اضطراب مدني في أميركا: خطوط تماس عرقية

اضطراب مدني في أميركا: خطوط تماس عرقية

18 يوليو 2016
تظاهرات متضامنة مع السود في لوس أنجليس(فريدريك براون/فرانس برس)
+ الخط -
لم يكن الأسبوع الماضي في الولايات المتحدة دامياً بكل المقاييس فحسب، بل كشف مرة أخرى مدى الأحقاد العرقية الدفينة ونواقص التجربة الديمقراطية الأميركية. ساعات قليلة فصلت بين عنصرية مؤسساتية لشرطة لويزيانا ومينيسوتا قتلت عمداً شخصين من المكون الأفريقي الأميركي تبعها انتقام عرقي لرجل أسود ضد ما اعتبره سلطة فرض النظام البيضاء في تكساس.

لا يمكن قراءة أعمال العنف هذه من خارج سياقها التاريخي في العلاقة بين النظام العام الذي تبقى ملامحه بيضاء، والأقلية السوداء التي تعاني من موروثات التهميش الجماعي والفردي الذي اتخذ أشكالاً عدة عبر التاريخ من العبودية إلى الحرمان من أبسط حقوق المواطنة. لا أول رئيس أفريقي أميركي (باراك أوباما) ساعد على مداواة هذا الانقسام العرقي، ولا القوانين التي تراعي مساواة المواطنين حققت قفزة نوعية إلى الأمام. هذا الاضطراب المدني يعيد الولايات المتحدة إلى أجواء رأي عام شبيهة بأحداث ستينات القرن الماضي على الرغم من التقدم الملحوظ الذي شهدته أميركا في هذا الإطار خلال العقود الخمسة الأخيرة.

بعد قتل القس مارتن لوثر كينغ وإقرار قانون الحقوق المدنية، خلال أسبوع، في إبريل/نيسان 1968، دخلت العلاقة بين الأفارقة الأميركيين والحكومة الفيدرالية مرحلة اختبار جديدة لعلّ ذروتها كانت انتخاب باراك أوباما نهاية العام 2008. خلال هذه المواجهة في خمسينات وستينات القرن الماضي، كان هناك خلاف بين القيادات الأفريقية ـ الأميركية حول أفضل وسيلة لنيل الحقوق بين خيار المواجهة الذي مثّله الناشط الحقوقي، السياسي مالكولم أكس، وخيار الاندماج الذي جسده كينغ. خيار الاندماج يبقى دائماً أقوى نتيجة إرث كينغ، لكن عدم ثقة الأفارقة الأميركيين بسلطات فرض القانون من شرطة ونظام جنائي وصل إلى ذروته. وينعكس هذا الأمر في موجات تظاهر شعبية تجتاح الولايات المتحدة هذه الأيام ضد إفراط الشرطة المتكرر في استخدام القوة ضد ذوي البشرة السوداء أكثر من غيرهم.

لعلّ الحادثة الأكثر تأثيراً في وعي الأفارقة الأميركيين، خلال العقد الأخير، هي مقتل المراهق الأسود ترايفون مارتين (17 عاماً) في ولاية فلوريدا عام 2012 على يد جورج زيمرمان، أحد حراس حي سانفورد الذي تطوّع ضمن برنامج مراقبة تحت إشراف الشرطة المحلية. هذه الجريمة التي مرت بدون عقاب هيمنت على الرأي العام الأميركي وساهمت في ولادة حركة "حياة السود تهمّ" التي تقود منذ ذلك الوقت التظاهرات الشعبية ضد عنف الشرطة.

استطلاعات الرأي التي جرت بعد قرار المحكمة تبرئة زيمرمان عكست بداية موجة جديدة من الانقسام العرقي في أميركا، وبعدها كرّت مسبحة الأحداث المتشابهة من فيرغسون في ولاية ميسوري عام 2014 إلى تطورات الأسبوع الماضي. وبحسب استطلاع مشترك نشر، أمس، في صحيفة "نيويورك تايمز"، وشبكة "سي بي أس" الإخبارية، يرى 69 في المائة من الأميركيين أن العلاقات العرقية في الولايات المتحدة سيئة اليوم، وهي النسبة الأعلى منذ مواجهات لوس أنجليس الدامية عام 1992.


