اليوم. ويتخوف خبراء ومراقبون للشأن العراقي والسوري على حد سواء، من أن تكون عملية إعادة الحدود إلى سابق عهدها، أحد الملفات التي ستكون حاضرة وبقوة بعدما اصطلح على تسميتها، أخيراً، بـ"مرحلة ما بعد داعش". فهي عملية، وفقاً لمراقبين، لن تكون سهلة، خصوصاً أن أغلب القرى والبلدات الحدودية والحقول الزراعية بين البلدين متلاصقة، ولا يفصلها سوى سلك شائك بارتفاع خمسة أمتار، ويوجد على بعد كل كيلومترين برج مراقبة أو ثكنة عسكرية على كلا الجانبين.

وتمكن التنظيم منتصف عام 2014 من السيطرة على نحو 80 في المائة من الحدود الدولية بين العراق وسورية التي يبلغ طولها 617 كيلومتراً. وتبدأ من مدينة القائم، غربي الأنبار، حتى نينوى شمالاً، ليوقع بقبضته المعابر الحدودية الثلاثة بين البلدين وهي: الوليد، والقائم، واليعربية. لكن قوات "البشمركة" الكردية استعادت منفذ اليعربية، وحرر الجيش العراقي والعشائر منفذ الوليد، إلا أن المنافذ الثلاثة من الجهة السورية لا تزال تحت سيطرة التنظيم.

وكان ملف الحدود المشتركة بين العراق وسورية من بين الملفات التي تسببت بأزمة حادة ثم قطيعة بين بغداد ودمشق مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عندما اعتبر رئيس النظام السوري الراحل حافظ الأسد قرية الباغوز الواقعة غرب مدينة القائم العراقية والتي يدخل منها نهر الفرات إلى العراق، وتحديداً، بلدة البوكمال، تابعة للأراضي السورية. وهو ما رفضته بغداد ودفعت بتعزيزات عسكرية وهددت بالرد على أي تجاوز سوري للحدود آنذاك، لتتدخل الأمم المتحدة وتحسم تابعية القرية التي تبلغ مساحتها نحو 3 كيلومترات لمصلحة العراق، إلا أن القرار لم يرق للنظام السوري.

تاريخياً، تعد مدينة القائم أولى مدن خط الحدود مع سورية، وأطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى دير مسيحي يدعى "دير القائم". ويؤكد المؤرخون أن من كان فيه من رهبان وقساوسة ساعدوا جيش خالد بن الوليد خلال توجهه للعراق لدعم الجيوش التي فتحت العراق عام 633 ميلادية، وكسرت الإمبراطورية الفارسية. وكانت مركزاً تجارياً وحضارياً واسعاً يشمل مناطق البوكمال حتى حوض الفرات، وينتهي في العراق عند منطقة تدعى حالياً العبيدي، شرق الرمادي، حتى منطقة الجزيرة شمالاً والتابعة حالياً لمحافظة نينوى وعاصمتها الموصل، تقابلها من الجهة السورية دير الزور.

وأعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في وقت سابق من هذا العام، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأسترالي مانكولم تورينبول، في بغداد، أن هناك مشاكل ستحصل على الحدود الفاصلة بين العراق وسورية، ويستدعي ذلك جهود الأمم المتحدة، مطالباً قوات التحالف الدولي بجهد أكبر لوضع حد لمسألة انفلات الحدود بين البلدين، وانتقال الإرهابيين.





اندماج سكان البلدين

ووفقاً لإفادات سكان محليين في بلدات عراقية حدودية تحدثوا لـ"العربي الجديد"، فإن آلاف المواطنين من كلا البلدين تبادلوا الانتقال في ما بينهم لأسباب تتعلق بالعمل، والخلافات والمشاكل العشائرية، والعائلة، وعقوبة النفي التي اتبعها التنظيم ولا يزال. وهو أمر ينطبق على السوريين والعراقيين. فهناك من سكان الجزيرة في نينوى من انتقل إلى دير الزور. وهناك من سكان البوكمال من انتقل إلى القائم منذ عامين أو ثلاثة وبدأ العمل واستقر. وقد ساعد تطابق لهجة سكان كلا الجانبين في التكيّف وعدم التمييز بينهم، فضلاً عن العامل التاريخي المعروف، إذ يتحدّر سكان الجانبين من العشائر أو القبائل نفسها، مثل العكيدات، والبكارة، والجحيش، والبو خابور، والحمدان، والمشاهدة، والنعيم، والمعامرة، وقبائل وبطون عربية أخرى.

