غليان الجنوب التونسي: احتقان اجتماعي يتمدد ويهدد بثورة جديدة

غليان الجنوب التونسي: احتقان اجتماعي يتمدد ويهدد بثورة جديدة

13 سبتمبر 2016
من الاحتجاجات التي شهدتها بنقردان أخيراً (تسنيم نصري/الأناضول)
+ الخط -
يرتفع منسوب القلق في نفوس التونسيين هذه الأيام، بسبب تلاحق الأخبار السيئة وتواتر الرسائل السلبية. ومع تجدد الاشتباكات في جبال مدينة القصرين وأحيائها ومقتل وإصابة عدد من الجنود بعد فترة هدوء دامت أشهراً، عاد التونسيون للتخوّف من استيقاظ الخلايا النائمة وتهديداتها وسط تعزيزات أمنية واضحة في المدن، إضافة إلى الأخبار عن المواد الطبية الفاسدة وما رافقها من شكوك في المنظومة الصحية التونسية. يضاف إليها حملات التشكيك المستمرة في قدرة الدولة على سداد رواتب المتقاعدين، وحتى الموظفين أحياناً، ما يضطر الحكومة إلى إصدار نفي متواصل لهذه الشائعات.

وكشف استطلاع جديد للرأي، نشر يوم الثلاثاء بتونس، ارتفاعاً في نسبة التشاؤم عند التونسيين. وأوضح "البارومتر السياسي" الشهري لمؤسسة "سيغما كونساي"، لشهر أغسطس/آب الماضي، رقماً قياسياً في نسبة التشاؤم لدى التونسيين وصل إلى حدود 76.6 في المائة في صفوف المستجوبين، الذين يرون أن البلاد تسير في الطريق الخطأ. وكشف الاستطلاع الذي أجرته المؤسسة بالتعاون مع صحيفة "المغرب" التونسية، أن "التشاؤم شمل الأحزاب السياسية والفئات الاجتماعية والعمرية والجنسين".

غير أن مرد القلق الأبرز هو الحادث الذي شهدته منطقة خمودة في القصرين وأودى بحياة 16 تونسياً من مدينة فقيرة ومحرومة، واتساع دائرة الاحتجاجات الاجتماعية من جديد إلى مدن أخرى، استعادت نشاطها الاحتجاجي بشكل متزامن. ففي المكناسي، إحدى مدن سيدي بوزيد، تمكّن الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل، بوعلي المباركي، منذ أيام من فكّ اعتصام مجموعة من شباب المدينة، ليعود الهدوء إلى المنطقة بعد سلسلة من المفاوضات مع المعتصمين والحكومة، وتم الاتفاق على عقد جلسة عمل مع الوزراء المعنيين بالملف. وفي جزيرة قرقنة في الجنوب الشرقي التونسي، عمّت حالة من الاحتقان في صفوف عدد من العاطلين عن العمل، وتم قطع الطريق الرابطة بين الرملة ومليتة، وسط أنباء عن احتجاجات طاولت بعض عناصر الأمن ومطالبة بإبعادهم عن المدينة.
كذلك تعيش مدينة بنقردان على الحدود مع ليبيا منذ مدة، على وقع احتجاجات متواصلة بسبب مشاكل التهريب وتصدي الجيش لعدد من المهربين. وتجددت هذه الاحتجاجات يوم الإثنين، بسبب مقتل شاب من أبناء المنطقة برصاص الوحدات العسكرية المتمركزة في المنطقة العازلة على الحدود التونسية الليبية. وقام المحتجون بإغلاق الطرق المؤدية إلى المدينة وقادوا مسيرة إلى المقبرة خلال موكب دفن الشاب. ولم تتوقف الاحتجاجات في بنقردان منذ سنوات، خصوصاً منذ نجاحها في مقاومة المجموعات الإرهابية التي حاولت السيطرة على المدينة، وانتظارها لتنفيذ وعود التنمية التي قطعتها الحكومة منذ ذلك الوقت.