عندما تسلّم أوباما سدة الحكم عام 2009 كان هناك مناخ عام إيجابي في الولايات المتحدة، لكن مع نهاية ولايته الأولى بدأت مؤشرات عودة التوتر العرقي. هناك عوامل كثيرة مترابطة قد تشرح هذا الأثر العكسي لأول رئيس أراد أن يمثل أمل الأميركيين بالوحدة، إذ لا شكّ أن استمرار انعدام الفرص الاقتصادية، والتربوية، والاجتماعية أمام شريحة واسعة من الأفارقة الأميركيين هو العامل الرئيسي في استدامة الفصل العنصري الطوعي الذي يساهم في زيادة أعمال العنف. كما أنّ هناك عاملاً آخر يكمن في أنّ السود يشكلون 12 في المائة فقط من الشرطة في كل أنحاء الولايات المتحدة، بحسب وزارة العدل الأميركية. وهذا الأمر لا يساعد على بناء الثقة ولا على تخفيف التوتر في الأحياء الفقيرة. أمّا على المستوى السياسي، فإنّ صعود التيار المحافظ عام 2010 لعب على وتر التشكيك بولاء أوباما الوطني والديني، ما ترك أثراً سلبياً على مجتمع محافظ لم يتحرر بعد بالكامل من عقدة العنصرية.

أوباما تعرض لضغوط الأسبوع الماضي بعدما دان جريمة الشرطة في كل من لويزيانا ومينيسوتا، فاعتبرت شخصيات يمينية أنه ساهم في تعزيز النظرة المعادية للشرطة. أما مجموعات الجيل الجديد من السود الذين يفضلون خيار المواجهة، فهم ينظرون إلى أوباما على أنه جزء من النظام، وبالتالي عليهم تحمّل المسؤولية بأنفسهم. قاتل الشرطة في دالاس، ميكا جونسون، تصرّف من تلقاء نفسه لكنه تقاطع على موقع "فيسبوك" مع مجموعات متشددة مثل رابطة الدفاع عن الأفارقة الأميركيين التي تأسست بعد تظاهرات فيرغسون عام 2014، ودعت إلى الانتقام من الشرطة قبل ساعات من اعتداء دالاس الأخير.

قدرة البيت الأبيض محدودة على التأثير في هذه الأحداث وتقتصر على تحريك وزارة العدل للتدخل إذا ثبت أن هناك "جرماً عنصرياً"، بحسب القانون الفيدرالي. لكن الدستور الأميركي يحد من قدرة الحكومة الفيدرالية على التدخل في صلاحيات الولايات. أوباما حاول في خطاب تأبين ضحايا شرطة دالاس التوازن بين هذا الانقسام العرقي، داعياً إلى تفهم موقف السود الذين يتعرضون لانتهاك مستمر لحقوقهم وإلى تفهم أن الشرطة تعمل في ظروف صعبة، وإنّها مثل أي مؤسسة أخرى ترتكب الأخطاء أحياناً.

وحضّ أوباما الأميركيين في الولايات المتحدة على "رفض اليأس"، قائلاً، إن "على الأميركيين أن يحاولوا إيجاد بعض المعنى وسط حزننا، وهذا ما يمكن أن يوحدهم". وأضاف أن الأميركيين يكافحون لمواجهة ما حدث، الأسبوع الماضي، ويبدو أن الأحداث قد كشفت عن "أعمق خط تصدع في ديمقراطيتنا". وتابع خطابه قائلاً، "أنا هنا لأقول إننا يجب أن نرفض مثل هذا اليأس. أنا هنا لأؤكد أننا لسنا منقسمين كما نبدو".

لكن على الرغم من الوحدة التي أظهرها الجمهوريون والديمقراطيون في دالاس، فإنّ هذا الانقسام يتعمّق يوماً بعد يوم. ملكة جمال ولاية ألاباما السابقة، كالين جيمس، نشرت فيديو أثار جدلاً واسعاً وصفت فيه قاتل شرطة دالاس بأنه "شهيد"، مشيرة إلى أنها لا تستغرب بأنه قام بهذا العمل نتيجة الأجواء المشحونة في البلاد. حجة المحافظين المضادة تستند إلى قاعدة بيانات أعدتها صحيفة "واشنطن بوست" تشير إلى مقتل 1,502 شخص على يد الشرطة منذ بداية العام 2015، من بينهم 732 أبيضاً، و381 أسوداً. لكن الصحيفة لفتت إلى أن هذه الأرقام لا تتناسب مع الواقع السكاني بأن السود يشكلون 12 في المائة فقط من الأميركيين.

لكل حدث مرتبط بالانقسام العرقي انعكاس على المشهد السياسي الأميركي. الأحداث الناجمة عن العنف الذي تمارسه الشرطة ضد الأفارقة الأميركيين تُربك عادة الجمهوريين لأنها تضع النقاش في خانة الحريات العامة بينما العنف بحق الشرطة يُربك الديمقراطيين لأنه يضع النقاش في خانة الحفاظ على النظام. غير أن الاتجاهات المتسارعة لأعمال العنف والتظاهرات هذه الأيام لا تفرض فقط إيقاعاً جديداً على الانتخابات الرئاسية بعد أربعة أشهر بل تشير أيضاً إلى أن أميركا تسير في المدى المنظور نحو تأزم في علاقاتها العرقية.