سرت وأزمات ما بعد "التحرير": من القذافي لـ"داعش" فحفتر؟

سرت وأزمات ما بعد "التحرير": من القذافي لـ"داعش" فحفتر؟

08 اغسطس 2016
معركة سرت تعيدها إلى واجهة المشهد الليبي(محمود تركية/فرانس برس)
+ الخط -
سرت، المدينة التي حضرت في المشهد الليبي طيلة أربعة عقود مضت من حكم أبرز أبنائها، العقيد الراحل معمر القذافي، عادت إلى الواجهة من جديد بعد أربع سنوات من مقلته فيها. وتقع المدينة الأكثر جدلاً في الأوساط الليبية والدولية على ساحل البحر المتوسط. تشرف على خليج سرت، الأكبر في البلاد، وتقع على مسافة متوسطة بين شرق ليبيا وغربها. وبحسب آخر إحصاء سكاني رسمي عام 2010، يبلغ عدد سكانها 70 ألف نسمة. وتكتسب المدينة أهمية استراتيجية لوقوعها في منتصف البلاد، وكونها نقطة تقاطع لشبكة مواصلات معقدة، تربط بينها وبين المناطق والمدن المجاورة، إضافة لإطلالتها على صحراء ليبيا الواسعة الممتدة إلى الجنوب. وتزداد أهمية موقعها كونها تشرف على الهلال النفطي بشقيه الشمالي، الذي تتناثر فيه موانئ التصدير، والصحراوي الغني بحقول وآبار النفط.

بعض المواقع الأثرية القريبة منها تدل على جذورها وأهميتها في التاريخ. وتشير خصائصها الديمغرافية إلى أن ولاتها باشروا، اعتباراً من نهاية القرن التاسع عشر، بتوطين أبرز القبائل العربية في سرت، مثل أولاد سليمان والقذاذفة وورفلة والفرجان ومعدان ولحسون والمزاوغة. وتكاد لا توجد قبيلة ليبية إلا ولها فروعها في سرت، مما جعلها على تواصل وثيق مع كافة مناطق وأقاليم البلاد.

وعلى الرغم من قدم الخلافات القبلية والحروب بين أولاد سليمان والقذاذفة وبروز دور المدينة في مقاومة الاحتلال الإيطالي، إلا أنها ظهرت بشكل كبير إبان تولي ابنها معمر القذافي الحكم، إثر انقلابه العسكري عام 1969، والذي حاول أن يصنع منها المدينة الأفضل ليبياً، وترددت كثيراً أنباء عن مساعيه لجعلها هي العاصمة بدلاً من طرابلس الغرب. وفي إطار هذه المساعي، أقدم القذافي على إحاطة المدينة بدرع عسكرية، تمثّل في مواقع للجيش على شكل هلال من أهمها معسكرات الغربية والساعدي والقرضابية وغيرها.

وخلال عقود حكم القذافي الأربعة، نفذ فيها مشاريع كبيرة للبنية التحتية وإنشاءات ضخمة من أبرزها مقرات الجامعة ومجمع القصور الرئاسية ومجمع واغادوغو، الذي يعد أكبر المجمعات الإدارية في البلاد. وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي، نقلت إلى سرت أغلب وزارات الدولة. ومؤتمر الشعب العام، البرلمان، كان يعقد فيها. فضلاً عن ذلك، استقبلت مؤتمرات دولية عديدة، وشهدت الإعلان عن الاتحاد الأفريقي، في سبتمبر/أيلول 1999. وعقدت فيها القمة العربية الثانية والعشرين في مارس/آذار 2010.


وظهر اهتمام القذافي بسرت إبان نجاحه في إفشال سلسلة من الانقلابات العسكرية للإطاحة به. وكان يرد على المحاولات الانقلابية من خلال إجراءات إقصاء العسكريين المسؤولين عنها، والذين كانوا مقربين إليه، واستبدالهم بعناصر مدنية من أبناء قبيلته وحلفائها القبليين، مثل ورفلة والمقارحة، لتولي المناصب القيادية الكبيرة في سلطته. وكان من الطبيعي أن تتأثر سرت بتوجه القذافي الجديد. فقد انعكس هذا التوجه سلباً على وضع المدينة الاجتماعي، وظهرت النعرات القبلية القديمة بين هذه القبائل وخصومها التاريخيين، مثل أولاد سليمان وقبائل مصراتة والفرجان، الذين شعروا بالإقصاء وبالتطاول على حقوقهم.


