الغنوشي في فرنسا والسعودية: ماذا تخفي "الدبلوماسية الشعبية"؟

الغنوشي في فرنسا والسعودية: ماذا تخفي "الدبلوماسية الشعبية"؟

05 يوليو 2016
زيارة الغنوشي باريس تضمنت إشارات هامة (ياسين غيضي/الأناضول)
+ الخط -
جاءت زيارتا رئيس حركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي، إلى باريس ثم إلى السعودية في أقل من أسبوع، لتلقي جملة من الأسئلة حول مضامين الزيارتين ودلالاتهما. وإذ يؤكد الغنوشي نفسه أن زياراته المتلاحقة ولقاءاته بعدد من الزعماء تأتي في إطار ما سمّاه بـ"الدبلوماسية الشعبية"، فإن سلسلة اللقاءات الأخيرة تكشف تطورات هامة تستدعي التوقف عندها. ورغم أن الغنوشي التقى، في الأشهر الأخيرة، عدداً كبيراً من سفراء الدول الكبرى ونواباً ومسؤولين فاعلين في دوائر صنع القرار الدولي، إلا أن زيارة باريس لفتت الأنظار إلى ما تضمنته من إشارات هامة على أكثر من صعيد.

فقد التقى الغنوشي في هذه الزيارة، التي أثارت الكثير من التعليقات عبر وسائل الإعلام في كل من تونس وفرنسا، كلاًّ من وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيرولت، ورئيس البرلمان كلود بارتلون، ورئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه، ورئيسة لجنة العلاقات العامة في البرلمان الفرنسي إليزابيث قيقو، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جان بيار رافاران، ومجموعتي الصداقة التونسية-الفرنسية في البرلمان وفي مجلس الشيوخ، ورئيس معهد العالم العربي، وزير التربية الأسبق جاك لانغ، ومجموعة من القيادات السياسية الأخرى، وعددا من البرلمانيين والفاعلين الاقتصاديين.

وتكشف بعض المصادر الموثوقة لـ"العربي الجديد" عن أن اللقاءات لم تكن مجرد مجاملة وإنما كانت سلسلة اجتماعات جدية، تطرقت لعدد من القضايا الهامة التي تهم علاقات فرنسا بتونس وبالمنطقة ككل. وتشير إلى أن لقاءات الغنوشي بشخصيات مؤثرة من اليمين واليسار، أسقطت بشكل واضح أفكاراً مسبقة فرنسية ومحرمات غربية حول الإسلام السياسي، التونسي بالذات، ووضعت حداً لـ"الريبة والشكوك الفرنسية" تجاه حركة النهضة.

وتؤكد المصادر المطلعة أن هذه الزيارة تأتي ثمرة لعمل طويل استمر سنوات، تغيّر خلالها الموقف الفرنسي بشكل جذري. ففي السابق، كانت فرنسا تمنع الغنوشي من دخول أراضيها. وفي تصريح لرئيس الوزراء، مانويل فالس، حين كان وزيراً للداخلية، تعقيباً على اغتيال الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، شكري بلعيد، في عام 2013، انتقد ما سماه "صعود الفاشية الإسلامية في تونس ومصر". لكن اليوم، تم استقبال الغنوشي رسمياً من قبل وزير الخارجية الفرنسي، في تفويض واضح من الرئيس الاشتراكي، فرانسوا هولاند، على الرغم من أن الأخير لم يلتق بزعيم النهضة شخصياً، علماً بأن هذا اللقاء قد يعقد قريباً إذا أثمرت نتائج هذه الزيارة سريعاً. وتؤكد مصادر لـ"العربي الجديد" أن الإعداد لهذا اللقاء بدأ منذ أواخر سنة 2013، تدريجياً، بين عدد من مسؤولي الصف الثاني في فرنسا، وقيادات "النهضة"، وساهمت فيه أطراف متعددة من بينها قيادات "النهضة" في باريس.


لكن المحركين الرئيسيين للعملية هما السفير الفرنسي في تونس، فرانسوا قويات، وجمعية مدنية مؤثرة جداً في السياسة الخارجية، هي الجمعية الدولية "مبادرات وتغيير"، التي انبثقت عن منظمتي "إعادة التسليح المعنوي" و"مجموعة أكسفورد"، التي تأسست سنة 1938 على يد رجل الدين الأميركي، فرانك بوكمان، عندما كانت أوروبا تستعد للحرب العالمية الثانية، وضمت عدداً من النخب الفكرية والاقتصادية والسياسية بين الدول من أجل إحلال السلام، ثم تغيرت سنة 2001 لتحمل الاسم الجديد، تعويضاً للقديم الذي يثير عدداً من الشكوك، برغم ما ارتبط بها من انتقادات في خصوص قيامها بمحاربة الشيوعية.

