دعوات "أسرلة" الأمن الفرنسي تتغاضى عن الإرهاب الإسرائيلي

دعوات "أسرلة" الأمن الفرنسي تتغاضى عن الإرهاب الإسرائيلي

05 اغسطس 2016
هل تتحمل فرنسا فرض حالة طوارئ لعقود؟(غايزكا إيروز/فرانس برس)
+ الخط -
هل يمكن للمرء تخيّل فرنسا، بلد حقوق الإنسان والمواطن، وهي تفرض حالة طوارئ مستمرة منذ عقود، وتُسلّح مليونين من مدنييها، وتعتقل من دون محاكمات مئات الآلاف من مواطنيها، وتهدم بيوت الأفراد الضالعين في أعمال عنف، وتراقب في شبكات الاتصال الاجتماعي وغيرها، ما بين خمسة إلى سبعة ملايين مسلم على أراضيها؟ باختصار أن تتحوّل إلى مجتمع عسكرتاري؟ تُطرح هذه الأسئلة وغيرها، بسبب الدعوات المتكررة في فرنسا، من قِبل إعلاميين وسياسيين، خصوصاً من اليمين واليمين المتطرف، من أجل "استيراد" النموذج الإسرائيلي في مكافحة "الإرهاب"، أي "أسرلة الأمن"، كما اتجه وزير الدفاع الفرنسي السابق، هيرفي موران، إلى القول أخيراً. لكن الذين يتحدثون عن "النجاح" الإسرائيلي النسبي، يُخفون عن مواطنيهم، الثمن الباهظ الذي تكلّفه هذه "الحرب" على المجتمع الإسرائيلي وعلى القيم الأخلاقية والحقوقية.

وأظهرت مرحلة ما بعد الاعتداءات الإرهابية التي ضربت فرنسا عام 2015 وما تلاها، وردود الفعل السياسية والإعلامية التي أعقبتها، نجاح التضليل الإسرائيلي في فرنسا. فاحتضان فرنسا لأكبر تواجد يهودي في أوروبا، منح إسرائيل وسياساتها حاضنة كبيرة، وسمح لإسرائيل بإيجاد شبه لوبي (المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا)، حتى وإن كان ضعيفاً بالمقارنة مع اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية. وقد ظهر النفوذ الإسرائيلي القوي في فرنسا، منذ اللحظات الأولى التي أعقبت الهجوم الإرهابي على مجلة "شارلي إيبدو"، فبدأ الصحافيون والمعلّقون والسياسيون في القنوات الإخبارية الفرنسية يتحدثون عن "الإنجاز الإسرائيلي في مكافحة الإرهاب"، وعن "ضرورة استيراد التقنية الإسرائيلية"، و"الاستفادة من الخبرات الإسرائيلية الطويلة في حرب الشوارع وفي إرهاب المدن"، من دون أي قلق من اتهامهم بـ"استيراد" الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، السيف المسلط على رقاب المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني.
ثم تكرّر المشهد ذاته مع الهجوم على المتجر اليهودي في باريس، وتهديد اليهود بمغادرة فرنسا للاستقرار في إسرائيل، وترحيب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتواصل بعودة أي يهودي إلى "أرض الميعاد". وازداد عدد المطالبين بطلب المساعدة من إسرائيل، بعد استخدام الإرهابيين في فرنسا سكاكين للقتل، ثم شاحنة لدهس المواطنين في اعتداء نيس الأخير، فلم تَسْلم أيّة قناة فرنسية من صحافيي وسياسيي البروباغاندا الإسرائيلية.

