حقائق ومبالغات حول دور الجيش التركي في النظام السياسي

حقائق ومبالغات حول دور الجيش التركي في النظام السياسي

29 يوليو 2016
قام العسكر بدور الوصي على السياسة منذ 1960(سرحات كاكداس/الأناضول)
+ الخط -
أعادت المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا يوم 15 يوليو/تموز الحالي، فتح ملف العلاقة بين المؤسسة العسكرية التركية والنخبة السياسية المدنية، التي مرت خلال ما يقارب 93 عاماً من تأسيس الجمهورية التركية بكثير من المراحل. وتنوّع دور العسكر، خلال هذه الفترة، بين كونهم حماة الجمهورية التي أسسوها، فانقضوا على الحكم في فترات الاضطراب السياسي والاقتصادي عبر سلسلة من الانقلابات، وبين اتخاذهم دور المراقب والوصي على تنفيذ المبادئ الكمالية، سواء عبر الانقلابات البيضاء، أو عبر سلسلة من التشريعات والقوانين التي منحتهم ما يكفي من القوة والاستقلالية لممارسة نفوذ لا يمكن منافسته. لكن في كل الأحوال لم تتدخّل المؤسسة العسكرية لحماية نظام حكم معين أو ساسة بحد ذاتهم. وبقدر ما دفع الشعب ثمناً كبيراً على كل المستويات من تدخّل العسكر في السلطة، إلا أنه لا يمكن إنكار الدور الهام الذي قام به العسكر التركي في إنقاذ ما تبقى من التركة العثمانية وتحديثها.

العهد العثماني

منذ صعود السلطنة العثمانية، كان للعسكر دور أساسي في بنية السلطة، حتى أن الجيش الانكشاري وصل درجة من القوة كان خلالها يخلع خليفة ويقتله ويُنصّب آخر. وعلى عكس الشائع حول أن مصطفى كمال أتاتورك هو الذي قاد عملية التغريب في تركيا وحوّل وجهها نحو أوروبا، فإنه يمكن القول، إن السلطنة العثمانية على مدى تاريخها كله لم تكن إلا قوة أوروبية لها امتدادها ومستعمراتها في المشرق، بل إن أول عمليات التحديث وفق المعايير الأوروبية بدأت في عهد السلطان محمود الثاني (عصر التنظيمات)، مع فرمان حل الانكشارية عام 1826، والذي كان يهدف للحاق بركب التقدّم العسكري الذي حققته القوى الأوروبية المنافسة الأخرى. فكان الجيش أول مؤسسة خضعت لعمليات تحديث وتغريب واسعة عبر بناء الكليات العسكرية الجديدة، لتشكل النخبة العثمانية المطلعة على الإنتاج الثقافي الأوروبي عبر هذه الكليات، الحامل الأكبر لتحديث الدولة العثمانية والتحوّل إلى نظام دستوري برلماني، ولتستولي على السلطة بعد الانقلاب الذي قام به العسكر العثماني عام 1908 على السلطان عبدالحميد الثاني.

