صهيب بن الشيخ لـ"العربي الجديد": إصلاح الخطاب الديني ضروري

صهيب بن الشيخ لـ"العربي الجديد": إصلاح الخطاب الديني ضروري

19 اغسطس 2016
أزمة الإسلام والمسلمين اليوم هي أزمة فكرية وتفسيرية(رسم:أنس عوض)
+ الخط -
يتحدث مفتي مرسيليا السابق، أحد الأقطاب الإسلاميين في فرنسا وأوروبا، صهيب بن الشيخ، في حوار مع "العربي الجديد"، عن الإجراءات الجديدة المتخذة بشأن تنظيم شؤون الجالية المسلمة في فرنسا، والخطوات المطلوبة لتجديد الخطاب الديني، شارحاً الظروف السياسية والملابسات الاجتماعية التي وفّرت الفرص لنمو وانتشار ظاهرة الإرهاب. 


فرنسا تستعدّ لإجراءات جديدة حول الديانة الإسلامية. ألا تعتقد أن هذه الإجراءات تمس بمبادئ الدولة العلمانية؟

من البديهي أن فرنسا دولة علمانية، والعلمانية لها مظهران أو تجلّيان، علمانية كمفهوم، وعلمانية كقانون. فالأولى يخوض في تحديدها المثقفون ويتجادل في كُنهها المفكرون، لكن علمانية الدولة علمانية قانونية أي قبل أن تكون مفهوماً فكرياً أو فلسفياً هي مجموعة من القوانين المنتخبة والملزمة، هي قوانين تنظّم العلاقة، أو بالأحرى عدم العلاقة، بين المجال الديني والمجال الإداري العمومي. فإذا علمنا أن القوانين العلمانية هي جزء من التشريع الوضعي أدركنا أنها تتغير وفق المستجدات وتتطور حسب التحديات. فكلما استُحدث قانون يتعلق بالأديان لا يُعتبر بالضرورة خرقاً لمبدأ العلمانية أو تعدياً عليها، بل تأقلماً لها وإبقاء لفاعليتها.

رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس طالب بمراجعة القوانين التي تسهّل عمليات التمويل الخارجي للمساجد، أليس هذا مساساً بقانون 1905 الذي يُقر بالديانة الإسلامية في فرنسا وبحق ممارستها؟

بالعكس، قانون 1905 يمنع الدولة الفرنسية من أن تُقر بأي دين من الأديان أو أن تموّله بما فيها الكاثوليكية الضاربة في جذور هذه البلاد. لكن دستور فرنسا واللوائح العالمية والأوروبية لحقوق الإنسان التي وقّعت عليها فرنسا، تجبرها على احترام حرية الفرد في اختيار معتقده وحريته في ممارسته لشعائر الدين التي يرتضيه لنفسه. من هنا وعبر ممارسة المسلمين كأفراد لهذه الحقوق، أصبح الإسلام الديانة الثانية المتّبعة في فرنسا.
أما في ما يتعلق بتمويل المساجد، فالأمر فيه مغالطة وسوء في التقدير، فعلى الرغم من المراقبة الأمنية المتزايدة، أجزم أنه لا يوجد إلى حد الآن أي قانون يمنع أو يقيّد تمويل دور العبادة من جهة أو بلد أجنبي. ومقولة فالس هذه سبقه إليها أسلافه منذ شارل باسكوا وزير الداخلية والأديان الشهير في التسعينيات، لاعتقاد الكثير من الساسة والمراقبين أن المساعدات الآتية من جهات ذات صبغة سلفية أو وهابية تكون مشروطة بنشر أو تشجيع هذا التوجّه أو على الأقل عدم التعرض له. وقد فكّر رئيس الحكومة الأسبق دومينيك دوفيلبان في إنشاء مؤسسة عمومية شبه حكومية تتولى وحدها تلقي التبرعات من الدول الإسلامية ومن الأثرياء العرب الراغبين في مؤازرة الإسلام في فرنسا، ثم تقوم المؤسسة نفسها بتوزيع الهبات على المنشآت الإسلامية تحت الرقابة الكاملة للدولة. هذا ما تريد الحكومة الحالية العودة إليه، وهذا تخبّط في فهم الوقائع، فأزمة الإسلام والمسلمين اليوم هي أزمة فكرية وتفسيرية وليست مشكلة تمويل بالضرورة وليست خاصة بفرنسا دون غيرها.