ولا يمكن حصر المقالات ولا أسماء الصحافيين أو السياسيين الفرنسيين الذين كرروا لازمة "الاستعانة بالتقنية الإسرائيلية" في التصدّي للإرهاب الذي يضرب فرنسا. لكن أبرزهم هو وزير الدفاع الفرنسي اليميني السابق، هيرفي موران، الذي يعتبر إسرائيل "صديقاً صادقاً"، وقد حاول أكثر من مرة المساهمة مع آخرين في وضع قدمٍ للوبي يهوديّ فاعل في فرنسا. فقد دعا موران فرنسا إلى استلهام النموذج الإسرائيلي في مكافحة الإرهاب. وقال في حوار مع صحيفة "لوفيغارو" أخيراً: "لقد عاشت فرنسا في سلام، خلال عقود عدة. وهي تعيش الآن فترة صاخبة ستدوم. ولا يجب التردد في استلهام ما أُنجِز في بلد ضربه الإرهاب بشكل قاسٍ. وأفكر بشكل خاص في إسرائيل. يجب علينا أسرلة أمننا".


في السياق نفسه، كتبت جولي كونان في "لوفيغارو"، ممتدحة إسرائيل بالقول: "تعيش إسرائيل منذ إنشائها، وفي مواجهة الأخطار الإرهابية، في ظل نظام حالة الطوارئ الذي يتيح الاعتقالات الإدارية. وإضافة إلى جيش في حالة تأهب دائمة، وإلى حرس وشرطة، توجد في حوزة 200 ألف مدني أسلحة، كما أن شبكات التواصل الاجتماعية مُراقبة".
وأضافت الصحافية الفرنسية أن إسرائيل تقدّم نفسها، في ميدان مكافحة الإرهاب "نموذجاً"، مستعيدة تعبير "الذئاب المنفردة"، قائلة إن "إسرائيل هي الأخرى تواجه هذا التهديد (تتحدث عن مقتل 34 إسرائيلياً في 10 أشهر)، وهو ما يجعل من الصعب اختراقها". ومن أجل تمييع النضال الفلسطيني، قالت كونان إن "دوافعهم مختلفة: أيديولوجية، أو رغبة في الانتحار بسبب صراع عائلي أو خيبة عاطفية. باختصار، إننا في مواجهة عدو غير مرئيّ". وأضافت: "لإسرائيل تجربة عميقة تتمثّل في أنه بعد فترة مفاجئة في البداية، تحركت أجهزة الأمن الإسرائيلية. فوضعت شبكات التواصل الاجتماعية، فيسبوك، تحت أعلى درجات المراقبة لرصد الخطابات المشبوهة".

وامتدحت كونان إسرائيل بشكل صريح، قائلة إن "إسرائيل، التي تُعتبر قوة عظمى في ميدان الفضاء الإلكتروني، كرّست أدمغتها المدنية والعسكرية من أجل العثور على الطرق والإجراءات التي تتيح وضع بروفايلات أفراد يُحكَم عليهم بأنهم خطرون على شبكات التواصل الاجتماعي". ثم عادت الصحافية معترفة بأن هذه المراقبة ليست بالأمر السهل "لأنّ مليون فلسطيني، تتراوح أعمارهم ما بين 16 و30 عاماً، يدخلون في هذه الخانة من الأفراد الذين يُشكّلون خطراً". واعتبرت كونان أن "التزام السكان اليقظة هو الورقة الرابحة الحاسمة. وفي كل مرة يتحدث المسافرون عن تصرف مشبوه". وأضافت أن "إسرائيل تعيش منذ العام 1948 في ظل نظام حالة الطوارئ. وهو ما يتعرض للإدانة من قِبل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، التي تراها اعتباطية، إذ تسمح باعتقال مشبوهين فلسطينيين (لا تتحدث عن مشبوهين يهود)، لفترة تصل إلى ستة أشهر قابلة للتمديد من دون محاكمة. كما تقوم السلطات بهدم منازل الفلسطينيين كشكل انتقامي".
هذه الطرق العنيفة عزاها الرئيس السابق للشرطة الإسرائيلية في القدس، أرييه أميت، الذي استشهدت به الصحافية الفرنسية، إلى "تجربة طويلة في الحرب ضد الإرهاب"، قائلاً إنها "من أفضل الوسائل"، مضيفاً أن "ما حدث في مدينة نيس، ما كان يمكن أن يحدث في إسرائيل". وهو تصريح شبيه بما كرره ساسة فرنسيون يمينيون من أن ما حدث في مدينة نيس كان بالإمكان تجنّبه. وأضاف أميت: "أي شرطي إسرائيلي عادي يفهم هذا الأمر". ولكنه تراجع قائلاً إن "الأمن بنسبة 100 في المائة لا يوجد".