وكان من الطبيعي أن تشهد سرت تغييراً كبيراً بعد اندلاع ثورة فبراير ضد حكم القذافي في عام 2011، كونها مسقط رأسه ومحور مشروعه الاقصائي لخصومه. هكذا شاركت قبائل أولاد سليمان والفرجان ومصراتة، بفعالية، في القتال ضد القذافي. وبعد مقتل القذافي، سيطر على مشهد المدينة قادة قبليون من مصراتة، المدينة الأقوى سياسياً وعسكرياً في غرب ليبيا. وبعيد إعلان اللواء خليفة حفتر انقلابه العسكري المعروف باسم "عملية الكرامة" بشرق ليبيا، برز في سرت عامل قبلي جديد سعى للسيطرة والمشاركة في قيادتها، ممثلاً في قبيلة الفرجان التي يتحدر منها حفتر. هذا الأمر جعل المدينة تعكس الصراع الليبي بين ثلاثة محاور: محور "الثورة" وتمثله قبيلة أولاد سليمان وقبائل مصراتة؛ محور "الانقلاب العسكري" وتمثله قبيلة الفرجان؛ ومحور "النظام القديم" وتمثله قبيلتا القذاذفة وورفلة.

وحتى مطلع عام 2015، لم يكن للقوى الإسلامية المتشددة في المدينة وجود، سوى جماعات صغيرة تابعة لـ"جماعة أنصار الشريعة"، التي نأت بنفسها عن المشاركة في حرب "الشروق" التي أطلقها المؤتمر الوطني العام في ذات الفترة لتحرير الموانئ في الهلال النفطي. في المقابل، شاركت في هذه الحرب "قبائل مصراتة" وهي تمتلك قرابة ثلاثة معسكرات بالإضافة للميناء التجاري الهام في سرت.

وأثناء بدء انسحاب قوات المؤتمر من عملية الشروق، وجدت قبيلتا القذاذفة وورفلة الفرصة سانحة في دعم جماعة "أنصار الشريعة" من خلال إفساح المجال لها للسيطرة على معسكرات "الساعدي" و"القرضابية" والمقرات الإدارية، التي تقع في أراضيها، لتعلن هذه الجماعة بيعتها الرسمية لزعيم تنظيم "الدولة الاسلامية" (داعش)، أبو بكر البغدادي، في نهاية فبراير/شباط 2015. ثم بدأت بالتوسع في السيطرة على المدينة وما حولها تدريجياً، مستغلة الانقسام السياسي والصراع الدائر في البلاد. واللافت أن السيطرة على المناطق المحيطة بسرت اتخذت أشكالاً مختلفة. ففي مناطق بوهادي والنوفلية وأم القنديل والقداحية وبونجيم، وهي مناطق تابعة للقذاذفة وورفلة، حصلت السيطرة بشكل سلمي، في حين سقطت مناطق هرواة وبويرات الحسون والوشكة وغيرها، بقوة السلاح، كونها مناطق تقع ضمن أراضي خصوم القذاذفة وورفلة، في مقدمتهم قبائل مصراتة.

ولا يخفي متابعون للشأن الليبي تفسيرهم للصراع على المدينة ذات الأهمية الاستراتيجية، باعتباره مبنياً على التنافس القبلي القديم، والذي لا يزال مؤثراً حتى اليوم. انطلاقاً من ذلك، يمكن تفسير اتجاهات هذا الصراع وتطور مواقف أبرز اللاعبين فيه، على الشكل التالي: موقف قوات اللواء حفتر، التي تتمركز بالقرب من سرت، بعدما كانت أعلنت تقدمها إليها، يتأثر بالموقف المتردد لقبيلته، الفرجان، داخل المدينة، ناهيك عن الحديث المتزايد حول تقارب حفتر وقيادات قبائل القذاذفة. في المقابل، تستثمر قبائل مصراتة وجودها تحت شرعية "المجلس الرئاسي" لتتقدم بكل ثقلها العسكري باتجاه سرت، لكسر هيبة "تنظيم الدولة"، وتقديم كل أشكال الدعم السياسي من خلال ممثليها في المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة. وعلى الصعيد الميداني، فأغلب القوة العسكرية الضاربة مؤلفة من قبائل مصراتة بسرت، حيث استطاعت الاقتراب من حسم المعركة في وقت قياسي بحكم معرفتها بطبيعة الأرض وعناصر النسيج الاجتماعي القبلي بالمدينة.

لم يعد خفياً أن قبائل ورفلة بالدرجة الأولى وفروع من القذاذفة توفر حاضنة اجتماعية لـ"داعش" في سرت. لكن مع قرب حسم المعركة ضد هذا التنظيم، وانتصار قوات المجلس الرئاسي المؤلفة في أغلبها من قبائل مصراتة، والتي حصلت أخيراً، على دعم عسكري جوي من الولايات المتحدة، لا تزال سرت مرشحة لصراع آخر. صراعٌ قد ينتج عن بقاء قوة قبائل الفرجان التي يتحدر منها اللواء حفتر داخل المدينة، حيث تؤلف هذه القبلية نسبة تزيد عن 30 بالمائة من المدينة، لجهة عدد السكان والأراضي، ولا تزال تحتفظ بصلات قوية مع حلفائها القبليين القدامى، مثل المقارحة وزوية، وغيرهم ممن يؤلف العناصر المقاتلة ضمن القوات التابعة لحفتر والمرابطة في مواقع غير بعيدة من سرت، في حوض "زلة – مرادة"، والتي تترقب نتائج المعركة الحالية.


المساهمون