وقد صدر بيان للاتحاد العام التونسي للشغل، يوم الثلاثاء، عكس هذا القلق المتصاعد في أقصى الجنوب، بعد دعوته إلى التعاطي مع مطالب أهالي بنقردان بجدية، معتبراً أن "ما آلت إليه الأوضاع في كامل أنحاء البلاد، خصوصاً في المناطق الحدودية، يعود سببه إلى سياسة التهميش والنسيان منذ عقود من الزمن"، داعياً الحكومة إلى "تجنّب سياسة التسويف والمماطلة". وحذّر في المقابل من "استسهال الجميع لما قد يخطط إليه البعض للاندساس واختراق التراب التونسي واستغلال ما يحدث في ليبيا والتسرّب إلى الأراضي التونسية لنشر الفوضى والفكر التكفيري الإجرامي، وضرب كيان الدولة وإشاعة الاٍرهاب". كما طالب البيان التونسيين بـ"اليقظة والشباب الغاضب في بنقردان بالتحلّي بالمسؤولية وعدم الانجرار وراء دعوات الفتنة والتخريب التي قد تخدم أعداء تونس".

واستنكر بيان ثان يوم الخميس، ما رُوّج ببعض المواقع العربية عن دعوات انفصالية للجنوب، قبل ان يتم سحب المقال. وقد شهدت مدينة فرنانة، الحدودية أيضاً مع الجزائر، يوم الخميس، حالة من الاحتقان ترجمتها احتجاجات وحرق للعجلات المطاطية وسط المدينة بسبب خلاف بين أحد سكانها ومسؤولي المدينة.

غير أن موضع الاحتقان الأكبر هو محافظة القصرين، حيث تصاعدت الاحتجاجات بشكل ينذر بالخطر، وعاد شباب المدينة إلى التظاهر من جديد بعد يومين من الهدوء، وتجمّعوا يوم الإثنين وسط المدينة من كل مدن المحافظة، تعبيراً عن يأسهم مما سموه وعود الحكومة الكاذبة. ووصل الأمر إلى حد قيام مجموعة من الفتيات مساء الأحد، باقتحام منزل محافظ القصرين الشاذلي بوعلاق، ما اضطره إلى مغادرة منزله برفقة عائلته باتجاه العاصمة.
وحذّر الكاتب العام المساعد للاتحاد المناطقي للشغل في القصرين، محمد الصغير سايحي، من اندلاع ثورة ثانية في المنطقة بعد الاحتجاجات التي شهدتها في شهر يناير/كانون الثاني الماضي. وأضاف السايحي في تصريح صحافي أن "القصرين تعيش احتقاناً بسبب الإرهاب والتهميش والبطالة والكوارث على غرار حادثة خمودة الأخيرة"، داعياً رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارة الداخلية إلى التعامل بجدية مع مطالب أبناء القصرين.
وكان الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي قد توقف مطوّلاً عند تعطّل إنتاج الفوسفات والغاز في جزيرة قرقنة والحوض المنجمي، داعياً إلى الإسراع بإيجاد حلول لهاتين المعضلتين. وتصاعدت أزمة الفوسفات في الجنوب بشكل كبير بعد توقف الإنتاج كلياً لخمسة أشهر كاملة، وسط مؤشرات بإمكان حل الأزمة قريباً. وقال مدير إقليم شركة فوسفات قفصة في مدينة المظيلة رافع نصيب لوكالة الأنباء التونسية، إنّ عمال الشركة العاملين في المظيلة التحقوا السبت بمواقع عملهم، بعد أن فضّ محتجّون بسبب نزاع عقاري بين مجموعات سكنية، اعتصامهم الذي بدأ منذ شهر إبريل/نيسان الماضي. وأفاد نصيب بأنّ عمليات شحن كمّيات من مخزون الفوسفات المتوفّر في المظيلة بدأت السبت في اتجاه معامل المجمع الكيميائي التونسي في قابس والمظيلة وهي معامل توقّفت بعض وحداتها عن النشاط بعد نفاد مادة الفوسفات. ويتوفّر في المظيلة حالياً، وفق نصيب، مخزون من الفوسفات التجاري قدره 100 ألف طن.
وبحسب إحصائيات دائرة مراقبة الإنتاج في هذه الشركة فإنّ حجم إنتاج المظيلة من الفوسفات التجاري لم يتجاوز منذ بداية العام الحالي 400 ألف طن مقابل مليون طن كانت الشركة تنوي إنتاجها، بحسب وكالة الأنباء التونسية. يشار إلى أن حجم إنتاج الفوسفات التجاري في السنوات الخمس الماضية لم يتجاوز 11 مليون طن مقابل 8 ملايين طن حقّقتها الشركة في سنة واحدة وهي عام 2010.