مقابل ذلك، انتبه الصحافي والكاتب، دونيس سييفير، إلى مغالطات هؤلاء الذين يريدون استيراد النموذج الإسرائيلي، فأشار في موقع "بوليتيس" الإخباري، إلى أن مراسل صحيفة "لوموند" في إسرائيل، هو الوحيد الذي استطاع الإفلات من جوقة مروّجي النموذج الإسرائيلي، حين تحدّث عن "السياق الاستعماري للصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، فيما تسلّح الباقون بمقاربة "تقنية". واستعرض سييفير وسائل الإعلام الفرنسية، التي تريد من فرنسا أن تستوحي النموذج الإسرائيلي، من صحيفتي "ليزيكو"، و"لوجورنال دي ديمانش"، إلى قناة فرانس 2 وراديو فرانس أنتير، وغيرها. وتعجّب سييفير من تعمّد الخلط بين "داعشيّ مريض نفسي ومدمن خمور ومرتكب جُنَح، وبين فلسطيني دمّرت إسرائيل بيتَهُ وأراضيه الزراعية بحجة توسيع مستوطنة". ورأى أن الأمر استعادة لـ"خطاب استعماري عرفناه جيداً في أثناء حرب الجزائر، حين كان يُنعَت جميع مناضلي جبهة التحرير الوطني بالإرهابيين". وأضاف سييفير: "بوعي أو بلا وعي، يخلط مروّجو النموذج الإسرائيلي بين تمرد عنفيّ ضد الظلم وبين أعمال رعب من دون سبب مباشر"، لافتاً إلى أن "التمرد ضد دولة تخرق بشكل مستمر القانون الدولي، يمكن إدانته حين يكون أعمى ويستهدف أبرياء، ولكن الإدانة لا يمكن أن تتمَّ من دون التذكير بالسياق السياسي والتاريخي، أي الاستيطان الواسع الذي تقوم به الحكومة الإسرائيلية".
واعتبر أن "الخطاب التقني المزيّف مرعب، فبالإمكان امتداح فعالية الحواجز المعدنية التي تحمي الباصات في شوارع القدس، ولكن من الصعوبة الإشادة بالجدار (جدار الفصل)، كما يفعل البعض". وأضاف أن "هذا الجدار، الذي تقدّمه بعض وسائل الإعلام الفرنسية باعتباره وسيلة لمكافحة الإرهاب، هو بشكل خاص، سببُ تمرّد الفلسطينيين". والخلاصة هي "أن الجدار يرمز لوحده، إلى كل التباس النموذج الإسرائيلي في مكافحة الإرهاب".

ولكن يوجد ما هو أسوأ، وفق سييفير. فالذين يشيدون بالنظام الإسرائيلي، يمتدحون بطريقة لا إرادية أو إرادية، تقنيتَيْن اثنتين: الاعتقالات الوقائية (أكثر من 700 فلسطيني معتقل من دون محاكمة) والاغتيالات المستهدفة (في سنة 2006 سمحت المحكمة العليا الإسرائيلية بتنفيذها تحت بعض الشروط). وختم سييفير مقاله بالقول إن "المسؤولين السياسيين أو وسائل الإعلام الذين يدَّعون وقف حزب الجبهة الوطنية، يمتدحون، بشكل سري، حكومة (إسرائيلية يمينية) لا تختلف حقيقة عن حزب الجبهة الوطنية"، واصفاً الحكومة الإسرائيلية بأنها "حكومة تريد التخلص من كل النواب العرب في برلمانها، وتُطارد منظمات حقوق الإنسان". وشدد سييفير على أن "التمثّل بإسرائيل هو خيار أخرق حين نعرف أن القضية الفلسطينية تظلّ القضيةَ الرئيسيةَ للمرارة والحرمان في العالم العربي. فهل باستطاعة من يلجأون إلى هذه اللعبة الخطيرة أن يتجاهلوا خطورتها؟".