العهد الجمهوري
كانت المؤسسة العسكرية الناجي الوحيد من التركة العثمانية بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى، والتي استطاع ضباطها، خلال فترة وجيزة، إعادة لملمة صفوف الجيش وقيادة حرب الإنقاذ التي أدت إلى إعلان الجمهورية التركية عام 1923 في اتفاقية لوزان. وعلى عكس معظم الدول العربية، فقد كانت الدولة من صنع العسكر، ولم يأتِ إنشاء القوات المسلحة في مرحلة لاحقة على إعلان الدولة.
مرت العلاقة بين المدنيين والعسكر في الجمهورية التركية الحديثة بمرحلتين رئيسيتين، الأولى التي عُرفت بالنموذج الشمولي التوليتاري، إذ طبع هذا النموذج الشبيه بالنموذج السوفييتي، العلاقة بين العسكر والدولة منذ 1923 وحتى بداية التعددية الحزبية بعد نهاية الحرب العالمية 1946. فقد كانت السلطة المدنية بقيادة عسكريين سابقين، هما أتاتورك وعصمت إينونو، اللذان قادا البلاد من خلال حزب واحد هو حزب الشعب الجمهوري، فكان الجيش في توافق تام مع أيديولوجية الدولة التغريبية الكمالية التي يُعبّر عنها الحزب الواحد. وعلى الرغم من اعتماد أتاتورك على العسكر لقمع كل الاحتجاجات الواسعة على "إرهاب الدولة" الذي رافق عملية التحديث القاسية التي تعرضت لها البلاد، والذين أطلق عليهم، في وقت لاحق، "الأعداء الداخليين"، وكذلك في تسريع العجلة الاقتصادية، إلا أنه حرص على إبعاد العسكر عن الحياة السياسية اليومية، إذ كانت المادة 148 من قانون العقوبات العسكري تمنع الضباط المتواجدين في الجيش من عضوية أي من الأحزاب السياسية التركية أو المشاركة في نشاطاتها وأعلنت حيادية الجيش التركي. ولكن المادة ذاتها عززت قوة العسكر بجعلهم "المدافعين عن الثورة" ومنحتهم الحق بالتدخّل في الحياة السياسة إن كانت الجمهورية في خطر، وكذلك مُنح العسكر في المادة 34 من قانون الخدمة الداخلية العسكرية الصادر 1935 الحق في الدفاع عن مبادئ الجمهورية وصيانتها من الأعداء الداخليين.
وعلى الرغم من إعلانه قائداً أبدياً للحزب الواحد باسم "القائد القومي" واعتماد تركيا على النموذج السوفييتي في الخطط الخمسية، وإنشاء تعاونيات زراعية، إلا أن خليفة أتاتورك في رئاسة الجمهورية، الضابط السابق، عصمت إينونو، هو الذي قاد البلاد إلى التعددية الحزبية عام 1946، وألغى الخطط الخمسية ولقب قائد الأمة، ليخسر حزبه أمام الحزب الديمقراطي في انتخابات 1950، ويقوم بتسليم هادئ للسلطة لكل من جلال بيار في رئاسة الجمهورية وعدنان مندريس في رئاسة الوزراء، اللذين استمرا في الحكم لما يقارب عشر سنوات حتى وقوع الانقلاب الأول عام 1960.
أما المرحلة الثانية التي مرت بها علاقة العسكر والمدنيين في تركيا، فقد كانت ضمن نموذج وصاية العسكر على الحياة السياسية، إذ بدأ العسكر بممارسته دوراً وصياً على الحياة السياسية التركية بدءاً من انقلاب عام 1960، مستغلاً زيادة التوتر والاستقطاب في المجتمع بين اليمين واليسار أو انتشار أعمال العنف أو الأزمات الاقتصادية الحادة. وتراوح هذا الدور بين التدخّل العنيف على غرار انقلابي 1960 و1980، أو التدخّل الناعم بإصدار مذكرة تهديد بحق الحكومة تدفعها للاستقالة كما في انقلابي 1971 و1997.

انقلاب 1960: أول تدخّل مباشر
كان انقلاب 1960 أول ممارسة فعلية للدور الذي وضعه العسكر لنفسه كحامي لقيم الجمهورية التركية في الديمقراطية والعلمانية، بل وأول تدخّل مباشر للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية منذ تأسيس الجمهورية، بعد ممارسات حكومة، عدنان مندريس، ضد بعض "التحديثات" الكمالية، ليرتفع الاستقطاب في البلاد مرة أخرى مع الكماليين، ويتدخّل الجيش ويتم إعدام مندريس في جزيرة إمرالي (عام 1961) على الرغم من تدخّل عصمت إينونو والرئيس المعيّن من الانقلابيين جمال غورسل، للعفو عنه.