ويقدر عدد من تبادلوا السكن ما بين 25 و30 ألف مواطن، وهو عدد بسيط، ولا يكاد يذكر مقارنة بالذين اعتبروا كسر الحدود وإزالتها بمثابة هدم جدار برلين، إذ يتنقل الجميع من وإلى البلدين بحثاً عن العلاج الطبي والخدمات الأفضل، والعمل الأوفر، وأمور معيشية أخرى.
ويقول أحد المواطنين العراقيين، يدعى محمد هاشم (61 عاماً)، لـ"العربي الجديد"، إن "داعش لم يجلب لنا سوى الدمار والأذى ومزيد من الجهل. ما كنت أعيشه في الستينيات أفضل مما هو اليوم، لكن بصراحة مسألة الحدود كانت الشيء الأفضل في كل ما نمر به". ويضيف "أسكن على مقربة من قرية الصوامع (سورية) وعندما أصل إلى نهايتها لا أستطيع تمييز الحدود، فقد مسحت بالكامل والجميع يتنقل بين الجانبين". ويوضح أن "الأمر يقتصر على الحدود التي تقع على جانبيها القرى والبلدات، أما الصحراوية فهي واضحة كونها لم تشهد تواصلاً كما المناطق المسكونة".

طمس المعالم 
ويؤكد ضباط عراقيون في قوات حرس الحدود لـ"العربي الجديد"، أن نحو 20 في المائة من الحدود اختفت معالمها، إلا أنهم يؤكدون في الوقت نفسه إمكانية إعادة رسمها مجدداً مع صعوبة ذلك، والوقت الذي قد يستغرقه. ويقول ضابط عراقي في قوات حرس الحدود لـ"العربي الجديد"، إن نحو 20 في المائة من الحدود اختفت وسوّيت تماماً وغالبيتها صناعية (أسلاك شائكة، وسواتر ترابية صنعتها الجرافات، وكتل خرسانية، ومخافر حدودية). ويبيّن أن "أغلب تلك الأجزاء من الحدود في محوري الفرات عبر القائم العراقية والجزيرة في محور نينوى، غربي الموصل"، لافتاً إلى أن "القوات الكردية هي الأخرى غير معنية بإعادة معالم الحدود كما كانت، خاصة بمحيط مثلث فيش خابور الرابط بين العراق وسورية وتركيا".

من جانبه، يؤكد العقيد حسن المالكي، من قوات حرس الحدود العراقية، لـ"العربي الجديد"، أن "جميع ما دمر من الحدود الفاصلة يمكن إعادة بنائه لكن بشرط استعادة السيطرة على كامل الـ617 كيلومتراً بين البلدين ومن كلا الجانبين، وهذا صعب للغاية على الأقل في هذه المرحلة". ويضيف "يمكن الاعتماد على الخرائط الرسمية والعودة إلى حدود البلدين، لكن بالتأكيد ستكون هناك في ما بعد مشاكل على شكل هذه الحدود تماماً كما حدث بعد حرب الخليج ومشاكل ترسيم الحدود بين البلدين". ويشير إلى أن "وجود عشرات الأنفاق تحت الأرض هو تحد آخر يجعل من إعادة رسم الحدود على الأرض أمراً لا يحسم المسألة".

من جهته، يقول عضو مجلس محافظة الأنبار، غرب العراق، محمد العلواني، إنه لا يمكن أن يكون هناك تحرير كامل للأرضي العراقية من قبضة "داعش" قبل استعادة الحدود مع سورية، مبيناً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الحدود صارت بمثابة ثقب أسود مع وجود خزان بشري كبير في المدن على جانبي البلدين وتضاريس صعبة فشل الجيش الأميركي نفسه في ضبطها طيلة سنوات احتلاله البلاد (2003 ــ 2010)".