توجس كبير يحيل الجالية المسلمة في فرنسا إلى تعليق شعائرها أمام رغبة السلطات الفرنسية في إعادة تنظيم ما يُعرف بـ"إسلام فرنسا". هل نحن أمام استنساخ لصيغة جديدة لإسلام على مقاس فرنسي؟

"إسلام فرنسا" أو "الإسلام الفرنسي" ليسا إلا مسمّيين، ولا اتفاق على مدلولهما، وقد يُقصد من هذه المسميات الخطاب الإسلامي الذي يتفاعل مع خصوصيات المجتمع الفرنسي، أخذاً وعطاء، تأثراً وتأثيراً، كحال أي فقه في أية بقعة من البقاع في أي زمان من الأزمنة. لكن الأزمة التي نحن فيها اليوم، المتمثلة في هذا الإجرام وهذه الأعمال اللا إنسانية المُرتكبة باسم الإسلام، لا علاقة لها بتواجد هذا الدين في فرنسا وليست خصوصية من خصوصيات هذا التواجد. فموجة التديّن المتشدد العنيف تجتاح العالم الإسلامي بكامله وتتعداه إلى كل المعمورة. فالمطلوب منا سواء كنا في فرنسا أو في غيرها، في العالم الإسلامي أو خارجه، هو النظر بجدية والتأهب بشجاعة وحزم لإصلاح الخطاب الديني وترقيته وتخليصه من المفاهيم التي تدعو إلى الانغلاق المذهبي أو إلى كراهية الآخر أو إقصائه، أي إنتاج قراءة حداثية للنصوص الإسلامية في ضوء الحريات الأساسية المُجمع عليها، كالحرية الفردية وحرية التعبير والتعددية والمساواة، فهذا هو المعروف الذي أمرنا به القرآن وهذا هو المنطق الذي أوصلتنا إليه عقولنا، ولا ضير إن خالفنا مفهوم أسلافنا أو أزلنا القداسة عن تفسيراتهم لدينهم ودنياهم. قد تكون فرنسا من أهم الحواضر المرشحة التي يبدأ فيها هذا العمل الإصلاحي الجاد والعلني، لا لأن إسلام فرنسا أكثر تشدداً من إسلام غيرها، بل لاستغلال الحريات المتاحة فيها والغائبة في غيرها.

الخطاب الديني بقي هامشياً مقارنة مع الخطاب السياسي، إيماناً بفصل الدين عن الدولة. فهل نحن أمام توجّه جديد للخطاب الديني، وهل يمكن توجيه الخطاب الديني أمام النوايا السياسية؟

حقق أبناء الجالية الإسلامية في السنوات الأخيرة نوعاً من النجاح الملموس في الكثير من الميادين، وقد تألقت أسماء عربية في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، فنجد فيهم الوزراء والبرلمانيين والمفوضين السامين، ومما يدعو إلى الفخر ويدفع إلى التفاؤل أعدادهم المكثفة في الجامعات والمعاهد ومراكز البحث، مما ينبئ بمستقبل أكثر ازدهاراً. ولكنهم للأسف أهملوا تسيير مؤسسات دينهم وتركوها بأيدي أناس هم في العلم أضحل وفي الكفاءة أقل، وأمست إمامة المساجد مهنة من لا مهنة له، وبات أصحاب التكفير يغالبون أصحاب التفكير، وذوو الهوس بالأشكال والمظاهر يدافعون ذوي الألباب والعقول.

هل قام ممثلو الجالية المسلمة بدورهم كما ينبغي؟
ليس للجالية الإسلامية ممثلون بالمعنى الحقيقي. فالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية هو هيئة تسييرية للمساجد الملتحقة بها فقط، وهي هيئة خافتة باهتة لا تأثير لها في المجتمع، وأعضاؤها والمتناوبون على رئاستها يحكمهم توازن هش يشلّ حركتهم ويقيّد تعبيرهم. فهم في الحقيقة يمثّلون جهات عدة متنافسة ومتصارعة، منها الحضور الجزائري والحضور المغربي وتيار "الإخوان المسلمين"، ثم يليهم الحضور التركي ثم جماعة "التبليغ".

تعالت أصوات ممثلي الأحزاب اليمينية المهاجمة للمسلمين على غرار الرئيس السابق الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيسة حزب "الجبهة الوطنية" مارين لوبان. هل يمكن أن تُفشل مثل هذه التصريحات الجهود التي بُذلت منذ عقود للتعايش في المجتمع الفرنسي؟