لكن المهندس الحقيقي لزيارة الغنوشي إلى باريس هو السفير قويات، الذي بدأت سلسلة لقاءاته مع الغنوشي منذ أواخر عام 2013، إبان الحوار الوطني، ثم تواصلت بعد ذلك ليلتقي الطرفان أكثر مرة. والتقى الغنوشي في شهر مارس/ آذار 2014 مسؤولة العلاقات مع أفريقيا الشمالية في وزارة الخارجية الفرنسية، بينيديكت فييّاردي، التي أعربت عن تقديرها للنموذج التونسي، ولموقف حركة النهضة المتمثل في تفضيلها المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية الضيقة. وفي العام نفسه، شاركت بعض قيادات "النهضة"، من بينها نائب رئيس المجلس التأسيسي، محرزية العبيدي، في ندوة هامة فرنسية-تونسية، في باريس إلى جانب عدد من الأحزاب الأخرى.

وتكشف مصادر "العربي الجديد" عن أن السفير قويات نسج علاقات تقارب مع "النهضة" ومع أحزاب تونسية أخرى، على هامش مشاورات الحوار الوطني، بعد اغتيال الأمين العام لحزب التيار الشعبي، محمد البراهمي، والأزمة السياسية التونسية الخانقة، وساهم في إقناع بعض الأطراف بضرورة "الذهاب إلى الانتخابات وعدم تعطيل المسار بمبادرات قسرية"، بحسب المصادر. ويبدو أن قويات كان قريباً مما تسميه "النهضة" تضحيات من أجل الإنقاذ، وهو ما عاينه ونقله إلى المسؤولين في باريس.

لكن توقيت الزيارة يعكس وفق المصادر نفسها، براغماتية السلطة الفرنسية، وترجيحها لمصالح حيوية في المنطقة على حساب أفكار مسبقة، وخصوصاً أن سلسلة خساراتها الدبلوماسية في المنطقة تعددت في السنوات الأخيرة، في تونس والمغرب وليبيا وتشاد ومالي، بالإضافة إلى الجزائر.

في هذا الصدد، تدرك باريس أن لحركة النهضة ولزعيمها تأثيرات كبيرة في الجزائر بحكم علاقته المتينة جداً بالرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وبعدد من اللاعبين المهمين في السياسة الجزائرية، وفي ليبيا التي يلعب الغنوشي فيها دوراً بارزاً أيضاً، وفي تونس حيث تتزايد متانة حزبه، خصوصاً بعد مؤتمره الأخير، وإعلانه التخلي نهائياً عن العمل الدعوي، وتحوّله إلى حزب سياسي مدني، مما رفع نسبة كبيرة من الحرج العلماني الفرنسي.

ومن باريس، عاد الغنوشي إلى تونس، ومنها إلى المملكة العربية السعودية. تجدر الإشارة إلى أن الغنوشي يحرص دائماً على إحاطة الرئيس، الباجي قائد السبسي، بكل زياراته.

وفي السعودية، استُقبل الغنوشي من قبل العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، في قصر الصفا بمدينة مكة، مساء السبت الماضي، مع الرئيس الأفغاني محمد أشرف غني، ورئيس الغابون علي بونغو أونديمبا، ورئيس الوزراء اللبناني الأسبق، سعد الحريري، ووزير الدفاع الجيبوتي، علي حسن بهدون، والأمين العام لمنظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، محمد باركيندو، مما يعكس بالضرورة مستوى الحظوة التي يلقاها من قادة الرياض.

وأشاد الغنوشي وفق ما نشره على صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك" بالعلاقات السعودية-التونسية، وشكر العاهل السعودي على ما تقدمه الرياض لتونس ولبقية العالم الإسلامي من دعم، بما يخدم المصالح العربية والإسلامية. وعلى الرغم من أن العلاقة أصلاً متينة بين الملك سلمان والغنوشي، حتى قبل أن يتسلم السلطة في السعودية، تساهم هذه الزيارات المتكررة للغنوشي إلى السعودية، في تراكم الخطوات الهادفة إلى الحد من الريبة تجاه الإسلام السياسي التونسي، عربياً ودولياً.