غير أن الجديد واللافت في شأن ملف احتجاجات واعتصامات الحوض المنجمي، هو بيان اتحاد الشغل في قفصة، الذي دعا "المحتجين والمعتصمين والمعطلين لإنتاج وشحن الفوسفات إلى الكف عن كل تحرك يشل نشاط شركة فوسفات قفصة والمرافق الاقتصادية الأخرى في المنطقة حتى تشرع الحكومة في البدء بتحقيق البرامج التنموية الموعودة وفي فض المشاكل الاجتماعية في المنطقة"، مطالباً في المقابل "بضرورة أن تتحمّل الدولة مسؤولياتها كاملة في توفير الحلول لمعوّقات التنمية في المنطقة من خلال مباشرتها الفورية والجدّية لإنجاز الوعود التي تمّ تحديدها في مخططات التنمية، وفي المجالس الوزارية المخصّصة للمنطقة". وأشار بيان الاتحاد إلى الخطر المحدق بشركة فوسفات قفصة وفي المنطقة عموماً إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
ويشكّل هذا البيان إشارة جديدة وهامة إلى قرار اتحاد الشغل بالتدخّل لتهدئة الأوضاع الاجتماعية المتدهورة وتأثيرها على الاقتصاد الوطني، مع إشارة البيان إلى أن تراجع إنتاج الفوسفات أصبح يهدد وجود الشركة أصلاً ويهدد بانهيارها التام وعدم امكانية بنائها من جديد، وهو ما قد يؤدي إلى التفكير في بيعها للقطاع الخاص.
غير أن سؤالاً مهماً يطرح في هذا الشأن حول مدى قدرة قيادة الاتحاد على ضبط عمالها في قطاعات عديدة منتفضة، من بينها قطاع التعليم والصحة والفوسفات، وإلى أي حد يمكن توفير هذا المناخ الاجتماعي السليم لإتاحة الفرصة للإصلاحات على أرض الواقع، خصوصاً أن بعض القيادات النقابية شرعت في الترويج لنفسها استعداداً لمؤتمر الاتحاد المقبل.
وبالإضافة إلى دعم اتحاد الشغل ورجال الأعمال، سيحتاج رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى فريق سياسي لا يعمل للمصلحة الخاصة ويتناسى منافسات الانتخابات المحلية العام المقبل، وتنزل قياداته إلى الشارع وإلى القرى المنتفضة لتقنع المعتصمين والمحتجين بإتاحة الفرصة لتحقيق شيء ما.
ولعل ما دوّنه القيادي في حزب "نداء تونس" فوزي اللومي، يعكس هذا الغياب الحزبي عن الشارع التونسي، إذ وجّه رسالة الى "الندائيين" أشار فيها إلى "انعدام الاتصال بالقواعد والغياب في المناطق الداخلية، لأن ماكينة النداء اليوم معطلة باستثناء بعض المحاولات"، لافتاً إلى أن "الحزب لم يعقد اجتماعاً شعبياً منذ أشهر طويلة، والوضع اليوم في الحزب لا يمكن أن يرضي أي ندائي غيور". واعتبر اللومي أن "الحكومة وقيادات الحزب تتعرض اليوم إلى حملات تشويه ممنهجة وتحركات تستهدف الاقتصاد الوطني، فيما الحزب غائب إعلامياً وميدانياً غير قادر حتى على الدفاع عن مناضليه ومساندتهم".
وشدّد اللومي على أن "الوضع صعب جداً والوقت والاستحقاقات تدهمنا وعلى كل الندائيين الغيورين العمل بسرعة على تصحيح هذا الوضع وإعادة عجلة نداء تونس للدوران مجدداً"، مضيفاً: "يجب أن يتحرك الندائيون بأقصى سرعة بهدف عقد مؤتمر انتخابي يفرز قيادة منتخبة بشكل ديمقراطي، ينكب على إثره الحزب في ممارسة دوره كحزب حاكم ومجابهة الصعاب التي تمر بها البلاد".