في ظل الديمقراطيات الغربية ينشأ نوعان من السياسيين، النوع الأول وهم عادة قلّة يتركون أثرهم في التاريخ لأنهم يمتلكون رؤى مستقبلية واضحة ومشاريع اجتماعية طموحة ترقى بالجميع إلى مزيد من الرفاهية بفضل التعاون والتكافل والعيش المشترك الآمن. أما النوع الثاني من السياسيين، وهم الذين يكثرون في أزمنة الانحطاط، فإنهم يستصعبون طريق الإصلاح، فيكتفون بحشد أكبر عدد من الناس حولهم باستغلال غرائزهم البدائية كالخوف والطمع والأنانية بل بزيادة تخويفهم وإحياء النعرات فيهم. هذه هي الشعبوية التي امتاز بها ساركوزي إبان حكمه، خصوصاً حينما أثار قضية الهوية الوطنية من دون أي مبرر. أما "الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة، فإنها لا تكاد تخفي عنصريتها وكرهها للأجانب عموماً وللمسلمين خصوصاً، وهذا من قبل ظهور الإرهاب المنسوب إلى الإسلام على الساحة الدولية. إنني أخشى ردود الفعل وأخشى ردود ردود الفعل، ففي هذه الدوامة التصاعدية يضيع صوت الحكمة والتعقّل بين تطرفين يُبرر أحدهما الآخر وهذا يغذي ذاك.


شارك عدد هائل من المسلمين في قداديس لتأبين الكاهن جاك هامل. هل الإدانات والمبادرات، بالإضافة إلى تصريحات الفاتيكان، ستصحح النظرة النمطية التي بدأت تتعزز في أذهان الفرنسيين؟

من طبيعة هذه المبادرات أن تخفف نوعاً ما من تخوّف الرأي العام الفرنسي، وقد ساهمت وسائل الإعلام في نشرها وإذاعتها. لكنني لست متفائلاً بما ستأتي به الأيام المقبلة، فقد استقر لدى جمهور الناخبين الفرنسيين على أن الخطاب الإسلامي الحالي، والذي ينتشر في شبكة الإنترنت أكثر منه في المساجد، يؤدي إلى الراديكالية والانعزال ومن ثَم إلى الكراهية والعنف. فاليمين الشعبوي المتمثّل في ساركوزي وأتباعه، واليمين المتطرف في "الجبهة الوطنية"، سيستغلان هذه المآسي لمزيد من التأليب على المسلمين.

ما تعليقكم على ما قاله البابا أخيراً من أن "الإرهاب ينمو عندما لا يكون هناك خيار آخر وعندما يُعبد المال ويتم وضعه بدلاً من الإنسان في قلب الاقتصاد العالمي"، وكيف نفسر ذلك من المنظور الفرنسي؟
هذا قول حق وفيه كثير من الحكمة، فالإجرام المُرتكب باسم الإسلام اليوم إنما هو مرض خطير يستدعي تشخيصه العودة إلى أسبابه والكشف عن جراثيمه. فالسبب قبل أن يكون قراءة متشددة وحرفية للدين، هي الظروف السياسية والملابسات الاجتماعية التي وفّرت الحظوظ لهذه القراءة اللا عقلانية أن تنمو وتنتشر. فالظلم الاجتماعي والسياسي والفقر والتجهيل وسد الأفق أمام الآلاف من الطاقات الناشئة، كلها أسباب تدفع بها إلى تبنّي الفكر الغيبي الذي يجعلها تحكم بالإعدام على نفسها قبل أن تحكم به على الآخرين. لكنني لا أريد من قولي هذا أن يُفهم ولو من بعيد أنه التماس للأعذار أو تبرير لأعمال الإرهابيين، فجرم هؤلاء جرمان: جرم في حق البشرية، وجرم في حق الدين الذي شوّهوه وصوّروه بأبشع صورة مزعزعين بذلك عقيدة الملايين.

هل يرقى أداء الجالية المسلمة وممثليها في فرنسا إلى مستوى التحديات التي فُرضت عليها في الآونة الأخيرة؟

كما أسلفت، يستطيع كثير من المسلمين الفرنسيين اليوم، عكس آبائهم المهاجرين الأوائل، الدفاع عن حقوقهم سياسياً وإعلامياً وقضائياً بكل فصاحة ومقدرة وجرأة، لكنهم مع هذه الأزمة التي وضعتهم بين نارين، نار الإرهاب من جهة ونار اتهام دينهم وثقافتهم بالوحشية واللا إنسانية من جهة أخرى، لم يعثروا على التعابير المناسبة لتفسير ما يحصل، فهم في حيرة من أمرهم، فمنهم المكذِّب، ومنهم المستنكر، ومنهم المتبرئ، ومنهم من راودته الشكوك في أصول ثقافة آبائه، لكن أغلبهم التزم الصمت آملاً في أن تهدأ نار الأحداث وتتوضح الصورة. كل هذا لانعدام الفكر الديني عند نخبتهم، فالإجراءات السياسية وحدها لا تجدي ما لم تُرافق بشيوع فكر إصلاحي تجديدي مستنير.