كان هذا الانقلاب بداية التشريع القانوني لدور العسكر في الحكم، إذ وضع للبلاد دستوراً جديداً تضمّن إنشاء محكمة دستورية تحوّلت لما يقارب الخمسين عاماً إلى الأداة الأساسية في يد العسكر لحل أحزاب "الأعداء الداخليين"، المفهوم الذي سيتحوّل إلى ركن أساسي في الانقلابات العسكرية اللاحقة، من أحزاب اليمين الإسلامي والقومي التركي والأحزاب اليسارية التركية والقومية الكردية. وكذلك تم إنشاء برلمان بحجرتين، مجلس نواب ومجلس الشيوخ، لتوزيع السلطة القليلة الممنوحة للنخبة السياسية المدنية، وبينما يتم اختيار 150 من أعضاء مجلس الشيوخ عبر الانتخاب الشعبي، تم اعتبار أعضاء "لجنة الوحدة القومية" أي اللجنة العسكرية التي قادت الانقلاب، "أعضاء طبيعيين" فيه مدى الحياة، كما يختار الرئيس 15 من أعضائه. وبات تعيين قائد أركان الجيش يأتي من رئيس الجمهورية الذي كان اختياره يجب أن يمر بموافقة عسكرية، بل وصل بعد انقلاب 1960 أربعة رؤساء عسكريين إلى الحكم، وهم كل من قائدي هيئة الأركان، جمال غورسل وجودت سوناي، تلاهما في الرئاسة قائد القوات البحرية فخري كوروتورك، ومن ثم كنعان أفرين قائد انقلاب 1980. وتم إنشاء مجلس الأمن القومي المكوّن من غالبية من العسكر، كغطاء للجيش التركي لممارسة نفوذه تحت مظلة الحكومة، إذ بدأ مجلس الأمن القومي إصدار ما يطلق عليه الكتاب الأحمر الذي كان من أكثر وثائق الدولة سرية ويحتوي قائمة بالمنظمات التي تُشكّل خطراً على الأمن القومي. وبات القضاء العسكري منفصلاً بشكل كامل عن القضاء المدني، وضمنت القوانين للجيش الاستقلالية الاقتصادية، فباتت ميزانية نفقات الجيش التركي سرية لا يسمح للمدنيين بالاطلاع عليها.

انقلاب 1971: تدخّل ناعم
استغل الجيش أحداث العنف التي انتشرت في البلاد في نهاية الستينيات بين التنظيمات اليسارية الشبابية وتلك اليمينية وما رافقها من أزمة اقتصادية بالغة أدت إلى فقدان الليرة التركية لأكثر من 65 في المائة من قيمتها، ومن ثم اندلاع تظاهرات عمالية واسعة بسبب قانون النقابات الذي تم تمريره في البرلمان بالتعاون مع حزب الشعب الجمهوري، والذي حد كثيراً من حرية العمل النقابي، فقامت قيادة الأركان بإصدار بيان أُطلق عليه بيان 12 مارس/آذار، طالبت فيه بتشكيل حكومة بيروقراط غير حزبية، لتستجيب حكومة حزب العدالة (وريث حزب مندريس) برئاسة سليمان دميريل بتقديم استقالتها، وبالتالي لم يتم وقف الدستور أو حل البرلمان.

انقلاب 1980 الدموي

عاد الجيش التركي للتدخّل مرة أخرى ضد الحكومة بعد انتشار حالة من الاضطراب وأعمال العنف مرة أخرى بين التيارات اليسارية التركية وتلك اليمينية القومية، فتوسعت عمليات الاغتيال، وأبلغ الجيش التركي بقيادة رئيس الأركان، كنعان أفرين، قيادات الأحزاب التركية الرئيسية باستيلاء المؤسسة العسكرية على السلطة، وحل البرلمان، ووقف العمل بالدستور، وإعلان الأحكام العرفية وإغلاق الصحف، ومنع حرية التعبير. وشهدت تركيا حينها اعتقال أكثر من 600 ألف شخص، واختفاء الآلاف في السجون وتحت التعذيب. ولم تستثنِ الاعتقالات أياً من الأحزاب والتيارات السياسية سواء اليمينية أو اليسارية، كما تم منع كل القيادات السياسية التي كانت متواجدة من العمل السياسي، ليتم في ما بعد كتابة دستور جديد، صادق عليه الشعب عام 1982. وساهم الدستور الجديد في ترسيخ سلطة العسكر، عبر مجلس الأمن القومي ذي الغالبية العسكرية، الذي باتت قراراته شبه ملزمة للحكومة حتى عام 2003. ووفّر الدستور أيضاً الحصانة القضائية للمجموعة الانقلابية حتى عام 2010 عندما تم تمرير تعديلات دستورية تاريخية باستفتاء شعبي، كما شدد العسكر من قبضتهم على الجامعات والإعلام والصحافة.

انقلاب 1997
يشبه انقلاب 1971، حيث أصدر الجيش التركي حينها، أيضاً، مذكرة تحذير للحكومة الائتلافية بين حزب الرفاه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان (الذي يراه العسكر خطراً على الجمهورية العلمانية) وحزب الطريق القويم بقيادة تانسو جيللر، ليتم حل الحكومة، من دون أن يؤدي ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية.